الاعتصام بالكتاب والسنة وأثره في دفع الفتن ( 2 - 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مِن نُصُوصِ الوَحيَينِ في الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ:

 الاعتِصَامُ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ في القُرآنِ الكَرِيمِ:

 *قَالَ اللهُ - تعالى -: [وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجرَ المُصلِحِينَ] [سورة الأعراف، الآية 170].

أَي الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِالوَحِي الَّذِي جَاءَهُم مِنَ اللهِ - تعالى -إِيمَاناً وَتَصدِيقاً بِهِ، وَتَمَسٌّكاً وَعَمَلاً بِهِ، فَهَؤُلاَءِ هُمُ المُتَمَسِّكُونَ حَقاً بِمَا أَرَادَ اللهُ مِنهُم، المُعتَصِمُونَ بِوَحي رَبِّهِم، العَامِلُونَ بِمَا اعتَصَمُوا بِهِ، وَمِن أَبرَزِهِ: إِقَامَةُ الصَّلاَةِ، فَهَؤُلاَءِ صَالِحُونَ في نِيَّاتِهِم وَأَقوَالِهِم وَأَفعَالِهِم، مُصلِحُونَ بِدَعوَتِهِم غَيرَهُم إِلَى الحَقِّ الَّذِي اعتَصَمُوا بِهِ.

وَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الاعتِصَامَ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ صَلاَحٌ لِلبِلاَدِ وَالعِبَادِ، وَأَنَّ تَركَ ذَلِكَ أَشَدٌّ أَنوَاعِ الفَسَادِ.

*وَقَالَ - تعالى -: [فَاستَمسِك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,] [سورة الزخرف، الآية 43].

فَهَذَا أَمرٌ مِنَ اللهِ - تعالى -لِنَبِيّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَن يَعتَصِمَ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللهِ - تعالى -، وَأَن يُوقِنَ أَنَّهُ حَقُّ لاَ بَاطِلَ فِيهِ، وَصِدقٌ لاَ كَذِبَ فِيهِ، وَيَقِينٌ لاَ شَكَّ يَعتَرِيهِ، وَهُدَىً لاَ ضَلاَلَ فِيهِ، وَعَدلٌ لاَ جَورَ فِيهِ. وَالعِلمُ بِخَصَائِصِ مَا نَزَلَ مِنَ الوَحي يَجعَلُ العَبدَ يَزدَادُ في تَمَسٌّكِهِ وَاعتِصَامِهِº لأَنَّ اعتِصَامَهُ حِينَئِذٍ, يَكُونُ اعتِصَاماً عَلَى هُدَىً وَبَصِيرَةٍ,.

وَمِمَّا وَرَدَ أَيضاً:

*قَولُ اللهِ - تعالى -: [قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدَىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ] [سورة البقرة، الآيتان 38و39].

فَرَتَّبَ - تعالى -عَلَى الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ أَربَعَةَ أُمُورٍ,º وَهِيَ:

 1-نَفيُ الخَوفِ: وَهُوَ تَرَقٌّبُ وُقُوعِ المَكرُوهِ، وَالتَّحَسٌّسُ مِن كُلِّ مَا يُثِيرُ ذِكرَهُ في نَفسِ المُتَرَقِّبِ.

 2-نَفيُ الحُزنِ: وَهُوَ آثَارُ وُقُوعِ المَكرُوهِ، وَآثَارُ طُولِ انتِظَارِ وُقُوعِهِ.

 3-إِثبَاتُ الهُدَى: بِاتِّبَاعِ الحَبلِ المَعصُومِº وَهُوَ الكِتَابُ وَالسٌّنَّةُ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُمَا فَغَيُّ وَضَلاَلٌ وَتِيهٌ.

 4-إِثبَاتُ السَّعَادَةِ: وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعتَصَمَ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ اعتَصَمَ بِعَظِيمٍ,، وَتَمَسَّكَ بِحَبلِ اللهِ المَتِينِ، فَيَحصُلُ لَهُ مِنَ الأَمنِ وَالطٌّمَأنِينَةِ مَا يَجعَلُهُ يَعِيشُ في سَعَادَةٍ, لاَ يَشعُرُ بِقَدرِهَا إِلاَّ مَن عَاشَ مَرَارَةَ فَقدِهَا.

 وَرَتَّبَ - تعالى -ذِكرُهُ في هَاتَينِ الآيَتَينِ عَلَى تَركِ الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ أَربَعَةَ أُمُورٍ, أُخَرَ تُضَادٌّ مَا سَبَقَ ذِكرُهُº وَهِيَ:

 1-وُقُوعُ الخَوفِ وَسَيطَرَتُهُ عَلَى قَلبِ صَاحِبِهِ، فَلاَ يَعرِفُ قُوَّةَ القَلبِ وَطُمَأنِينَتَهُ.

 2-وُقُوعُ الحُزنِ في قَلبِ صَاحِبِهِ، فَهُوَ دَائِماً في تَرَقٌّبٍ, وَقَلَقٍ, وَتَوَجٌّسٍ,.

 3-وَنَفيُ الهُدَى: حِينَ لاَ يَكُونُ لِلإِنسَانِ عَاصِمٌ يَعصِمُهُ مِنَ الضَّلاَلِ، فَتَرَاهُ تَابِعاً كُلَّ نَاعِقٍ,، مُتَأَثِّراً بِكُلِّ ضَلاَلَةٍ,، لاَ يَستَقِرٌّ عَلَى أَمرِ رُشدٍ, إِلاَّ وَيَترُكُهُ إِلَى غَيرِهِ مِن سُبُلِ الغِوَايَةِ.

فَعَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ, - رضي الله عنه -، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطّاً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُستَقِيماً، قَالَ: ثُمَّ خَطَّ عَن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ السٌّبُلُ، وَلَيسَ مِنهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيهِ شَيطَانٌ يَدعُو إِلَيهِ، ثُمَّ قَرَأَ [وَإِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السٌّبُلَ] [سورة الأنعام، الآية 153].

[رواه الإمام أحمد1/435، وسعيد بن منصور 5/112، والدارمي 1/78، والبزار 5/131، والنسائي في السنن الكبرى 6/343، والشاشي 2/48، وابن حبان 1/181، والحاكم 2/261و348، وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه].

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنَ الحَورِ بَعدَ الكَونِ.

[رواه مسلم: كتاب الدعوات/باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره 2/979].

4-وَنَفيُ السَّعَادَةِ: وَذَلِكَ أَنَّ السَّعَادَةَ لاَ تُطلَبُ إِلاَّ مِمَّن خَلَقَهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسهِيلِ أَمرِهَا، وَالتَّعَلٌّقُ بِالعَظِيمِ القَدِيرِ المُهَيمِنِ، يُورِثُ في النَّفسِ طُمَأّنِينَةً وَفَرَحاً بِاللهِ وَبِدِينِ اللهِ، وَهَذَا أَعظَمُ أَنوَاعِ السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ، الَّتِي عَبَّرَ عَنهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ الفَقِيرُ الزَّاهِدُ المُسَافِرُ الَّذِي حَمَلَ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَد لَبِسَ إِزَاراً وَرِدَاءً مُرَقَّعَينِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ تَحتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ,، جَلَسَ تَحتَهَا، وَحَلَّ مِندِيلاً فِيهِ مِلحٌ خَشِنٌ وَكِسرَةُ خُبزِ شَعِيرٍ, يَابِسٍ,، وَأَكَلَ وَحَمِدَ اللهَ - تعالى -، فَقِيلَ لَهُ: كَيفَ أَنتَ؟ قَالَ: أَنَا في نِعمَةٍ, لَو عَلِمَت بِهَا مُلُوكُ فَارِسَ وَالرٌّومِ لَجَالَدَتنِي عَلَيهَا بِالسِّيُوفِ!

*وَقَولُ اللهِ - تعالى -: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُم مِّن رَّبِّكُم وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَولِيَآءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ] [سورة الأعراف، الآية 3].

أَي اتَّبِعُوا الوَحيَ الَّذِي أَنزَلتُهُ عَلَيكُم وَتَمَسَّكُوا بِهِ وَاعتَصِمُوا بِهِ، وَلاَ تَتَّبِعُوا غَيرَهُ مِن أَهلِ الأَهوَاءِ وَالانحِرَافِ، وَلَو تَذَكَّرتُم لَعَرَفتُم أَنَّ اتِّبَاعَكُم لِهَؤُلاَءِ الأَولِيَاءِ لَيسَ في مَصلَحَتِكُم، بَل مَصلَحَتُكُم الدِّينِيَّةِ وَالدٌّنيَوِيَّةِ تَكمُنُ في اتِّبَاعِ وَحي اللهِ - تعالى - المُنَزَّلِ.

*أَمَّا الاعتِصَامُ بِالسٌّنَّةِ فَهُوَ قَرِينُ الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ، وَاللهَ - تعالى -جَعَلَ وَحيَهُ في كِتَابِهِ وَفي سُنَّةِ نَبِيّهِ - صلى الله عليه وسلم -º لِذَلِكَ جَاءَتِ النٌّصُوصُ تَترَى في الكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ تَأمُرُ بِالتَّمَسٌّكِ بِالسٌّنَّةِ المُطَهَّرَةِ كَمَا تَأمُرُ بِالتَّمَسٌّكِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ.

وَذَلِكَ أَنَّ السٌّنَّةَ:

 1-مُبَيّنَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ.

 2-وَالسٌّنَّةُ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجمِلَ في القُرآنِ الكَرِيمِ.

قَالَ اللهُ - تعالى -:[وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا] [سورة الحشر، الآية 7].

وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ, - رضي الله عنه -، قَالَ: لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُتَوَشِّمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلحُسنِ المُغَيّرَاتِ خَلقَ اللهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امرَأَةً مِن بَنِي أَسَدٍ, يُقَالُ لَهَا: أُمٌّ يَعقُوبَ، فَأَتَتهُ فَقَالَت: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَنِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنتَ المُتَفَلِّجَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَوَشِّمَاتِ، فَقَالَ: أَلاَ أَلعَنُ مَن لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَت: قَد قَرَأتُ مَا بَينَ اللَّوحَينِ فَمَا وَجَدتُ مَا قُلتَ، قَالَ: لَئِن كُنتِ قَرَأتِ مَا بَينَ اللَّوحَينِ، إِنَّهُ لَفِي كِتَابِ اللهِ، مَا وَجَدتِ [وَمَا آتَاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا] فَقَالَت: إِنِّي لأُرَاهُ فِي بَعضِ أَهلِكَ، قَالَ: اذهَبِي فَانظُرِي، فَإِن كَانُوا يَفعَلُونَ لاَ يَبِيتُونَ عِندِي لَيلَةً! قَالَ: فَذَهَبَت فَنَظَرَت، ثُمَّ جَاءَت، فَقَالَت: مَا رَأَيتُ شَيئاً، مَا رَأَيتُ شَيئاً، فَقَالَ عَبدُ اللهِ: لَو كَانَ لَهَا مَا جَامَعنَاهَا. [رواه الإمام أحمد 1/433، والطبراني في الكبير 9/291، والشاشي 1/339].

*وَقَالَ - تعالى -: [قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِّبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُل أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبٌّ الكَافِرِينَ] [سورة آل عمران، الآيتان 31و32].

وَهَذِهِ الآيَةُ مِيزَانُ مَحَبَّةِ اللهِ - تعالى -وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ, - صلى الله عليه وسلم -، فَمَن كَانَ مُحِبّاً للهِ - تعالى -مُحِبّاً لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ دَلِيلَ صِدقِهِ: اتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلاَ سَبِيلَ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ إِلاَّ بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ، بِامتِثَالِ أَمرِهِ وَاجتِنَابِ نَهيِهِ، فَمَن كَانَ كَذَلِكَ غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَسَتَرَ عُيُوبَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَعَلَى مَقَامَهُ، وَمَن لاَ فَلاَ، الكُلٌّ بِالكُلِّ وَالحِصَّةُ بِالحِصَّةِ.

وَحَقِيقَةُ هَذَا الاتِّبَاعِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ - تعالى -بِهِ هُنَاº هُوَ: إِطَاعَةُ اللهِ - تعالى -وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِº لِذَلِكَ قَالَ: قُل أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولِ، وَمَن تَرَكَ طَاعَةَ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ الكَافِرُ الَّذِي لاَ يُحِبٌّهُ اللهُ تَعَالَىº لِذَلِكَ خَتَمَ الآيَةَ بِقَولِهِ: فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبٌّ الكَافِرِينَ.

وَفي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرٌ في هَذَا البَابِº وَمِنهُ:

 *عَن المِقدَامِ بنِ مَعدِي كَرِبَ - رضي الله عنه - قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَومَ خَيبَرَ أَشيَاءَ، ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثلَهُ مَعَهُ، أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ، لاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنثَنِي شَبعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ [يُكَذِّبُنِي] يَقُولُ: عَلَيكُم بِالقُرآنِ فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَلاَلٍ, فَأَحِلٌّوهُ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ, فَحَرِّمُوهُ، أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثلُ مَا حَرَّمَ اللهُ)).

[رواه الإمام أحمد 4/132، وأبو داود: كتاب السنة/باب في لزوم السنة، وابن ماجه: المقدمة/باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والدارمي 1/153، وابن حبان 1/188، والطبراني في الكبير20/274، والدارقطني 4/287، والترمذي: كتاب العلم/باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: حديث حسن غريب].

قَالَ السِّندِيٌّ - رحمه الله -: هَذَا بَيَانٌ لِبَلاَدَتِهِ وَسُوءِ فَهمِهِ، أَي حَمَاقَتُهُ وَسُوءُ أَدَبِهِ كَمَا هُوَ دَأبُ المُتَنَعِّمِينَ المَغرُورِينَ بِالمَالِ وَالجَاه.

وَقَالَ: أَي أَلاَ إِنَّ مَا فِي القُرآن حَقّ وَأَنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثلُ مَا حَرَّمَ الله، أَي عَطف فِي القُرآنِ وَإِلاَّ فَمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ عَينُ مَا حَرَّمَ اللهُ فَإِنَّ التَّحرِيمَ يُضَافُ إِلَى الرَّسُولِ بِاعتِبَارِ التَّبلِيغِ وَإِلاَّ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ للهِ وَالمُرَادُ أَنَّهُ مِثلُهُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَلُزُومِ العَمَلِ بِهِ، قَالَ الخَطَّابِيٌّ: يُحَذِّرُ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ السٌّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَيسَ لَهُ فِي القُرآنِ ذِكرٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيهِ الخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ، فَإِنَّهُم تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ القُرآنِ وَتَرَكُوا الَّتِي قَد ضُمِّنَت بَيَان الكِتَابِ فَتَحَيَّرُوا وَضَلٌّوا، قَالَ: وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَاجَةَ بِالحَدِيثِ أَن يُعرَضَ عَلَى الكِتَابِ وَأَنَّهُ مَهمَا ثَبَتَ عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ حُجَّةً بِنَفسِهِ.

وَقَالَ الطِّيبِيٌّ - رحمه الله -: فِي تَكرِيرِ كَلِمَةِ التَّنبِيهِ تَوبِيخٌ وَتَقرِيعٌ نَشَأَ مِن غَضَبٍ, عَظِيمٍ, عَلَى مَن تَرَكَ السٌّنَّةَ وَالعَمَلَ بِالحَدِيثِ اِستِغنَاءً بِالكِتَابِ، فَكَيفَ بِمَن رَجَّحَ الرَّأيَ عَلَى الحَدِيث.

*وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: ((مَن أَطَاعَنِي فَقَد أَطَاعَ اللهَ وَمَن عَصَانِي فَقَد عَصَى اللهَ وَمَن أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَد أَطَاعَنِي وَمَن عَصَى أَمِيرِي فَقَد عَصَانِي)).

[متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير/باب يقاتل من وراء الإمام، ومسلم: كتاب الإمارة/باب وجوب طاعة الأمراء].

قَالَ النَّوَويٌّ - رحمه الله -: لأَنَّ اللهَ - تعالى -أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - بِطَاعَةِ الأَمِير، فَتَلاَزَمَت الطَّاعَة.

*وَعَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((عَلَيكَ السَّمعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسرِكَ وَيُسرِكَ وَمَنشَطِكَ وَمَكرَهِكَ وَأَثَرَةٍ, عَلَيكَ)). [رواه مسلم: كتاب الإمارة/باب وجوب طاعة الأمراء].

*وَعَن العِربَاضِ بنِ سَارِيَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوماً بَعدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَت مِنهَا العُيُونُ وَوَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ,، فَمَاذَا تَعهَدُ إِلَينَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((أُوصِيكُم بِتَقوَى اللهِ وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِن عَبدٌ حَبَشِيُّ، فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم يَرَى اختِلاَفاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ, بِدعَةٌ وَكُلَّ بِدعَةٍ, ضَلاَلَةٌ، فَمَن أَدرَكَ ذَلِكَ مِنكُم فَعَلَيهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضٌّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ)).

[رواه الإمام أحمد 4/126، وأبو داود: كتاب العلم/باب لزوم السنة، وابن ماجه: المقدمة/باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، والدارمي: المقدمة/باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، وابن حبان 1/178، والطبراني في الكبير 18/245، والحاكم 1/175، والترمذي: كتاب العلم/باب ما جاء في الأخذ بالسنة، وقال: حديث حسن صحيح، ].

قَولُهُ: (فَمَاذَا تَعهَدُ إِلَينَا) أَي فَبِأَيِّ شَيءٍ, تُوصِينَا.

(وَإِن عَبدٌ حَبَشِيُّ) أَي وَإِن تَأَمَّرَ عَلَيكُم عَبدٌ حَبَشِيُّ، أَي صَارَ أَمِيراً أَدنَى الخَلقِ فَلاَ تَستَنكِفُوا عَن طَاعَتِهِ، أَو لَو اِستَولَى عَلَيكُم عَبدٌ حَبَشِيُّ فَأَطِيعُوهُ مَخَافَةَ إِثَارَةِ الفِتَن.

قَالَ الحَافِظُ اِبنُ رَجَب- رحمه الله -: فِيهِ تَحذِيرٌ لِلأُمَّةِ مِن اِتِّبَاعِ الأُمُورِ المُحدَثَةِ المُبتَدَعَةِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَولِهِ: كُلَّ بِدعَةٍ, ضَلاَلَةٌ، وَالمُرَادُ بِالبِدعَةِ مَا أُحدِثَ مِمَّا لاَ أَصلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ يَدُلٌّ عَلَيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصلٌ مِن الشَّرعِ يَدُلٌّ عَلَيهِ فَلَيسَ بِبِدعَةٍ, شَرعاً وَإِن كَانَ بِدعَةً لُغَةً، فَقَولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلَّ بِدعَةٍ, ضَلاَلَةٌ)) مِن جَوَامِعِ الكَلِمِ لاَ يَخرُجُ عَنهُ شَيءٌ، وَهُوَ أَصلٌ عَظِيمٌ مِن أُصُولِ الدِّين.

(فَمَن أَدرَكَ ذَلِكَ) أَي زَمَنَ الاختِلاَفِ الكَثِيرِ.

(فَعَلَيهِ بِسُنَّتِي) أَي فَليَلزَم سُنَّتِي وليتمسك بها ويعتصم.

(وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ) فَإِنَّهُم لَم يَعمَلُوا إِلاَّ بِسُنَّتِي فَالإِضَافَةُ إِلَيهِم إِمَّا لِعَمَلِهِم بِهَا، أَو لاستِنبَاطِهِم وَاختِيَارِهِم إِيَّاهَا.

وَقَالَ الشَّوكَانِيٌّ - رحمه الله -: السٌّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَلزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَد كَانَت طَرِيقَتُهُم هِيَ نَفسُ طَرِيقَتِهِ، فَإِنَّهُم أَشَدٌّ النَّاسِ حِرصاً عَلَيهَا وَعَمَلاً بِهَا فِي كُلِّ شَيءٍ,. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ, كَانُوا يَتَوَقَّونَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصغَرِ الأُمُورِ فَضلاَ عَن أَكبَرِهَا. وَكَانُوا إِذَا أَعوَزَهُم الدَّلِيلُ مِن كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمِلُوا بِمَا يَظهَرُ لَهُم مِن الرَّأيِ بَعدَ البَحثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبٌّرِ، وَهَذَا الرَّأيُ عِندَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيضاً مِن سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ, لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بِمَا تَقضِي؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ. قَالَ: فَإِن لَم تَجِد؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ. قَالَ: فَإِن لَم تَجِد؟ قَالَ: أَجتَهِدُ رَأيِي. قَالَ: الحَمدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ.

فَأَقَلٌّ فَوَائِدِ الحَدِيثِ: أَنَّ مَا يَصدُرُ عَنهُم مِن الرَّأيِ، وَإِن كَانَ مِن سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَولَى مِن رَأيِ غَيرِهِم عِندَ عَدَمِ الدَّلِيلِ. وَبِالجُملَةِ فَكَثِيراً مَا كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُنسَبُ الفِعلُ أَو التَّركُ إِلَيهِ أَو إِلَى أَصحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لاَ فَائِدَةَ لِنِسبَتِهِ إِلَى غَيرِهِ مَعَ نِسبَتِهِ إِلَيهِ لأَنَّهُ مَحَلٌّ القُدوَةِ وَمَكَانُ الأُسوَة.

(عَضٌّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ) جَمعُ نَاجِذَةٍ, بِالذَّالِ المُعجَمَةِ وَهِيَ الضِّرسُ الأَخِيرُ، وَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَقِيلَ هُوَ النَّابُ.

 وَالعَضٌّ كِنَايَةٌ عَن شِدَّةِ مُلاَزَمَةِ السٌّنَّةِ وَالتَّمَسٌّكِ بِهَا فَإِنَّ مَن أَرَادَ أَن يَأخُذَ شَيئاً أَخذاً شَدِيداً يَأخُذُ بِأَسنَانِهِ، أَو المُحَافَظَةِ عَلَى الوَصِيَّةِ بِالصَّبرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ كَمَن أَصَابَهُ أَلَمٌ لاَ يُرِيدُ أَن يُظهِرَهُ فَيَشتَدٌّ بِأَسنَانِهِ بَعضِهَا عَلَى بَعض.

 *وَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ لِلرٌّكنِ: أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَعلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرٌّ وَلاَ تَنفَعُ، وَلَولاَ أَنِّي رَأَيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَلَمَكَ مَا استَلَمتُكَ، فَاستَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ، إِنَّمَا كُنَّا رَاءَينَا بِهِ المُشرِكِينَ وَقَد أَهلَكَهُم اللهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيءٌ صَنَعَهُ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ نُحِبٌّ أَن نَترُكَه.

[متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الحج/باب الرمل في الحج والعمرة، ومسلم: كتاب الحج/باب منه].

 *وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((لاَ تَمنَعُوا نِسَاءَكُم المَسَاجِدَ إِذَا استَأذَنَّكُم إِلَيهَا))، قَالَ: فَقَالَ بِلاَلُ بنُ عَبدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمنَعُهُنَّ! قَالَ: فَأَقبَلَ عَلَيهِ عَبدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبّاً سَيِّئاً مَا سَمِعتُهُ سَبَّهُ مِثلَهُ قَطٌّ، [وَضَرَبَ فِي صَدرِهِ]، وَقَالَ: أُخبِرُكَ عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمنَعُهُنَّ.

[متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الأذان/باب، ومسلم: كتاب الصلاة/باب خروج النساء إلى المساجد].

قَالَ النَّوَويٌّ - رحمه الله -: فِيهِ تَعزِيرُ المُعتَرِضِ عَلَى السٌّنَّةِ، وَالمُعَارِضِ لَهَا بِرَأيِهِ، وَفِيهِ تَعزِيرُ الوَالِدِ وَلَدَهُ وَإِن كَانَ كَبِيراً.

*وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ, - رضي الله عنه -، أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَخذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لاَ تَخذِف، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن الخَذفِ، أَو كَانَ يَكرَهُ الخَذفَ، وَقَالَ: ((إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيدٌ وَلاَ يُنكَى بِهِ عَدُوُّ، وَلَكِنَّهَا قَد تَكسِرُ السِّنَّ وَتَفقَأُ العَينَ)). ثُمَّ رَآهُ بَعدَ ذَلِكَ يَخذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَن الخَذفِ، أَو كَرِهَ الخَذفَ وَأَنتَ تَخذِفُ؟ لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا.

زَادَ فِي رِوَايَةٍ,: فَأَخَذَ ابنُ عَمٍّ, لَهُ فَقَالَ: عَن هَذَا، وَخَذَفَ، فَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُخبِرُكَ عَن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنهُ وَأَنتَ تَخذِفُ؟ وَاللهِ لاَ أُكَلِّمُكَ عَزمَةً مَا عِشتُ.

[رواه الإمام أحمد 5/56، والحديث متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الذبائح والصيد/باب الخذف والبندقة، ومسلم: كتاب الصيد والذبائح/باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد].

خَذَفتَ الحَصَاةَ: رَمَيتَهَا بَينَ أُصبُعَيكَ، وَقِيلَ: فِي حَصَى الخَذفِ: أَن يَجعَلَ الحَصَاةَ بَينَ السَّبَّابَةِ مِن اليُمنَى وَالإِبهَامِ مِن اليُسرَى ثُمَّ يَقذِفهَا بِالسَّبَّابَةِ مِن اليَمِين.

وَنَكَأََ العَدُوَّ نِكَايَةً أَصَابَ مِنهُ.

 قَالَ ابنُ حَجَرٍ, - رحمه الله -: فِي الحَدِيثِ جَوَازُ هِجرَانِ مَن خَالَفَ السٌّنَّةَ وَتَركِ كَلاَمِهِ، وَلاَ يَدخُلُ ذَلِكَ فِي النَّهي عَن الهَجرِ فَوقَ ثَلاَثٍ,، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَن هَجَرَ لِحَظِّ نَفسِه.

*وَعَن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ, عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ، أَنَّ امرَأَةً مِن أَهلِ اليَمَنِ أَتَت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِنتٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِن ذَهَبٍ,، فَقَالَ لَهَا: ((أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟)) قَالَت: لاَ. قَالَ: ((أَيَسُرٌّكِ أَن يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا يَومَ القِيَامَةِ سِوَارَينِ مِن نَارٍ,؟)) قَالَ: فَخَلَعَتهُمَا فَأَلقَتهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَت: هُمَا للهِ وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.

[رواه أبو داود: كتاب الزكاة/باب الكنز ما هو وزكاة الحلي، والنسائي: كتاب الزكاة/باب زكاة الحلي].

 *وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ, - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى خَاتَماً مِن ذَهَبٍ, فِي يَدِ رَجُلٍ, فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: ((يَعمِدُ أَحَدُكُم إِلَى جَمرَةٍ, مِن نَارٍ, فَيَجعَلُهَا فِي يَدِهِ)) فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: خُذ خَاتِمَكَ انتَفِع بِهِ، قَالَ: لاَ وَاللهِ لاَ آخُذُهُ أَبَداً وَقَد طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. [رواه مسلم: كتاب اللباس والزينة/باب تحريم خاتم الذهب].

قَالَ النَّوَويٌّ - رحمه الله -: فِيهِ المُبَالَغَةُ فِي اِمتِثَالِ أَمرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَاجتِنَابِ نَهيهِ، وَعَدَمُ التَّرَخٌّصِ فِيهِ بِالتَّأوِيلاَتِ الضَّعِيفَةِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنَّمَا تَرَكَ الخَاتَمَ عَلَى سَبِيلِ الإِبَاحَةِ لِمَن أَرَادَ أَخذَهُ مِن الفُقَرَاءِ وَغَيرِهِم، وَحِينَئِذٍ, يَجُوزُ أَخذُهُ لِمَن شَاءَ، فَإِذَا أَخَذَهُ جَازَ تَصَرٌّفُهُ فِيهِ. وَلَو كَانَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ لَم يَحرُم عَلَيهِ الأَخذُ وَالتَّصَرٌّفُ فِيهِ بِالبَيعِ وَغَيرِهِ، وَلَكِن تَوَرَّعَ عَن أَخذِهِ وَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِهِ عَلَى مَن يَحتَاجُ إِلَيهِ; لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يَنهَهُ عَن التَّصَرٌّفِ فِيهِ بِكُلِّ وَجهٍ,، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَن لُبسِهِ، وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ مِن تَصَرٌّفِهِ عَلَى الإِبَاحَة.

*وَعَن جَابِرٍ, - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا استَوَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَومَ الجُمُعَةِ قَالَ: اجلِسُوا، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابنُ مَسعُودٍ, فَجَلَسَ عَلَى بَابِ المَسجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ((تَعَالَ يَا عَبدَ اللهِ بنَ مَسعُود)). [رواه أبو داود: كتاب الصلاة/باب الإمام يكلم الرجل في خطبته، وقال: مرسل].

 *وَعَن أَبِي سَعِيدٍ, الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَينَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِأَصحَابِهِ إِذ خَلَعَ نَعلَيهِ فَوَضَعَهُمَا عَن يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ القَومُ أَلقَوا نِعَالَهُم فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَتَهُ قَالَ: ((مَا حَمَلَكُم عَلَى إِلقَاءِ نِعَالِكُم؟)) قَالُوا: رَأَينَاكَ أَلقَيتَ نَعلَيكَ فَأَلقَينَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ جِبرِيلَ - صلى الله عليه وسلم - أَتَانِي فَأَخبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَراً)) أَو قَالَ: ((أَذىً)) وَقَالَ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُم إِلَى المَسجِدِ فَليَنظُر فَإِن رَأَى فِي نَعلَيهِ قَذَراً، أَو أَذىً فَليَمسَحهُ وَليُصَلِّ فِيهِمَا)).

[رواه الإمام أحمد 3/20، وأبو داود: كتاب الصلاة/باب الصلاة في النعل، والدارمي: كتاب الصلاة/باب الصلاة في النعلين، وابن أبي شيبة 2/181، وعبد بن حميد 1/278، وابن حبان 5/560، والبيهقي 2/431، ].

قَالَ الخَطَّابِيٌّ - رحمه الله -: فِيهِ مِن الفِقهِ: أَنَّ الإتِسَاءَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَفعَالِهِ وَاجِبٌ كَهُوَ فِي أَقوَالِهِ، وَهُوَ أَنَّهُم رَأَوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلَعَ نَعلَيهِ خَلَعُوا نِعَالَهُم.

*وَمِنَ الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ: الاعتِصَامُ بِهِمَا كَمَا كَانَ السَّلَفُ رِضوَانُ اللهِ عَلَيهِم مُعتَصِمُونَ بِهِمَا، لاَ أَن يَكُونَ تَمَسٌّكاً ظَاهِرِيّاً أَجوَفَ يَتَأَثَّرَ بِالظٌّرُوفِ وَالرَّغَبَاتِ وَضُغُوطِ المُجتَمَعَاتِ.

 *قَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إِنَّكُم لَتَعمَلُونَ أَعمَالاً هِيَ أَدَقٌّ فِي أَعيُنِكُم مِن الشَّعَرِ، إِن كُنَّا لَنَعُدٌّهَا عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن المُوبِقَات. يَعنِي المُهلِكَات.

[رواه البخاري: كتاب الرقاق/باب ما يتقى من محقرات الذنوب].

 *وَعَنِ الزٌّهرِيِّ قَالَ: دَخَلتُ عَلَى أَنَسِ بنِ مَالِكٍ, - رضي الله عنه - بِدِمَشقَ وَهُوَ يَبكِي فَقُلتُ: مَا يُبكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعرِفُ شَيئًا مِمَّا أَدرَكتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَد ضُيِّعَت.

[رواه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/باب تضييع الصلاة عن وقتها].

وَالتَّضييّعُ الَّذِي رَآهُ أَنَسٌ - رضي الله عنه - في زَمَنِ الوَلِيدِ هُوَ تَأخِيرُ الصَّلاَةِ عَن وَقتِهَا، وَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ سَأَلُوهُ عَمَّا أَنكَرَ عَلَى أَهلِ المَدِينَةِ في صَلاَتِهِم، قَالَ: مَا أَنكَرتُ شَيئاً إِلاَّ أَنَّكُم لاَ تُقِيمُونَ الصٌّفُوفَ.

*وَعَن عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، قَالَت: لَو أَدرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَحدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَت نِسَاءُ بَنِي إِسرَائِيلَ، قِيلَ لِعَائِشَةَ: أَوَمُنِعنَ؟ قَالَت: نَعَم.

[متفق عليه: صحيح البخاري: كتاب الأذان/باب خروج النساء إلى المساجد، ومسلم: كتاب المساجد/باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية].

 

 4-خَصَائِصُ اعتِصَامِ السَّلَفِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ:

1-مَعرِفَتُهُم بِالتَّنزِيلِ.

2-أَنَّهُم أَعظَمُ النَّاسِ إِيمَاناً.

3-أَنَّهُم أَكثَرُ النَّاسِ تَمَسٌّكاً بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ.

4-أَنَّهُم أَكثَرُ النَّاسِ تَوَرٌّعاً وَبُعداً عَنِ المُتَشَابِهَاتِ.

5-غَلَبَةُ الصَّوَابِ في أَقوَالِهِم إِذَا مَا قِيسَت بِمَن بَعدَهُم.

6-مَعرِفَتُهُم بِالعَرَبِيَّةِ وَفَهمُهُم لِلنٌّصُوصِ.

لِذَلِكَ كَانَ التَّمَسٌّكُ بِهَدي السَّلَفِ وَالسَّيرِ في رِكَابِهِم مِنَ الاعتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ.

وَقَد مَرَّت بِالمُسلِمِينَ عِبرَ تَأرِيخِهُمُ الطَّوِيلِ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ، لَم يَثبُت فِيهَا إِلاَّ أَهلُ العِلمِ الَّذِينَ اعتَصَمُوا بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ عَلَى هُدَىً وَبَصِيرَةٍ,.

وَمِن أَشهَرِ تِلكَ الفِتَنِ: فِتنَةُ المُعتَزِلَةِ، الَّتِي أَرهَقَت المُسلِمِينَ بِسَيفِ سُلطَانٍ, جَائِرٍ,، وَسُلطَانٍ, جَاهِلٍ,، وَوَقَعَ في حَبَائِلِهَا مَن وَقَعَ، وَثَبَتَ مَن أَرَادَ اللهُ بِهِ وَبِالأُمَّةِ مِن وَرَائِهِ خَيراًº وَعَلَى رَأسِهِم: الإِمَامُ المُبَجَّلُ أَحمَدُ بنُ حَنبَلٍ, - رحمه الله - تَعَالَى- حَيثُ وَقَف كَالطَّودِ الشَّامِخِ الَّذِي لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِ رِيَاحُ وَأَعَاصِيرُ التَّغييرِ حَتَّى رَدَّ اللهُ - تعالى -بِهِ المُسلِمِينَ إِلَى دِينِهِم رَدّاً جَمِيلاً.

وَفي القَرنِ الثَّامِنِ كَانَت فِتنَةُ التَّصَوٌّفِ وَعِلمِ الكَلاَمِ قَد أَخَذَت زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا، سَخَّرَ اللهُ شَيخَ الإِسلاَمِ أَبَا العَبَّاسِ ابنَ تَيمِيَّةَ - رحمه الله - تَعَالَى- لِبَيَانِ خَطَرِهَا، وَتَحذِيرِ النَّاسِ شَرَّهَا، وَمُقَارَعَةِ أَربَابِهَا عُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، وَرَدِّ النَّاسِ إِلَى اللهِ - تعالى -، فَعَادَ مَن وَفَّقَهُ اللهُ مِنَ النَّاسِ إِلَى التَّمَسٌّكِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ.

وَفي القَرنِ الثَّانِي عَشَرَ، كَانَت فِتنَةُ القُبُورِ وَالتَّعَلٌّقِ بِالمَقبُورِ قَد شَرَّقَت وَغَرَّبَت، وَأَنجَدَت وَأَسهَلَت، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى عِبَادَةِ الأَحجَارِ وَالقُبُورِ وَالأَشجَارِ، يَحُجٌّونَ إِلَيهَا، وَيَطُوفُونَ بِهَا، وَيَذبَحُونَ لأَصحَابِهَا، وَيَدعُونَهُم لِكَشفِ الكُرُبَاتِ، وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَهَجَرُوا إِخلاَصَ العِبَادَةِ إِلَى رَبِّ الأَرضَ وَالسَّمَاوَاتِ، فَسَخَّرَ اللهُ - تعالى -الإِمَامَ مُحَمَّدَ بنَ عَبدِ الوَهَّابِ، وَآزَرَهُ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ, - رحمهما الله - تَعَالَى- فَرَدَّ اللهُ - تعالى -النَّاسَ بِهِ إِلَى دِينِهِ رَدّاً جَمِيلاً، وَطَهَّرَ الجَزِيرَةَ العَرَبِيَّةَ مِن أَدرَانِ الشِّركِ وَالإِلحَادِ، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى التَّمَسٌّكِ بِالكِتَابِ وَالسٌّنَّةِ.

وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ جَاءَتنَا فِتنَةُ التَّكفِيرِ وَمَا يَلحَقُهَا مِن غَدرٍ, وَخِيَانَةٍ, وَقَتلٍ, وَتَفجِيرٍ,، عَلَى أَيدِي شَبَابٍ, أَغرَارٍ,، وَطَلاَئِعَ أَشرَارٍ,، وَتَوجِيهِ فُجَّارٍ,º لاَ يَعرِفُونَ مِنَ الكِتَابِ إِلاَّ رَسمَهُ، وَلاَ مِنَ السٌّنَّةِ إِلاَّ مَا أَملَى عَلَيهِم مُفتُوهُم المَجَاهِيلُº غَرَّرُوا بِهِم، وَوَعَدُوهُم بِمَعسُولِ القَولِ أَكَاذِيبَ الرِّوَايَاتِ، فَخَرَجُوا يُكَفِّرُونَ المُسلِمِينَ، وَيَفتَئِتُونَ عَلَى إِمَامِهِم، وَيَنقُضُونَ عُهُودَهُم، وَلاَ يُبَالُونَ بِمَن هَلَكَ عَلَى أَيدِيهِم، وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً، وَقِيلَ لَهُم: إِنَّهُ الجِهَادُ الحَقٌّ في سَبِيلِ اللهِ، فَأَخطَأُوا بِجَهلِهِم بِالدِّينِ، وَعَدَمِ اعتِصَامِهِم بِمَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُ المُرسَلِينَ - صلى الله عليه وسلم - فَأَحدَثُوا فِتنَةً عَظِيمَةً، وَأَدخَلُوا المُسلِمِينَ في مَضَايقَ كَانُوا في غِنَىً عَنهَا، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَظِيمِ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply