بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
حديثنا عن القرآن موصولٌ في سياق بيان صلاح أحوالنا برجوعنا إلى الكتاب والسنة، وقد أسلفنا القول تصويراً من النصوص القرآنية وتذكيراً بالحوادث من السيرة النبوية عن كون القرآن كان محور حياة الأمة الإسلامية وقلبها النابض ومرجعها الوحيد ومحركها المؤثر.
ولعلنا في حاجة أن نقف أيضاً وقفة لنتعرف على القرآن، ولعل هذه الوقفة يدور بخلد بعضنا أننا لسنا في حاجة لها وهل نحن لا نعرف القرآن؟
والحق الذي أحب أن أذكر به نفسي وإخواني أن معرفتنا ربما كانت قاصرة، وأنها لو كانت من الناحية العلمية أو العقلية كاملة فإنها من الناحية القلبية والعاطفية غير مؤثرة ولو كانت كذلك كاملة ومؤثرةº فإنها ربما يعتريها في بعض الأحوال ما يشوش على المعرفة أو ما يضعف التأثير والعزائم والهمم الماضية لتحمل كتاب الله - عز وجل - في القلوب ولتنطق به الألسن ولتطبقه في واقع الحياة سلوكاً فردياً، ونظاماً اجتماعياً، وحكماً تشريعياً يشمل الأمة كلها.
فلنتعرف إلى القرآن تعرّفاً من آيات القرآن يجعلنا ندرك عظيم المنة الربانية علينا بهذا الكتاب العظيم..يجعلنا ندرك أننا نملك بين أيدينا أعظم وأثمن وأغلى شيءٍ, في هذا الوجود..يجعلنا نوقن يقيناً أننا لسنا في حاجة إلى أي شيءٍ, بعد كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إن المتأمل يحتاج إلى أن يعمق هذا اليقين من خلال المعرفة القريبة عبر الآيات القرآنية القرآن كتاب الله القرآن كتاب الرحمن هذا وحده يجعل لهذا القرآن قيمة ليس لها مثيل مطلقاً.
إنه كلام رب الأرباب ملك الملوك جبار السماوات والأرض.. إنه نداء الرب - سبحانه وتعالى - إلى عباده المؤمنين بل إلى الخلق والبشرية والناس كلهم أجمعين.
والله - سبحانه وتعالى - يقول: {كتاب أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير}.
منه - سبحانه وتعالى - هو الذي أهداه لنا، وهو الذي أنزله على رسوله وهو الذي جعل فيه ما جعل من الهداية والنفع والفائدة وهو القائل - جل وعلا -: {وإنك لتُلقّى القرآن من لدن حكيمٍ, عليم}.. {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}.
رسالة الله إلى البشرية نحن نعلم أن الإنسان إذا جاءته رسالة من شخصٍ, يُعظمه أو يُقدره أو من إنسانٍ, له عليه حقوق عظيمة وكثيرة، أو له عليه حق الطاعة والاستجابة كما تأتي الرسالة من مدير الدائرة تعميماً أو توجيهاًº فإنها تُقرأ مرة بعد مرة، وإنها توضع نصب الأعين، وإنها تُتخذ منهاجاً لابد من العمل به، وإن الإنسان إذا جاءته مثل هذه الرسائل أولاها اهتماماً فأنزله من قلبه منزلة عظيمة، وأودعها في عقله تفكيراً وتأملاً وتدبراً، وأنزلها في حياته سلوكاً وتطبيقاً وعملاً.. والقرآن رسالة الله إلينا وكلامه لنا وتوجيهه وإرشاده وحكمه فينا - سبحانه وتعالى -.
وانظر إلى التعظيم أكثر وأكثرº فإن الناقل لهذا القرآن هو جبريل أمين الوحي وعظيم الملائكة - عليه السلام -: {إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين}.
انظر إلى العظمة المتضاعفة! انظر إلى المتلقي المبلغ - عليه أفضل الصلاة والسلام - خير الخلق وخاتم الرسل والأنبياء هو الذي تلقى القرآن كيف تلقاه لهفة ومحبة وشوقاً وحرصاً: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه}.. {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}.
كان من شدة تعلقه ومن عظيم حرصه - عليه الصلاة والسلام - يسابق الوحي ترداداً للآيات رغبة في حفظها في الصدر، وينشغل به تلاوة وهو الذي أمره الحق - سبحانه وتعالى - كما في قوله - جل وعلا -: {وأُمرت أن أتلو القرآن}.
وأمره الله - جل وعلا - فقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
فأي شيءٍ, فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دوّى بالقرآن شرقاً وغرباً، وقرأه ليلاً ونهارا تهجّد به في جوف الليل، وصدح به في وضح النهار، علّمه الصحابة - رضوان الله عليهم - كما قال أُبي وكما قال ابن مسعود وكما قال غيرهم من الصحابة.
هذا ابن مسعودٍ, يقول: \" حفظت من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة من القرآن \"، وإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن إماماً للمسلمين، ثم يطلب منهم سماعه فيقول لابن مسعود: اقرأ عليّ القرآن، فيقول: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري.
كان يحب تلاوته ويحب سماعه يشنف به الآذان، ويُحيي به القلوب، ويرّطب به النفوس، ويهدي به البصائر، ويقوّم به السلوك، فكان لذلك جعله حياة الناس وحياة الأمة.
فما بالنا كتاب من ربنا ينزل به جبريل على خير الخلق - عليه الصلاة والسلام - ويصدح به النبي في الصحابة، وتتناقله الأمة أجيالاً بعد أجيال، يحمله الأئمة العدول والحفاظ الكرام والعلماء الأفذاذ.. كل ذلك يأتي إلينا نعمة من الله ومنّة من الله، فما بالنا لا نقدّر النعمة قدرها ولا نعرف للمنة عظمتها هل ندرك تماماً هذه المعاني ونجعلها حيّة في قلوبنا.
هل نحن ندرك بعد ذلك أيضاً ما أودعه الله - عز وجل - بين دفتي المصحف من خير عميم وفضل عظيم وكرم منه - سبحانه وتعالى -؟.
فلئن كان هذا شرف القرآن في مصدره وفي ناقله وفي مبلّغه - عليه الصلاة والسلام -، فلننظر إلى عظمة القرآن في مضمونه.. هذا القرآن الذي جاء شاملاً لكل شيء جاء يتناول كل شيء في الإنسان وكل شيءٍ, في الحياة، بل يتناول هذه الحياة وما بعد هذه الحياة.
والحق - سبحانه وتعالى - يخاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من بعده: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}.
وانظر إلى هذا التعميم العجيب {تبياناً} تنكيرٌ مع التنوين، ثم كل التي تستغرق كل شيء ثم التعميم مرة أخرى بشيء كل شيءٍ, من صغيرٍ, وكبيرٍ, من أمر ومن تصورٍ, معنوي، أو من حقيقة عملية {تبياناً لكل شيء}، لسنا في حاجة إلى أي شيء بعد أن جاء في القرآن تبيان كل شيء، وهذا أيضاً قول الحق - سبحانه وتعالى -: {ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء}.
هذا سلمان - رضي الله عنه - يقول: \" ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبرا \".
هذا ابن عباس - ترجمان القرآن حبر الأمة ومفسر القرآن - يقول مبيناً يقينه الحقيقي بشمولية القرآن لكل شيء وتناوله لكل حُكم: \" لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله \".
ليس كلاماً على سبيل المبالغة، ولكنها حقيقة على سبيل اليقين.. كانوا يعرفون أن في القرآن كل شيءٍ, فيعملون عقولهم تدبراً وتأملاً واستنباطاً واستنتاجاً فيستخرجون من قواعده الكلية، ومن ألفاظه العامة كل ما تحتاجه الأمة من أحكام وتوجيهات وإرشادات.
هذه امرأة جاءت إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - تنكر عليه ما كان يقوله من لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة قالت: إني استظهرت ما بين اللوحين - أي دفتي القرآن - فما وجدت ما تقول فيه، فقال: ولكني استظهرته فوجدته، قالت: وأين وجدته يا ابن مسعود؟ قال: في قوله - سبحانه وتعالى -: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، وما دام هذا قد بلغنا عن رسول الله فالاستجابة له واجبة بأمر كتاب الله - عز وجل -.
هكذا فقهوا شمول القرآن فلجئوا إليه في كل معضلة، ورجعوا إليه لاستنباط كل حكم.. {تبياناً لكل شيء}.. تفصيلاً لكل شيء يشمل كل الجوانب عقيدة.. شريعة.. أخلاقاً.. {فاعلم أنه لا إله إلا الله} تثبيتٌ للعقيدة: {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، بيان للحجج العقلية والمناظرة الحجية التي ينقطع بها لسان الخصم ويعي عقله ويسّلم للحقيقة القرآنية والبرهان الرباني: {أم خُلقوا من غير شيءٍ, أم هم الخالقون}، ليس هناك احتمالٌ إلا هذا أو ذاك، إما أن يُخلقوا من عدم وهو باطل، أو أنهم خلقوا أنفسهم وهم يقرون ببطلان ذلك فلم يبقى إلا أن الله - جل وعلا - هو الذي خلقهم: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي ومن يُدبر الأمر فسيقولون الله}.
أقام الله - عز وجل - في القرآن البراهين القاطعة الساطعة على وجوده وعلى وحدانيته وعلى ألوهيته وربوبيته - سبحانه وتعالى - مما يستسلم له كل عقل منصف ويستجيب له كل قلب متقبل.
والشريعة أيضاً كل ما جاء في القرآن يشمل أحكاماً كثيرة تفصيلية وبعضها كلية أحكام صلاة وزكاة وصوم وحج ومواريث وبيوع ومعاملات وحدود وشؤون للأسرة كل شيءٍ, جاء في القرآن الكريم أخلاق: {وإنك لعلى خُلقٍ, عظيم}.. {واصبر وما صبرك إلا بالله}.
واستمع لآيات صفات عباد الرحمن وصفات المؤمنين، لترى الأخلاق كلها تتجسد في منهجٍ, متكامل عندما يتأملها المرء المسلم.. انظر إلى هذا الشمول الكامل الذي جاء بوعدٍ, ووعيد وقصص وأمثال وكل ما يتنوع به البلاغ والبيان والهداية والإرشاد في كتاب الله - عز وجل - وعدُ: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين}.. وعيدٌ: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عن ما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ, حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}.. قصص وأمثال: {نحن نقص عليك أحسن القصص}.. {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.
كم جاء في القرآن من قصص الرسل الأنبياء والأقوام الكافرين؟ كم جاء لنا من قصصٍ, كثيرة حتى عن الحيوانات قصة الهدهد عظة وعبرة وغيرها، وغيرها: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.. {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل لعلهم يتذكرون}.
أمثال عجيبة تعيها القلوب قبل العقول، وتتفاعل معها النفوس إذا أقبلت على القرآن وعرفت ما فيه وما هو مشتملٌ عليه من أنواع الهداية.
هل أصابك مرضٌ في قلبك؟ وهل نزلت بك علة في نفسك؟ وهل جآءك غم واكتئاب أو حيرة واضطراب؟ لئن حل بك شيءٌ من ذلك فاعلم أن العلاج والدواء في القرآن الكريم، هذا قول الحق - سبحانه وتعالى - يبيّن أن هداية الحيران في كل أمر من الأمور وفي كل مسألة من المسائل إنما هو في القرآن: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين}.
يهدي للتي هي أقوم في كل شأن من شؤون الحياة.. في شأن الفرد والمجتمع والأمة.. في شأن الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقضاء وغير ذلك، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين}.
ويقول ابن القيم - رحمه الله - شفاء معنوي وحسي فهو طمأنينة القلوب وسكينة النفوس وهداية العقول واستقامة السلوك، وهو راحة النفس ولذة الروح، وهو الذي يقع به للمرء من الهناء والسعادة ما لا يكون إلا به وبالارتباط معه وباليقين بما جاء فيه وبترطيب اللسان بتلاوته وبتشنيف الآذان بسماعه، وبإحياء القلوب بالتفاعل معه وبتشغيل العقول بالتدبر والتأمل فيه: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة}.
وتأمل هذا التعبير أو هذه الآية القرآنية وهي تبيّن نزول القرآن على مرضى القلوب والنفوس، فإذا به كأنما هو غيثٌ أو مطرٌ يصيب أرضاً قاحلة فيليّن قاسيها ويفجر الخيرات منها ويجعلها تورق وتخضر وتزهر بإذن الله - سبحانه وتعالى -: {قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لِما في الصدور}.
كل حيرة كل شك كل ضلال كل ذلك يُشفيه بإذن الله - عز وجل - القرآن لمن ارتبط به وآمن وأقبل وتدبر وعمل بإذنه - سبحانه وتعالى -.
هل رأيت نفسك يوماً تسير في ظلماء ليس فيها نورٌ ولا ضياء كيف يُمكن أن تتحرك لا تستطيع أن ترفع قدمك لأنك لا تدري أين تضعها إنك ترفع يدك ولا تستطيع أن تراها أنى لك النور في ظلمات الجهل وأنى لك الضياء في سُجف الشبهات المتكاثفة وأنى لك البصيرة في ظل الفتن والأهواء والشهوات والشبهات المختلطة في هذا الزمن العجيب، وهذا العصر الغريب والله - سبحانه وتعالى - يقول: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء}.
النور الذي يُبدد لك الظلمات إنما هو في تلك الآيات: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ, منها}.
نحن ربما كنا في بعض الأحوال يصدق فينا قول القائل:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ **** والماء فوق ظهورها محمولُ.
نحن بين أيدينا النور ونبقى في الظلمات، وعندنا العلاج ونبقى في ألم المرض، وعندنا الحياة ونبقى مشلولين مقعدين كأننا أموات.. نحن بأيدينا ليس خيرنا وليس هدايتنا بل خير البشرية وهدايتها نحن بهذا القرآن نملك أعظم شيءٍ, في هذا الوجود، ونملك أعظم دواءٍ, وشفاءٍ, لكل العلل والأمراض ليست علل النفوس وأمراض القلوب فحسب، بل علل الاقتصاد ومشكلات السياسة وكل المعاني التي يُقال إنها إنسانية جاء فيها وجاء بها القرآن الكريم: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.
هذا القرآن الذي بيّن حياة الفرد ونظام المجتمع ومسيرة الأمة كل ذلك ضمن القرآن الكريم بيّن لنا الولاء والبراء والعداء بيّن لنا كل شيء: {إنما المؤمنون إخوة}.
أخوة الإيمان التي توحد بيننا وتجمعنا وتجعلنا قوة بدلاً من أن نكون متفرقين:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً **** وإذا افترقن تكسرت أحادا.
{إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض}.
ثم انظر: {يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.
كل شيءٌ ظاهرٌ بيّن حجة قائمة وهداية تامة كاملة:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
فهل نحن نعرف القرآن العظيم حق المعرفة؟ وهل ندرك قيمته ونعرف عظيم المنة والنعمة به؟ نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا وأن نكتشف جهلنا وقصورنا وتفريطنا.
نسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى دينه ردّاً كريماً، ونسأله - عز وجل - أن يجعلنا مؤمنين بالقرآن التالين له المتدبرين في آياته العاملين بأحكامه الناشرين لدعوته.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
القرآن العظيم مأدبة الله ومن أراد أن يكلّم الله كفاحاً من غير ترجمان فليقرأ القرآن.. هذه الفضائل وهذه النعم التي تُجسد لنا عظمة النعمة التي بين أيدينا وقال الرسول: {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}.
فهل أحيينا به قلوبنا؟ وهل تأملناه وتدبرنا في معانيه بعقولنا؟ وهل ألزمنا أنفسنا بتطبيق أحكامه في سلوكنا؟ وهل جعلناه مهيمناً على كل شيء في حياتنا؟ وهل جعلناه لذة في سماعنا؟ وحباً في تلاوتنا وتحديداً لأطفالنا؟ وعمراناً وإحياءً لبيوتنا؟ فإن البيت التي لا يُذكر فيه الله كالبيت الخرب.
وهذا القرآن العظيم الذي جعله الله - عز وجل - لنا نبيّن هذه المعاني لننظر إلى عظمته من وجوه كثيرة ليس ما ذكرته إلا أقل القليل منها، فهو الذي يكون به قناعة العقل وهو الذي تحصل به عاطفة القلب، وهو الذي أيضاً يؤثر في النفس، وهو الذي يُحدد المسار تحديداً يستطيع به المرء أن يمضي على بيّنة من ربه، فهو يبدأ من قناعة العقل وعاطفة القلب إلى سلوك الفرد.. إلى تنظيم المجتمع.. إلى إحكام مسيرة الأمة.. إلى معاملتها مع كل الناس من حولها، بل قد جاء فيه كل شيء - كما أخبر - سبحانه وتعالى - في هذا الشأن، والذي يتأمل يجد هذه الحقيقة جليّة واضحة.
ولعلنا نقف وقفة أخيرة مع ما يحصل عندما لا نعرف هذه القيمة ولا نقدر هذه النعمة، ولا نجعل القرآن محور حياتنا، ولا نجعله شاغل ألسنتنا وقلوبنا وعقولنا ومجالسنا: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربي لِما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى}.
تأملوا هذه الآيات في شطر آية من كتاب الله يفسر الله - جل وعلا - سبب النكد والبلاء والشقاء هماً في القلب وضيقاً في الصدر وحيرة في العقل كل ذلك: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}.
ضنك الاقتصاد الذي يُعاني منه العالم كله في زمن تقدّم فيه العلم حتى استخرج من الأرض خيراتها، واستنزل من السماء كثيراً مما يُنتفع به، ومع ذلك مجاعات وموت وقتل ودمار وشقاء عجيب وتعاسة عظيمة: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}.. {ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين}.
من أعرض عن ذكر الرحمن كان قرينه الشيطان هو الذي يكون راكباً فوق رأسه.. هو الذي يُحدد مساره.. هو الذي يوسوس في قلبه.. هو الذي يُهمس في أذنه.. هو الذي يُهيّج الشهوة في قلبه.. هو الذي يرسم مسيرة حياته، وحسبك بامرئ أو بأمة أو بمجتمع يقوده إبليس عليه لعنة الله: {ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين}.
يبقى معه دائماً وأبداً فلا تبقى عنده فرصة لهداية ولا مجالٌ لسعادة إلا أن يفيء ويرجع إلى ظلال القرآن، وإلى كلام الرحمن - سبحانه وتعالى - فهذا هو القرآن من الله مبلّغاً عن طريق جبريل متلّقى من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - منشوراً ومبلغاً بلسانه - عليه الصلاة والسلام - وبيانه وهذا هو القرآن الذي فيه كل شيء وهذا هو القرآن الذي أُمرنا بتدبره وتأمله.
فعسى الله - عز وجل - أن يربطنا بكتابه، وأن يُحيي قلوبنا به، وأن يشغل ألسنتنا بتلاوته وآذاننا بسماعه وعقولنا بتدبره وجوارحنا بالعمل به.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد