كيف يستثمر المسلم وقته؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 ما أسرع أن يمر الوقت .. وما أسرع ما تمضي الليالي والأيام.

وإنا لنفرح بالأيام نقطعها ****وكل يوم مضى نقص من الأجل

فمهما طال عمر الإنسان ومكثه في الحياة، فهو قصير مادام الموت هو نهايته، وحينما يأتي الموت يطوي العمر وكأن الإنسان ما عاش في هذه الحياة إلا برهة، يقول - تعالى -مشيراً إلى هذه الحقيقة: \"ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون\" (55) (الروم)، ويقول أيضاً - سبحانه -: \"كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون\" 35 (الأحقاف)، ويقول أيضاً - سبحانه -: \"ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين\" 45 (يونس).

 

الوقت رأس مال المسلم:

من هنا يتبين لنا أن رأس مال المسلم في هذه الدنيا هو الوقت الذي هو مادة الحياة، وأنه أنفس من المال وأغلى. أرأيت لو أن محتضراً وضع أمواله جميعاً ليزيد في عمره يوماً واحداً.. هل يحصل له ذلك التمديد وتلك الزيادة؟.

ولعظم شأن الوقت وقيمته، فقد أقسم - سبحانه - به في آيات كثيرة من كتابه المحكم. فأقسم - جل وعلا - بالعصر وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين وزمن الشقاء للمعرضين فقال - تعالى -: \"والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)\" (العصر).

وقد عني القرآن وعنيت السنة المطهرة بهذه القيمة الغالية. وقد جعل الله الليل والنهار يتعاقبان في حياة الناس.. فمن فاته عمل في أحدهما تداركه في الآخر. يقول - تعالى -: \"وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا 62\" (الفرقان)، وقد لا يتنبه الإنسان إلى هذه الحقيقة إلا بعد فوات الأوان، فيتمنى ساعتها أن يعطى فرصة من العمر ولكن هيهات أن يجاب إلى ذلك. يقول - سبحانه -: \"والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور 36 وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير 37\" (فاطر).

 

الوقت كالسيف:

واجب على كل مسلم أن يغتنم كل دقيقة من العمر وألا يفرط في زمانه. وألا يضيع أوقات فراغه في لهو وعبث، فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : \"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ\"(1).

والنفس البشرية جُبلت على أن الإنسان إن لم يشغلها بالخير شغلته بالشر. يقول أبو العتاهية:

إن الشباب والفراغ الجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ومما هو مأثور عن الإمام الشافعي في هذا المعنى قوله: \"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. ونفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر\"، فعلى الإنسان أن يستغل نعم الله لديه بالطاعة فإنه لا يدري ماذا يخبئ له الدهر من البلايا والصوارف، فقد أخبر عمر بن ميمون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وعظ رجلاً فقال له: \"اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك. وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك\"(2).

وعنه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - : \"بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال.. فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر\"(3).

 

كيف يستثمر المسلم وقته؟

لكي يستثمر المسلم وقته في مرضاة الله وفيما يفيده في دنياه وآخرته لابد أن يجعل له عمراً ثانياً \"فالذكر للإنسان عمر ثان\" وذلك بما يعمل من صالحات باقيات. فإن آثار هذه الأعمال تمتد إلى ما بعد الموت ويبقى عمله موصولاً حتى بعد موته يؤدي رسالته للأحياء وهو مقبور، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله - تعالى -: إنا نحن نحيي الموتى\" ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين 12 (يس)، ويقول أيضاً سيحانه: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر 13 (القيامة).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : \"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته\".. (4).

 

السؤال عنه:

يبيِّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على رأس الأسئلة التي توجه إلى العبد يوم القيامة سؤالين: سؤالاً عن عمره عامة وسؤالاً عن أخصب فترة في هذا العمر وهي الشباب، فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه\"؟ (5).

فليحذر المسلمون من إضاعة الوقت، وليحرصوا على العمل بجد، وخاصة في أخصب أيام عمرهم وهي الشباب. يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أنس: \"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل\"(6).

فعلى الإنسان أن يحاذر التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى الغد، فإن \"سوف\" جند من جنود إبليس، وإن الإنسان لا يضمن أن يعيش إلى غد، وإذا عاش فلا يضمن أن يخلو غده من الصوارف والشواغل. وقد حكى الله عن مشهد من مشاهد يوم القيامة يحاول فيه أهل العذاب أن يستنجدوا بالمؤمنين ولكن هيهات هيهات فقد غر هؤلاء المعذبين طول أمانيهم في الدنيا، وضحك عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. يقول - سبحانه وتعالى -: \"يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب 13 ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى\" ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور 14\" (الحديد).

 

أهداف دنيوية:

من رأى حال الناس اليوم مع الوقت يجد جواباً يعجبه أننا خلقنا لنأكل ونشرب ونتمتع ونلعب ونلهو ونبني الدور والقصور.. هذا هو واقع الكثير وحينئذ يشتركون في هذه الأهداف الدنيوية مع البهائم والكفار الذين جعلوا هدفهم في الحياة الأكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا حلالاً كانت أم حراماً. قال - تعالى -: \"والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم 12\" (محمد)، والله - عز وجل - خلقنا لأمر عظيم حدده - سبحانه - بآية كريمة قال - تعالى -: \"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115\" (المؤمنون).

ويقول أيضاً - سبحانه - مؤكداً وموضحاً سبب خلقنا: \"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56\" (الذاريات). قال الإمام النووي: وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة.. فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له والإعراض عن حظوظ الدنيا فإنها دار فناء لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل استقرار، ومشروع انفصام لا موطن دوام.

فعمرك أخي المسلم هو موسم الزرع في هذه الدنيا.. والحصاد هناك في الآخرة، فلا يحسن أن يضيع الوقت وينفق رأس المال فيما لا فائدة فيه.

 

__________________________

الهوامش

(1) البخاري.

(2) أخرجه أحمد في المسند مرسلاً.

(3) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة في الزهد وقال حديث حسن غريب.

(4) أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن.

(5) رواه البزار والطبراني وقيل حديث صحيح.

(6) البخاري.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply