بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
\" هيا بنا نؤمن \" نداء نعيد ذكره ورفعه.. نحن مؤمنون غير أن نريد أن نكمل النقص، وأن نقوّي الضعف، وأن نعظم الأثر، وأن يكون إيماننا هو ذلك الإيمان الذي غرسه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه، فعُمِرَت بالتقوى، وأشاعه في نفوس أتباعه فنضحت بالخير والهدى..
إن الإيمان منبع كل خير ومصدر كل هداية، وأساس كل إصلاح.. إنه نور كل قلب، وطمأنينة كل نفس، ورشد كل عقل.. إنه إخلاص كل نية، وصلاح كل عمل.. إنه خير الدنيا وفلاح الآخرة.. إنه الذي عند كل مؤمن محور وقطب رحى حياته.. لأجله يعيش، ولأجل نشره والذب عنه يقضي ويضحي، ولأجل نشره والتعريف به يجهد ويبذل.
الإيمان في حقيقة أمرنا وحياتنا ومنهجنا الإسلامي هو قضية القضايا.. هو القضية الكبرى الذي لأجلها خلق الله الخلق، وخلق السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل كل ذلك لأجل قضية الإيمان.
وقد وقفنا وقفاتٍ, ماضية مع صورٍ, إيمانية نحن في أشد الحاجة إليها، وفي أعظم الافتقار إليها في زمن الفتنة والمحنة، وغلبة الأهواء، واضطراب الآراء في الزمن الذي تغيّرت فيه الأمور، وسار بعض المعروف منكراً وبعض المنكر معروفا! في الزمن الذي توالت فيه الدعوات في تغير الشرائع والأحكامº حتى وصلت إلى طلب تغيير الأحاديث والآيات!
أمرٌ في غاية الأهمية ونحن قد استعرضنا صوراً من فتنة النساء أو فتنة المال أو الاهتمامات التي وقعنا في كثيرٍ, من جواذبها، ولا عصمة لنا منها، ولا قوة لنا في مواجهتها إلا بالإيمان بالله - جل وعلا -..
ونمضي اليوم إلى صورٍ, أخرىº نرى فيها قصوراً ونقصاً، ويظهر من خلالها حاجةً ماسةً إليها، وفقر الغفلة عن الله، وإظهار الاستغناء عن الله، وعدم الشعور بالضعف والذل والانكسار بين يدي الله، وعدم الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى أن يفضي المؤمن بهمه وغمه بين يدي مولاه، وعدم الرجوع عند كل خطبٍ, وأثناء كل كربٍ, إلى الله - سبحانه وتعالى -..
لجوء المؤمن الذي يتوكل على الله، وينيب إليه ويخلص له، ويستمد منه.. ذلكم الأمر المهمº لأن القلب المؤمن موصول باللهº لأن اليقين الراسخ في النفس يجعل الثقة لا تعطى إلا لله، والقوة لا تطلب إلا من الله، والنصر لا يستنزل إلا من عند اللهº لأن المؤمن الحق يعرف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا هدى ولا تقى إلا في منهج الله، ولا صلاح ولا راحة ولا حياة طيبةً إلا بإتباع شرع الله..
إن الأسئلة المهمة التي نرى ضعفها في واقع حياتنا، وتجعلنا نتساءل: أين الالتجاء إلى الله والدعاء له؟ أين الافتقار إلى الله والقنوت له؟ أين الركون إلى الله والقنوت له؟ أين نحن في واقع الحياة في هذا الأمر ونحن نرى المؤمنين والمسلمين في كثير من أحوالهم يلتمسون القوة عند أهل الأرض في شرقٍ, أو غرب! ويلتمسون العون عند هذا المخلوق أو ذاكº كأنما خلت قلوبهم من صلة عظيمة بالله، وافتقارٍ, شديدٍ, إليه! كأنما لا يستحضرون المعاني الإيمانية التي ضرب الله - عز وجل - لنا بها المثل في أعظم الخلق وأشرفهم وهم رسله وأنبياءه.. الرسل والأنبياء مع كل ما آتاهم الله - عز وجل - ضربوا لنا المثل في أنهم كانوا القدوة في افتقارهم إلى اللهº فهم الذين صوروا لنا في واقع حياتهم لجوؤهم إلى الله بكثرة دعائهم وتضرعهم وانكسارهم وذلهم وإخباتهم إلى الله.. ألسنتهم رطبة بذكر الله، أيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله، أعينهم دامعة من خشية الله، قلوبهم مملوءة بحبه وخوفه - سبحانه وتعالى -.
نوح - عليه السلام - تكالب عليه قومه، حاصروه من كل جانب مع ثلةٍ, قليلةٍ, من أهل الإيمان {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغلُوبٌ فَانتَصِر}، وجاء الجواب سريعاً من الله - تعالى -: {فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَاء بِمَاء مٌّنهَمِرٍ, * وَفَجَّرنَا الأَرضَ عُيُوناً فَالتَقَى المَاء عَلَى أَمرٍ, قَد قُدِرَ}.
لم يلتمس عوناً من هنا أو هناك! كان يعرف القوة ومصدرها، والنصر ومنزله. فيمدّ يديه إلى الله - سبحانه وتعالى -.
{وَذَا النٌّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقدِرَ عَلَيهِ فَنَادَى فِي الظٌّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاستَجَبنَا لَهُ وَنَجَّينَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤمِنِينَ}.
وجاء الجواب: {فَاستَجَبنَا لَهُ وَنَجَّينَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤمِنِينَ}.
وفي قصة أيوب - عليه السلام -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضٌّرٌّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وفي قصة زكريا: {رَبِّ لَا تَذَرنِي فَرداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ}.
وفي قصة يوسف - عليه السلام -، استنجاده واستعصامه بالله: {وَإِلاَّ تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ}.
في كل الصور: صور العداء، وصور الفتنة، صور الإغراء، صور الفقر، صور الغنى.. كان الاستمداد واللجوء والتضرع والابتهال والصلة الدائمة بالله دليلاً على إيمانٍ, حيٍّ, في القلوب، وعلى نورٍ, مشرقٍ, في النفوسº يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى أن يستشعر فقره وضعفه وذله وانكساره وحاجته لله - سبحانه وتعالى -.
أحبتي ليدر في نفس كل واحد منا هذا السؤال، وفي خاطره تلك الصور من حياته: كم مرةً في يومه أو في أسبوعه أو في شهره - بل ولا أبالغ إن قلت في عامه - انكسر بين يدي الله، وشعر أنه في شدة الحاجة إليه، وأن عنده ما يفضي به إلى الله! كم نحن في غفلةٍ,.. نلتمس أسباب نجاتنا وعون حياتنا وشفاء أمراضنا من الأسباب البشرية دون أن تتعلق قلوبنا برب البرية - سبحانه وتعالى -!
يقول ابن القيم - رحمه الله -: \" إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجوء إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه \".
إنها نعمة يسوقها الله لمن أحبهº فيجعله لا يرى أحداً ولا يتعلق بأحدٍ, ولا يرجو أحداً إلا خالقه ومولاه - سبحانه وتعالى -º لأنه قد ملأ قلبه بهذا الإيمان، واستشعر دائماً من إيمانه أهمية صلته بربه، وقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يتوب إلى الله ويستغفره في كل يومٍ, وليلةٍ, مائة مرةً
فقيراً جئت بابك يا إلهي *** ولستُ إلى عبادك بالفقير
غنى عنهمو بيقين قلبي *** وأطمع منك في الفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عوناً *** فحسبي العون من رب قدير
إلهي ما سألت سواك عفواً *** فحسبي العفو من رب غفور
إلهي ما سألت سواك هديا *** فحسبي الهدي من رب بصير
إذا لم أستعن بك يا إلهي *** فمن عوني سواك ومن مجيري
لسان حال المؤمنº افتقارٌ إلى الله، يستحضر به قول الله - جل وعلا -: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السٌّوءَ}.
لِمَ لا نلجأ إلى الله إلا إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الكروب، وعظمت الرزية، وكبرت البلية؟!
لِمَ لا تكون القلوب دائماً مفضيةً إلى خالقها، منيبةً إليه، موصولةً به، راجيةً منه! وذلك حال المؤمن
، قال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيٌّ الحَمِيدُ}.
وفي حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يطمع كل مؤمن، ويُحيي هذه المعاني في قلبه: (إن الله حييٌ كريمٌ، يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً) رواه الترمذي.
لا يخيب من دعا، ولا يضل من استهدى، ولا يخذل من استنصر بالله - سبحانه وتعالى -..
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإِذا هو برجل من الأنصار يُقَالُ له أبو أُمَامَةَ، فقال: يَا أبا أُمَامَةَ! مَا لِي أَرَاكَ جَالِساً فِي المسجد في غير وقت الصلاة؟ قالَ: همومٌ لَزِمَتنِي وَدُيُونٌ يَا رسولَ الله! قالَ: أفلا أُعَلِّمُكَ كلاماً إِذا أنت قُلتَهُ أذهَبَ الله هَمَّكَ وَقَضَى عَنكَ دَينَكَ؟! قال: قُلتُ: بَلَى يَا رسولَ الله. قال: قُل إِذَا أَصبَحتَ وَإِذَا أَمسَيتَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الجُبنِ والبُخلِ وَأعوذُ بِكَ مِن غَلَبَةِ الدَّينِ وَقَهرِ الرِّجَالِ). قالَ: فَفَعَلتُ ذَلِكَ فَأَذهَبَ الله هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَينِي.
وهذا من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ورد ذكره، واستحسن العلماء أن يذكره المسلم في أذكار صباحه ومسائه.
كم كربٍ, يمر علينا، وكم من ظروفٍ, وهمومٍ, تنزل بنا.. فهل لجأنا فيها إلى الله؟!
إن دعوةً ضارعةً خاشعةً في خلوةٍ, وظلمةٍ, تسكب في نفسك من الرضا ومن السكينة والطمأنينة ما يذهب همّّك، ويزيح غمك ثم يفرج الله - عز وجل - فإنه مفرج كل كرب، وميسر كل عسيرٍ, - سبحانه وتعالى -..
(اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شِئت سهلاً) بيده - سبحانه وتعالى - مفاتيح كل شيء، بيده الخلق والأمر.. فما بالنا نغفل عن هذا ولا نجعل إيماننا دافعاً لئن نستحضر هذا المعنى بكل ما جاءت به الآيات وما وردت به الأحاديث!
قال - تعالى -: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزٌّ مَن تَشَاء وَتُذِلٌّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ}.
من يملك الملك حتى يعطيك! من يملك العز حتى يعزك! ما بالنا قد التجأنا إلى أسباب الدنيا وركنا إليها واعتمدنا عليها كأن لا إيمان في القلوب ولا يقين!
كم نحن في حاجةٍ, إلى مثل هذا المعنى الذي تجلى دائماً وأبداً في حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وفي حياة أصحابه وأسلافنا من المؤمنين إلى يومنا هذا عندما جعلوا قلوبهم معلقةً بالله - سبحانه وتعالى -.
صورةٌ أخرى من صورنا المحزنة المؤمنة التي علاجها جزماً وقطعاً في هذا الإيمان وروائه ونوره وإشراقه وآثاره.. كم نرى صوراً فيها القلوب متنافرة، والنفوس متشاحنة، والصفوف متخالفة!
كم نرى الخلاف وهو شائع، والاعتداء وهو ذائع.. كم نرى صوراً من القتل باسم الإسلام يحصل، وكم نرى صوراً من التدمير بدعوى الإصلاح تقع.. كم نحن في حاجةٍ, إلى أن نؤكد معنى الإيمان الأعظم ودلالته الكبرى في أخوة القلوب، واتحاد النفوس، وارتباط الصفوف، وتكاتف المؤمنين.. كم نحن في حاجةٍ, إلى أخوة الإيمان!
كم نتساءل اليوم: أين القلوب المتآخية؟ أين النفوس المتصافية؟ أين الرحمة الغامرة؟ وأين المودة العامرة؟ أين قول الله - جل وعلا -: {أذلةٍ, على المؤمنين أعزةٍ, على الكافرين}؟
أين قوله - جل وعلا - في وصف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} أين القصد الذي يتضح من قوله - جل وعلا - {إنما المؤمنون إخوة} لا يكون إيمانٌ كاملٌ إلا بأخوة صادقة، ولا تقوم أخوة حقيقية إلا على إيمان صادق..
أين حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله... ).
وأين المعنى المتجلي في الصورة العظيمة الفريدة التي لم يصدر تاريخ البشرية مثلها أبداً.. صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. مهاجرون تركوا ديارهم فنزلوا على قلوب إخوانهم قبل أن ينزلوا في دورهم.. صورةٌ تجلت في آيات القرآن، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}.
هل رأت الدنيا صورةً من الوحدة والألفة والمحبة مثل ما كان بين أصحاب محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم -؟ مهاجرون وأنصار، أوسٌ وخزرج، فرسٌ ورومٌ وأحباشٌ.. كلهم إخوةً مؤمنون، تربطهم رابطة الإيمان، محبةً تتدفق من القلوب، ومودةٌ تشيع من النفوس، وأكفٌ بعضها بأيدي بعض، ليس بينهم اختلافٌ ولا شحناء ولا بغضاء، ذلك داعي الإيمان الذي يدعونا ويجعل المؤمن عندنا والمسلم أولى أحدٍ, نحبه ونواليه، ونسأل عن حاله، وننصره وندعو له، ونهتم لهمه، ونغتم لغمه، وندفع عنه بقدر استطاعتنا وجهدنا وطاقتنا.
إن أمر المؤمن عظيم، وإن الإضرار به وإلحاق الأذى به صغيراً كان أو كبيراً أمرٌ خطيرٌ وعظيمٌ في الإسلام..
ألم نسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)º مجرد هذا الفعل البسيط بأن تهمس لأخٍ, لك دون الثالث - الذي ليس في المجلس غيره - فقد يدور في ذهنه أن الكلام عليه فيدخل حزناً في قلبه! يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينهى عن ذلك، وينبه إلى أهمية مراعاة مشاعر أخيك المؤمن، وعدم فعل أي شيءٍ, يحزنه أو يغضبه في الحق وبموافقة الشرع، فإذا زاد الأمرº فإن الخطب عظيم، كما روى مسلم في صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أشار إلى مسلمٍ, بحديدة فهو يتوجأ بها في نار جهنم إلى نار القيامة) بمجرد الإشارة فكيف بنا ونحن تجدد في بلادنا وفي بلاد المسلمين أفعالٌ من القتل والتدمير والأسلحة الكثيفة الكثيرة أعدت.. لماذا لتحصد أرواح مؤمنين، وتدمر ممتلكات مسلمين، وتثير الرعب في أهل الإيمان والإسلام، وتجعل الضغينة والأحقاد هي العلائق والصلات بين المجتمع المسلم.. أين هذا من الإيمان؟ أين هذا من حقائق الإسلام وتشريعاته؟ أين هو من قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإن هم فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله - تعالى -).
صورٌ هي من حقيقة إيماننا وليست قضية إرهابٍ, ذكره لنا الساسة وشاع بين العالم، بل هذه هي حقائق أخوة الإيمان بمجرد هذه الإشارة بالحديدة والإخافة للمسلم يأتيك وعيدٌ شديدٌ وخطرٌ عظيم، بل قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل إلى مسجدٍ, ومعه سهامٌ فليأخذ بنصالها)º لا يجعل السهم موجهاً للناس وإن كان سائراً لا يقصد لهم أذىً فكيف بإرهاق دم مسلمٍ,.. نسأل الله - عز وجل - السلامة.
وقد مرت بنا أحاديث كثيرة في هذا المعنى إلا أن تجدد الأحداث يعيد إلينا حقائق الأحكام التشريعية الإسلامية، وضوابطها التي تعظم حرمة المسلم، والتي تعظم وحدة المسلمين وأخوتهم.
من جهةٍ, أخرى ننظر إلى هذا المعنى في حدثٍ, أيضاً مهم أحسب أن كثيراً من الناس لم يلتفت إليه، ولم يسترعي انتباهه داعي هذه الأخوة الإيمانية من آثار الإيمان ودلائله أن نهتم في أمر كل مسلمٍ, في شرق الأرض وغربها، أن ندعو له أن نتذكر حاله أن نستشعر كربه، أن نمده ونعينه بما نستطيع.. فهل لا يوجد في أهل الإسلام من يحل به كربٌ أو يحيط به خطبٌ، أو يقع عليه اعتداء، إن ذلك يقع لا أقول في كل يومٍ, بل في كل لحظة وساعة.. فأين نحن من حبال المدة الإيمانية والرابطة الإسلامية ولو استشعاراً في القلوب وتأثراً في النفوس..
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم رأى قوماً من مضر دخلوا المسجد وعليهم علائم الفقر، وثيابهم مرقعة تمعر وجهه - صلى الله عليه وسلم -º أي تغير حزناً على حالهم، وتأثراً بمنظرهم، ثم دعا الناس لعونهم وإغاثتهم فتجمع كومان من ثيابٍ, وطعام.. فماذا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟
تهلل وجهه كأنه مذهبةٌ من شدة فرحه بهذا المنظر الذي فيه التكافل والتكامل والتعاضد، الذي جسد قلوباً مؤمنةً حية، وأخوةً صادقةً عملية.. أين نحن اليوم من هذا من أحوال إخواننا المسلمين في أرض فلسطين، والحدث الجلل تقترب ساعته، وتتوالى أحداثه.. حدثٌ خطبٌ جليلٌ من اعتداءٍ, قريبٍ, على المسجد الأقصى تنادى إليه من المتطرفين من اليهود عليهم لعائن الله، يتجمعون في يوم الأحد بعد غدٍ, ليقتحموا المسجد الأقصى وساحاته، ويتنادى أهل فلسطين في أرض القدس وفي الأراضي التي يستطيعون فيها الوصول إلى المسجد الأقصىº لكي يكونوا فيه على مدى أيامٍ, ثلاثةٍ, ليلاً ونهاراًº ليذودوا عنه.. أفلا يستحقون أن نتذكرهم وأن نتذكر مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن نغتم لذلك ونحزن كما أبى صلاح الدين - رحمه الله - أن يتبسم ومسجد الأقصى في قبضة النصارى في عهده..
ألا يستحق ذلك منا أن نتابع وأن نهتم وأن نعرف والقضية خطيرةº لأن إخواننا في أرض فلسطين ممنوعون من دخول المسجد الأقصى منذ أربع سنوات، منذ انطلاقة انتفاضة الأقصى.. أهل غزة وأهل الضفة لا يستطيعون الوصول إلى المسجد والصلاة فيه.. أليس هذا مقتضى الإيمان؟
ليس الإيمان كلماتٍ, تقال فحسب! وليس هو مجرد صلاةٍ, وصيامٍ, وأذكارٍ, وتلاواتٍ, فحسب! بل هو هذه الروح الإيمانية، التي تتجاوز الحدود، وتتجاوز الأعراف والقوانين الدولية لتكرس الأخوة الإيمانية..
ويحزنني وأظنه يحزن كل مؤمنٍ, منكم أننا في هذا الوقت بالذات ومع هذا الخطب بالذات تطالعنا صحف هذا اليوم بقضيةٍ, تشير إلى أنها موضع اهتمام كبير، وأنها موضع اهتمام الشباب والشابات في المدارس والجامعات والكليات، و يوصي بعضهم بعضاً، و يتحفزون ويحتشدون ويتجمعون لكي يقوموا بمهمة عظيمةº وهي مهمة التصويت لإنجاح مشاركٍ, في برنامج الغناء المعروف \" ستار أكاديمي \" أين نحن من هذا الذي يجري في واقع أمتنا وذاك الذي يريد أن يصرفها عن كل أمرٍ, مهم، وعن كل قضيةٍ, عظيمة، وعن كل مسألةٍ, ينبغي أن تهتم وتغتم وتنشغل بها قلوب المؤمنين ويتدارسونها فيما بينهم!
عجبت لذلك ولا عجب في مثل هذا الأمر الذي يجمع النقائض، ويؤكد لنا مرةً ثانيةً وثالثةً أننا بحاجةً إلى هذا النداء \" هيا بنا نؤمن \" وأننا بحاجةٍ, إلى أن نجدد نداء بعض أصحاب محمدٍ, - صلى الله عليه وسلم -: \" تعال بنا نؤمن ساعة \".
نسأل الله - عز وجل - أن يحيي الإيمان في قلوبنا..
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من تقوى الله تجديد الإيمان وإحياءه في القلوبº حتى تعمر هذه القلوب بتقوى الله - سبحانه وتعالى -.
وإن الصور التي تجد فيها المفارقات الإيمانية - بينما هو مطلوبٌ منشودٌ وما هو واقعٌ محزنٌ - كثيرةº ولعلي أختم في هذا المقام في عجالةٍ, سريعة عن قضية مهمة خطيرةٍ,، لا تقل خطراً عن كل ما ذكرناهº ذلك أنها أيضاً متعلقة بالإيمان وحياته في القلب، تلكم هي الصفة المهمة صفة الخشوع الإيماني
القلوب الخاشعة، تتبعها العيون الدامعة والجباه الخاضعة والألسن الضارعة.. إن أمراً يملأ قلب المؤمن بهذا الإيمان يجعله دائماً يستحضر عظمة ربه - جل وعلا -، ويستحضر خوفه، ويستحضر تعظيمه وإجلاله وتقديره - سبحانه وتعالى - كما ينبغي، قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ}.
أمرٌ مهمٌ لأنه يتعلق بصلواتنا اليومية، وفريضتنا الثانية بعد التوحيد والشهادة.. هذه الصلاة التي جوهرها الخشوع تدعونا اليوم - ونحن نعرف حالنا ولا نحتاج أن نكشف ولا أن نهتك سترنا - تدعونا اليوم أن نسأل: أين القلوب الخاشعة كما يصف ذلك ابن القيم - رحمه الله - فيقول: \" الخاشع لله عبدٌ قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة فماتت شهواته، وصار مخبتاً لربه \".
والله - جل وعلا - في وصف المؤمنين قال: {قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ * الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَاشِعُونَ}.
وجعل ذلك الوصف أول الأوصافº لأنه يتعلق بأعظم العبادات، ويتعلق بالجوهر العظيم في هذه العبادة.
وروى الطبراني في معجمه الكبير، بسندٍ, حسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أول شيءٍ, يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا).
أمرٌ لو تدبرناه، وكنا صرحاء لقلنا عن حالنا: إننا نصلي وقلوبنا لاهية، وعقولنا منشغلة، وأجسادنا خاوية من حقيقة استحضار عظمة من نقف بين يديه!
قال بعض السلف كلاماً نفيساً أحسب أن تأملنا فيه قد يزيد حزنناº لكننا نحتاج إلى ذلك قال: \" الصلاة كجارية تُهدى إلى ملك الملوك، فما الظن بمن يُهدي إليه جارية شلاّء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو ذميمة أو قبيحة حتى يُهدي إليه جارية ميتة بلا روح.. فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه - تعالى -، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس العمل الطيب صلاة لا روح فيها \"
إن الخشوع جوهر هذه الصلاة التي يحصل بها حقيقتها وجوهرها، كما روى أبو داود في سننه بسندٍ, صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خمس صلوات افترضهن الله - تعالى -من أحسن وضوئهن، وصلاهن في وقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهدٌ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له).
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عند البخاري وغيره أمرٌ جديرٌ بأن نطبقه، وأن نبحث عن الخلل الكبير الذي سنكتشفه عند تطبيقه..
يقول المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه - وفي روايةٍ, لا يحدث فيهما نفسه - غفر له ما تقدم من ذنبه)
ركعتان جرّب ألا يكون فيهما خاطرٌ ولا فكرٌ ولا انشغالٌ بغير الصلاة وما فيها، وعظمة من تناجيه بها، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويسمع لجوفه أزيزٌ كأزيز المرجلِ من خشوعه وبكائه - صلى الله عليه وسلم -.
وأبو بكرٍ, لما أمر النبي أن يؤم الناس قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكرٍ, رجلٌ أسيف، إذا صلى بكى فبكى الناس لبكائه.
وروى ابن عباسٍ, - رضي الله عنهما - أن الفاروق - رضي الله عنه - بكى في صلاة الفجر حتى سمع بكائه من وراء الصفوف وهكذا سنجد الأمثلة كثيرة..
كم نحن في حاجةٍ, إلى إحياء الإيمان لتحيى قلوبنا، وتخشع في صلاتنا، وكم هي الأمور كثيرة وكم هي حاجتنا إلى هذا النداء عظيمة \" هيا بنا نؤمن \" \" هيا بنا نجدد إيماننا \" \" هيا بنا نتواصى بذلك \" {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يردنا إلى دينه رداً جميلا..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد