بسم الله الرحمن الرحيم
العمر ميدان العمل، والدنيا مزرعة الآخرة، والعاجلة معبرٌ للآجلة، والموفق المسدَّد من يشغل كلٌّ لحظة في عمره بطاعة ربِّه، حتَّى إذا انتهت حياته، وأزف وقت رحيله، وإذا به قد أخرج ما في جعبته، وأفرغ ما في كنانته، وبذل ما في وسعه، واستفرغ كلَّ طاقته، في كلِّ عمل صالح قدِرَ عليه وتمكن منه.
حتَّى لو قيل له: إن القيامة تقوم غدًا لما استطاع أن يزيد في عمله، فقد رمى بكلِّ سهم، وصال في كلِّ ميدان، وجال في كلِّ مضمار.
قال أنسُ بن عياض: رأيت صفوان بن سُلَيم، ولو قيل له: غداً القيامة. ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً. ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
وقال بكير بن عامر: كان لو قيل لعبد الرحمن بن أبي نعم قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيادة عمل.
وقال سفيان الثوري: لو رأيت منصور بن المعتمر، لقلت: يموت الساعة.
فالعمل الصالح صديقه الذي لا يخون، وصاحبه الذي لا يغدر، ورفيقه الذي لا يمكر، فهو معه في رحلته إلى آخرته، لا يفارقه أو يهجره أو يتخلَّى عنه.
فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" الأخلاَّءُ ثلاثةٌ، فأما خليل فيقول: أنا معك حتى تأتي باب الملك، ثم أرجع وأتركك، فذلك أهلك وعشيرتك، يشيعونك حتى تأتي قَبرَك، ثم يرجعون فيتركونك، وأما خليل فيقول: لكَ ما أعطيتَ، وما أمسكتَ فليس لك، فذلك مالُك، وأما خليل فيقول: أنا معك حيث دخلت، وحيث خرجت، فذلك عمله، فيقول: والله! لقد كنتَ من أهون الثلاثة عليَّ \"
إن لله عباداً فطنا طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمَّا علموا أنها ليست لحيٍّ, وطنا
جعلوها لُجَّةً واتخذوا صالحَ الأعمال فيها سُفُنا
بل إن عظيم الهمَّة لا يقنع بملء وقته بالطاعات والأعمال الصالحات، وإنما يفكر فيما بعد موته أن لا تموت معه حسناته.
فكم من ميِّت ما زالت حسناته حيَّةً من بعده، تأتيه في قبره وهو أحوج ما يكون لها وارغب ما يكون فيها..
وفي هذا تفاوتت الهمم وتباينت العزائم!
والعجيب أن تعلم أنَّ بعض الناس يحصد من الحسنات ويحصل على أجور بعض الأعمال الصالحات بعد موته أضعاف مضاعفة لما أدركه في حياته.
فعمره ـ وإن طال ـ فهو قصير، وبقاءه في الدنيا ـ وإن امتدَّ ـ فهو إلى نهاية، وربما يضل عمله الصالح الذي أوقعه في حياته ممتدًا في بقائه مئات أو ألوف السنين من بعد وفاته، ونهر الحسنات الجاري يصبٌّ في ميزان أعماله، ويكتب في ديوان أفعاله.
والموفق من ألهمه الله، والمسدد من هداه مولاه!
ويزيد بك العجب أن تعلم أن أُناسًا يعملون الصالحات في زمنٍ, متأخر تكتب أعمالهم في ميزان حسنات من سبقوهم بقرون من الزمان.
ويزيد الأجر ويعظم الثواب كلما اتسعت رقعة الفائدة وعمَّت مساحة الانتفاع.
فيا لله كم يسعد أقوام بحسنات غيرهم!
وكم يشقى آخرين بسيئات سواهم!
قال - تعالى -: (ولكلٍّ, وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا)
والأصل عند المسلمº استغلال الحياة في الباقيات الصالحات قبل الممات فيما يُقرَّب من ربِّ الأرض والسموات.
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رجلان من بلي من قضاعة، أسلما مع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فاستشهد أحدهما، وأُخِّر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه: فرأيت المؤخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سُنَّة \"
وفي رواية، قال لهم رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" من أيِّ ذلك تعجبون؟ \" فقالوا: يا رسول الله! هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا، ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله. فقال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" أليس قد مكثَ هذا بعدهُ سنةً؟ \" قالوا: بلى. قال ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" وأدركَ بعده رمضان فصام، وصلى كذا وكذا من سجدةٍ, في السَّنَةِ؟ \" قالوا: بلى. قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" فما بينهما أبعدُ مِمَّا بين السَّماء والأرض \"
تزوَّد للذي لابُدَّ منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيقَ قومٍ, لهم زادٌ وأنت بغير زاد
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد