بسم الله الرحمن الرحيم
تاسعاً: جهالات أخرى:
قد ذكرنا في أثناء حديثنا عن الردة أدلة صحيحة صريحة على أن حد المرتد هو القتل، وبينا بطلان ما ادعاه الكاتب من أنه لا عقوبة على من ارتد عن الإسلام وأن ذلك الأمر متروك لله - سبحانه - يحاسب عليه يوم القيامة.
غير أني بعد الفراغ من كتابة ما سبق قد وقفت لنفس الكاتب على ما أسماه دراسة أصولية تاريخية حول حد الردة، نُشرت في مجلة القاهرة العدد (159) الصادر في فبراير 1996، فلما اطلعت عليها تيقنت من جرأة ذلك الرجل على شرع الله - عز وجل - بالإضافة إلى جهله بكثير من المسائل التي يتجرأ على الخوض فيها.
ولست هنا في مجال تفنيد ما ورد في تلك الدراسة، ولكني أشير فقط إلى شيء يسير مما ورد فيها يبين صحة ما أقول.
فهو على سبيل المثال يتعرض لحديثين من الأحاديث التي جاء فيها النص على قتل المرتد وهما حديث ابن عباس (من بدل دينه فاقتلوه)، وحديث ابن مسعود (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث..)، ويرد الكاتب هذين الحديثين بأدلة واهية عجيبة.
1 - فمما ذكره في ذلك أنه يتهم الأوزاعي - رحمه الله - بأنه هو الذي اخترع حديث (لا يحل دم امرئ مسلم..)، هذا مع أن سند الحديث عند البخاري ومسلم وغيره ليس فيه ذكر للأوزاعي، ولكنه يستدل على مقولته تلك بما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية من أنه لما دخل الأوزاعي على عبد الله بن علي عم السفاح، سأله عبد الله عدة أسئلة منها السؤال عن دماء بني أمية؟ فقال له الأوزاعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث.. \" الحديث.
واستدلال الكاتب بـهذا الموقف استدلال باطل لا يحتاج إلى رد، فهل يكفي استشهاد رجل بحديث في موقف على أنه وضعه واخترعه؟!.
يقول الكاتب: إن الأوزاعي اخترع هذا الحديث لكي يرضي بني العباس ويسوغ لـهم ما كانوا يفعلونه من قتل الأمويين.
وادعاء الكاتب هنا من أبطل الباطل فإن سياق القصة كما أورده ابن كثير[1] يدل على أن الأوزاعي يريد أن ينكر عليه قتل الناس بغير حق كأنه يقول له: إن كان في بني أمية من فعل شيئاً من هذه الثلاثة فاقتلوه، وإلا فلا يحل لكم سفك دمائهم، وهو يعلم أن بني العباس لم يكونوا يكفرون بني أمية، بدليل أن أول سؤال وجهه له عبد الله بن علي هو: \"ما ترى في ما صنعنا من إزالة أولئك الظلمة عن العباد والبلاد\"، فسماهم ظلمة ولم يجرؤ على أن يقول أولئك الكفرة، فهذا موقف يحسب للأوزاعي لا عليه، ومما يقوي ذلك أيضاً أنه سأله بعد ذلك عن أموال بني أمية، فقال له الأوزاعي: \"إن كانت في أيديهم حراماً فهي حرام عليك أيضاً، وإن كانت لـهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي\".
فإذا كان الأوزاعي لم يحل له أموالـهم بغير حق أفيخترع له حديثاً يحل له به دماءهم؟! سبحانك هذا بـهتان عظيم.
والقصة التي ذكرها ابن كثير ذكرها شيخه الذهبي بسنده في تذكرة الحفاظ بسياق أكثر بياناً لما ذكرناه من سياق ابن كثير، إذ جاء فيها أن عبد الله سأله عن دماء بني أمية فقال له: \"قد كان بينك وبينهم عهود، وكان يجب أن تفوا بـها، قال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه فقال لي: ويحك ولم؟ قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه.. \" [2].
وإذن فقد اتضح الأمر وظهر جلياً أن ذكر الأوزاعي للحديث إنما جاء في معرض بيان حرمة دماء المسلمين، أي على النقيض مما ادعاه الكاتب - عليه من الله ما يستحق -.
والكاتب المفتري على الإمام الأوزاعي - رحمه الله - زاعماً أنه كان يمثل فقيه السلطان الذي يفتي لـه بما يريد في العصرين العباسي والأموي، وأنه قد استطاع أن يخدع الناس بادعاء الزهد والتقوى، إلى غير ذلك من الافتراءات التي افتراها على هذا الإمام العظيم الذي أجمع المسلمون على عدالته وإمامته كما ذكر الحافظ ابن كثير[3]، \"وقال مالك: كان الأوزاعي إماماً يقتدى به، وقال سفيان بن عيينة وغيره: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: افسحوا للشيخ، حتى أجلساه عند الكعبة وجلسا بين يديه يأخذان عنه\" [4].
فإذا كان الأوزاعي قد بلغ من دهائه وخبثه - حسب ادعاء الكاتب - أن يخدع مالكاً والثوري وابن عيينة وغيرهم من أهل العلم والفضل في عصر الأوزاعي ومن بعده، فهل يدلنا الكاتب الألمعي على الطريقة العجيبة التي استطاع هو بـها أن يكشف خداع الأوزاعي وزيفه الذي لم يستطع أحد أن يكشفه طيلة تلك القرون الماضية؟!.
ويستمر الكاتب في افترائه وتدليسه فيقول: \"وقد ظلت هيبة الأوزاعي في الشام تحتل قلوب أهله حتى إن الذهبي في الميزان تحرج من نقد الأوزاعي في ترجمته له واكتفى بأن يقول عن مسرور بن سعيد راوية الأوزاعي: غمزه أي هاجمه وطعن فيه ابن حبان فقال: يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة، أي أن الأوزاعي يروي الأحاديث المنكرة\".
والحق أن الإنسان ليعجب أشد العجب من جرأة هذا الرجل وأمثاله على الغش والتدليس، وذلك أن من يقرأ هذا الكلام يظن أن الذهبي كان يود أن يقدح في الأوزاعي ولكنه تـهيب الأمر لمكانة الأوزاعي في قلوب الناس، بينما الصحيح أن الذهبي قد مدحه وأثنى عليه فقال: \"إمام ثقة وليس هو في الزهري كمالك وعُقيل\" [5]. فالذهبي قد وصف الأوزاعي بأنه إمام ثقة، وقوله إنه ليس في الزهري كمالك وعقيل ليس قدحاً فيه، بل هو يقصد أنـهما أثبت منه في الرواية عن الزهري، مع كونه هو ثقة أيضاً، وهذا عند علماء الحديث لا يعد جرحاً فضلاً عن أن يوحي بشيء مما أراد الكاتب أن ينسبه للأوزاعي - رحمه الله -، ولو كان الأمر كما أراد الكاتب أن يوهمنا لما أورده في تذكرة الحفاظ ولما سماه هناك شيخ الإسلام[6].
ثم إن الكاتب يورد كلمة قيلت في أحد الرواة عن الأوزاعي وهي قول ابن حبان عن مسرور: \"يروي عن الأوزاعي المناكير\" ليستدل بـها على أن الأوزاعي نفسه كان يروي أحاديث منكرة، وهذا من الكاتب جهل شنيع فهل كل من رويت عنه المناكير يقال فيه إنه يروي أحاديث منكرة؟ وهل إذا قلنا إن فلاناً يروي عن عمر رضي الله عنه أحاديث منكرة يكون عمر نفسه راوياً لأحاديث منكرة؟، وإنما قصد ابن حبان الطعن في ذلك الراوي لا في الأوزاعي، وقد ذكر ابن حبان أبا عمرو الأوزاعي في الثقات وقال: \"وكان من فقهاء الشام وقرائهم وزهادهم ومرابطيهم\" [7].
2 - ومما سود به الكاتب دراسته المزعومة قدحه في الإمام البخاري - رحمه الله - الذي اتفقت الأمة على إمامته وعدالته وعلى أن كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله - عز وجل -، ومن افتراءاته في ذلك قوله عن البخاري - رحمه الله -: \"وجعله الذهبي ضمن الضعفاء والمتروكين في كتابه الذي يحمل نفس الاسم\".
ولاشك أن هذا كذب مفضوحº لأن البخاري الذي جعله الذهبي ضمن الضعفاء والمتروكين هو شخص آخر غير البخاري صاحب الصحيح، فإن نص كلام الذهبي هو: \"محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري، قدم بغداد بعد الخمسمائة وكتب عنه جماعة، قال ابن الجوزي: كذاب، قلت: أما محمد ابن إسماعيل الإمام مؤلف الصحيح فثقة، وبعد ذا فما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ تركه لأجلها أبو زرعة وأبو حاتم وهجره الذهلي\" [8]، وفي كتاب المغني يذكر الذهبي نحو كلامه السابق، غير أنه يدافع عن الإمام البخاري بصورة أقوى فيقول: \"فأما أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مولى الجعفيين فحجة إمام ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ لأنه مجتهد في المسألة بل ومصيب\" [9].
ومن افتراءاته على الإمام البخاري أيضاً زعمه أنه كان يقول إن القرآن مخلوق، وهذا كذب صريحº فإن غاية ما اتـهم به البخاري أنه كان يقول باللفظ أي يقول: إن لفظي بالقرآن مخلوق، وحتى هذه لم تثبت عنه، فقد حدث محمد بن نصر المروزي أنه سمع البخاري يقول: \"من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب\" [10].
وسبب هذا الذي قيل عنه أنه لما قدم نيسابور سُئل في هذه المسألة فقال: \"أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا\"، وهو يقصد بقوله (ألفاظنا) هنا حركة اللسان والشفاه وهذه مخلوقة بلا جدال، لكن الناس شغبوا عليه فقالوا إنه يقول لفظي بالقرآن مخلوق، ومن هاهنا حذر محمد بن يحيى الذهلي من مجالسة البخاري والأخذ عنه، ولاشك أن البخاري برئ من هذه التهمة، وأن الذهلي قد أخطأ في نسبة ذلك إليه، وقد يكون ذلك من نزغ الشيطان بين هذين الإمامين، أو أنه نوع من الغيرة التي قد تقع بين العلماء والتي ينبغي على المسلمين عدم الالتفات إليها، قال الثوري - رحمه الله -: \"عند ذكر الصالحين تنـزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والـهفوات والغضب والشهوات، دون أن يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق\" [11].
ومن أجل ذلك فإنه لما حذر محمد بن يحيى من مجالسة البخاري وانقطع الناس عنه فإن مسلماً - رحمه الله - لم ينقطع عنه لعلمه بجلالة البخاري وعدم صحة ما نسب إليه، ثم لما قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا أخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس فبعث إلى الذهلي جميع ما كتبه عنه على ظهر جمال، ثم إن مسلماً - رحمه الله - قد أنصف كما يقول ابن حجر فلم يحدث في كتابه عن هذا ولا ذاك[12].
3 - وكذلك لم يسلم الإمام مسلم - رحمه الله - من قلم ذلك الكاتبº فقد اتـهمه في دراسته تلك بتلفيق سندٍ, لحديث: \"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث.. \". إذ يقول عن هذا الحديث: \".. أعلنه الأوزاعي بدون سند وبدون رواة في موقف عصيب ثم ما لبث أن رواه مسلم في صحيحه بعد أن منحه السند والعنعنة\".
هذا مع العلم أن مسلماً لم ينفرد برواية الحديث بل أخرجه أيضاً البخاري وغيره، لكن لما كان الكاتب قد طعن في البخاري على ما سبق بيانه، فإنه أبى إلا أن يبحث عن تـهمة يلفقها لمسلم أيضاً حتى تضيع هيبة الصحيحين من نفوس المسلمين ويسهل عليه الطعن في السنة برمتها.
وليس لنا من تعليق على هذا الهراء إلا أن نقول إن هذا الكاتب قد تفوق على رفيق دربه وزميل ضلاله الـهالك فرج فودةº فقد كان من طريق فرج فودة في معارضته لحكم الإسلام وشريعته أن ينتقي بعض صفحات التاريخ الإسلامي التي قد يكون وقع فيها شيء من الظلم والطغيان ليعلن أن التاريخ الإسلامي كله على تلك الشاكلة، وأنه لا يُنتظر إذا طبقنا الشريعة إلا أن تعود تلك المظالم مرة أخرى، أما هذا الضال فإنه يعمد إلى الصفحات النقية البيضاء من تاريخ المسلمين ليحاول تشويهها وتلطيخها بما يفتريه على أهل السنة والعدل من الأكاذيب والافتراءات.
4 - ثم إن هذا الرجل يستمر في جهالاته فيتقمص شخصية علماء الحديث ليحكم على الإسناد الذي روى به مسلم الحديث المذكور فيأتي في ذلك بالعجب العجاب.
فهو مثلاً يتكلم عن أبي بكر بن أبي شيبة شيخ مسلم في هذا الحديث فيقول: \"لقد بدأ بأبي بكر بن أبي شيبة واسمه الحقيقي عبد الرحمن بن عبد الملك وقد مات في حدود 220 هـ، وقال عنه الحاكم ليس بالمتين، وقال عنه أبو بكر ابن أبي داود: ضعيف.. \" الخ ما ذكره، ولكن هذا المسكين لا يعلم أن كل ما ذكره لا قيمة لهº لأن هذا الراوي الذي نقل بعض الأقوال في جرحه ليس هو ابن أبي شيبة الذي روى عنه مسلم، فالذي روى عنه مسلم هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الحافظ الثقة الثبت (انظر تـهذيب التهذيب 3/252)، وأما هذا الذي تحدث عنه الكاتب فهو عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، وليس ابن أبي شيبة (انظر تـهذيب التهذيب 3/390).
5 كما أن هذا الكاتب قد شنع على عكرمة مولى ابن عباس متهماً إياه باختراع حديث \"من بدل دينه فاقتلوه\"، وقد استغل الكاتب بعض ما قيل في عكرمة من أنه كان يرى رأي الخوارج أو أنه كان يكذب على ابن عباس، والحق أن عكرمة ثقة ولا يلتفت إلى ما قيل فيه، والحق أيضاً أنه يندر أن تجد راوياً لم يُتكلم فيه، ولكن أهل الإنصاف يمحصون ويدققون ولا يقبلون قول كل أحد إلا بدليل، وقد صنف الإمام الذهبي كتاباً بعنوان (معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد)، وقد ضمنه أسماء كثيرة من الرواة المشهورين الذين تكلم فيهم بغير حق، مبيناً عدم صحة ما قيل فيهم، وعد منهم عكرمة حيث ذكره في ص: 147 من هذا الكتاب، وقال عنه: \"صدوق حافظ عالم\"، وأيضاً فإن كتاب ميزان الاعتدال قد وضعه الذهبي ليشمل كل من تُكلم فيه من الرواة سواء كان هذا الكلام حقاً أو باطلاً [13].
والمقصود بيان أنه قل من الرواة من سلم من القدح فيه، والعبرة بعد ذلك بما استقر عليه نظر أهل العلم بـهذا الشأن الذين محصوا وحققوا وبينوا الصواب من الخطأ، كما قال الإمام الطبري: \" لو كان كل من ادعُي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي عليه به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك، للزم ترك أكثر محدثي الأمصارº لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب عنه\" [14].
ومجمل ما اتـهم به عكرمة أنه كان يرى رأي الخوارج وأنه كان يكذب على ابن عباس، وقد بين الحافظ ابن حجر في هدي الساري عدم صحة ذلك عنه ونحن نورد هنا باختصار شيئاً مما ذكره الحافظ هناك.
فأما مسألة قوله برأي الخوارج فقد بين الحافظ عدم ثبوت ذلك عنه وأنه إنما كان يوافق في بعض المسائل فنسبوه إليهم، ونقل تبرئة عكرمة من هذه التهمة عن الإمام أحمد والعجلي وابن جرير الطبري وغيرهم.
وأما رميه بالكذب وخصوصاً على ابن عباس فإن منه ما لم يثبت عمن نقل عنه، وذلك كالذي روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: \"لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس\"، فإن هذا لا يصح عن ابن عمر لأنه من رواية يحيى البكاء وهو متروك الحديث، ومنه ما قد قصد به الخطأ فإن أهل الحجاز كما يقول ابن حبان: يطلقون كذب في موضع أخطأ، وقد يقصد البعض الإنكار عليه في رواية معينة ولا يقتضي ذلك قدحاً فيه وتركاً لروايته بالكلية، وقد صحح الحافظ إسناد أثرٍ, فيه عكرمة قال لأبي أمامة بن سهل بن حنيف: أذكرك الله هل سمعت ابن عباس يقول ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه فإنه لم يكذب عليَّ؟ فقال أبو أمامة: نعم، ثم نقل الحافظ توثيق عكرمة عن جم غفير من أئمة الجرح والتعديل، منهم أبو حاتم ويحيى بن معين والنسائي وأحمد بن حنبل والبخاري وإسحاق بن راهويه وغيرهم، ونقل عن ابن منده أنه قد عدل عكرمة أمةٌ من التابعين منهم زيادة على سبعين رجلاً من خيار التابعين، وقال ابن عبد البر: كان عكرمة من جلة العلماء ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه لأنه لا حجة مع أحد تكلم فيه، وقال يحيى بن معين: إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة فاتـهمه على الإسلام[15].
6 وأخيراً يأبى ذلك الكاتب إلا أن يثبت جهله بلغة العرب وقواعدهاº ففي معرض قدحه في حديث \"لا يحل دم امرئ مسلم.. \" يقول: \".. وصيغة الحديث ترى فيها الصنعة الأوزاعية التي تتيح للدولة العباسية قتل الثائرين عليها من الرجال، ولكن الأحكام التشريعية الإسلامية يأتي فيها النص على الرجال والنساء معاً كقوله - تعالى -: ]الزانية والزاني[.. أو يأتي لفظ الذين ليشمل الذكر والأنثى كقوله - تعالى -: ]والذين يرمون المحصنات[.. أما في حديث الأوزاعي الذي ذكره مسلم فهو يتحدث تحديداً عن الرجل الذي هو امرؤ مسلم يشهد، الثيب الزاني، التارك لدينه المفارق للجماعة، وعليه فإن المرأة لا عقوبة عليها في الأحوال الثلاثة، وبالتالي تصبح العقوبات القرآنية التي تحدثت عن النساء لا غية\"، ومقصوده الطعن في الحديث لمخالفته للقرآن الكريم حسب فهمه السقيم.
والحق أن لفظ: امرئ، وإن كان موضوعاً في أصله للرجل إلا أنه قد يشمل المرأة أيضاً من باب التغليب، وهذا باب معروف عند الملمين بلغة العرب، ومن أوضح الأمثلة على استعماله في حق الرجل والمرأة معاً قوله - تعالى -: [كل امرئ بما كسب رهين][الطور: 21]، أي كل إنسان مرتـهن بعمله لا يؤخذ بذنب غيره، ولا يمكن أن يكون هذا الحكم خاصاً بالرجل دون المرأة.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله - تعالى - في شأن الذين خاضوا في حديث الإفك - [لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم][النور: 11]، ولاشك أن لفظة امرئ هنا قصد بـها كل من خاض في الإفك من الرجال والنساء، وقد صح أنه كان من بينهم امرأة هي حمنة بنت جحشº فقد قالت عائشة - رضي الله عنها - عن زينب بنت جحش: \".. فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لـها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك\" [16].
ومن ذلك أيضاً قوله - تعالى -: [يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك.. ][النساء: 176].
فالآية الكريمة تبين أن الرجل الذي يورث كلالة أي يموت ولا ولد لا والد ولـها أخت واحدة فكم فرض هذه الأخت؟ ولست أدري ماذا سيكون جوابه، ولكني أعلم أن جواب أهل العلم هنا هو أن هذه الأخت فرضها النصف أيضاً كما لو كان الميت رجلاً، لأن لفظ امرئ يراد به هنا الرجل والمرأة جميعاً.
ومن جهل هذا الكاتب أنه يظن أن لفظ (الذين) في أصل معناه يشمل الذكر والأنثى، والصواب أنه موضوع لجمع الذكور فقطº بدليل وجود اسم موصول خاص بجماعة النساء وهو اللاتي أو اللائي، وإنما قد يرد لفظ (الذين) مراداً به الذكور والإناث على سبيل التغليب أيضاً، قال الثعالبي: \"قال الله - عز وجل -: [يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله]، وقال - عز وجل -: [وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة[، فعم بـهذا الخطاب الرجال والنساء، وغلب الرجال وتغليبهم من سنن العرب\" [17].
وبعد: فقد كانت تلك إشارات سريعة لبعض ما ذكره ذلك الكاتب في دراسته المزعومة، وقد كان القصد هو فقط إظهار جهل هذا الكاتب وأمثاله وتجرؤَهم على الحديث في شرع الله بغير علم، حتى يكون القارئ على بينة من منهج أولئك القوم الذين ما فتئوا يبثون سمومهم وأباطيلهم، حتى إذا انبرى لهم من يكشف باطلهم ويبين زيفهم، قامت قيامتهم وعلا ضجيجهم زاعمين أننا نريد أن نكمم أفواههم وأن نكسر أقلامهم وأن نمنعهم من الاجتهاد والإبداع...
----------------------------------------
[1] - انظر البداية والنهاية: 10/120 - 121.
[2] - تذكرة الحفاظ: 1/181.
[3] - البداية والنهاية: 10/119.
[4] - المصدر السابق، نفس الموضع.
[5] - ميزان الاعتدال: 2/580.
[6] - تذكرة الحفاظ: 1/178.
[7] - الثقات: 7/62 - 63.
[8] - ديوان الضعفاء والمتروكين: 2/283، رقم الترجمة: 3605.
[9] - المغني في الضعفاء: 2/165، رقم الترجمة: 5311.
[10] - انظر هدي الساري، ص: 491.
[11] - انظر هدي الساري، ص: 491.
[12] - راجع فيما وقع بين البخاري والذهلي: هدي الساري، ص: 490 - 491.
[13] - ومن جهل الكاتب المذكور أنه لا يعلم هذه الحقيقة ولذا فإنه لما ذكر أيوب بن أبي تميمة قال: \"ولم يذكره في ميزان الاعتدال مع شهرته:، ولم يدر المسكين أن عدم ذكره في الميزان إنما لأنه حافظ لم يتكلم فيه أحد، أي أن هذه الشهرة هي السبب في عدم إيراده في الميزان لأنه إنما اشتهر بالحفظ والإتقان.
[14] - انظر هدي الساري، ص: 428.
[15] - انظر هدي الساري، ص: 426 - 430، وانظر أيضاً تـهذيب التهذيب: 4/167، وما بعدها، وتذكرة الحفاظ: 1/95.
[16] - أخرجه البخاري: 4750، ومسلم: 2770.
[17] - فقه اللغة وأسرار العربية، ص: 220.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد