بسم الله الرحمن الرحيم
5. الأنس بالله: وهو روح القرب، ومن أجل هذا الفهم صدر صاحب المنازل هذه المنزلة بقوله:\"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان\"فاستحضار القلب لهذا البر والإحسان واللطف يوجب قربه من الرب _ سبحانه و تعالى _ وقربه منه يوجب له الأنس، والأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس، كما أن كل عاصٍ, مستوحش
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنسِ والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة، ولذلك حبب إليه الخلوة في غار حراء لأنسه بربه عن الخلق، وهذا مجرب ومنه الاعتكاف الذي هو: الانقطاع عن الخلائق لغرض التفرغ بالاتصال بالخالق، والأنس يكون بالحقيقة، وهو ما يقوم بقلب العبد حتى كأنه سيشاهده ويبصره لغلبته عليه، فمنهم من يكون شاهده العمل، ومنهم يكون شاهده الذكر، ومنهم المحبة، ومنهم الخوف…..
وشاهد الحال وهو الأثر الذي يقوم به ويظهر عليه من عمله وسلوكه وحاله، فإن شاهده لابد أن يظهر عليه\"سيماهم في وجوههم من أثر السجود\"
6. الإيثار: وهو مركب من ثلاث خصال: الجود، والسخاء، والرحمة، والبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل\"إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا\"
فالبخيل من أجاب داعي الشح، والمؤثر من أجاب داعي الجود، كذلك السخاء عما في أيدي الناس وهو أفضل من سخاء البذل.
والعبد مع المال: إما ألا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو بمنزلة السخاء، أو يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً فهو الجود أو يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو الإيثار.
وعند التأمل نجد أن المحل في ذلك كله هو القلب وحقيقته تعبده لربه بقطع التعلق إلا بالله وحده.
7. الإنابة: وهي الرجوع بعد الكبوة، فهي طريق المراقبة، واستشعار الخشية، وملازمة الخوف مع التعظيم لما وقر في القلب لله _جل جلاله_\"وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب\"
أواب ومنيب عليها المدار في استحقاق هذه المنزلة.
قال ابن القيم _ رحمه الله _ في (طريق الهجرتين(1 ) بعد ذكر أنواع الإنابات):
\"فأعلى أنواع الإنابة إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم، وحيث أنابت إليه أرواحهم لم يختلف منهم شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح، فلما أنابت الروح بذاتها إليه إنابة محب صادق المحبة وليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أنابت جميع القوى والجوارح فأناب القلب أيضاً بالمحبة والتضرع والذل والانكسار، وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها وتحكيمه إياها دون غيرها فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت لأوامره خاضعة له، وداعية فيه، ومؤثرة إياها على غيره فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر، وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضاً إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليماً لحكمه، وقد قيل: إن تدبير العبد لنفسه هو آخر الصفات المذمومة في النفس، وأناب الجسد في الأعمال والقيام بها فرضها وسننها على أكمل الوجوه، وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها وإن كانت عذبة في مباديها فإنها عذاب في عواقبها، فإنابة العبد ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره، فأين إنابة هذا من إنابة من قبله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بل هذه روحه منيبة أبداً وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال فهي كامنة فيها كمون النار في الزناد، وأما أصحاب الإنابات المتقدمة، فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر والابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتاً عمن قد أناب إليه فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعي نفسه وطبعه، والله الموفق المعين لا رب غيره ولا إله سواه\"
8. سلامة القلب من الصفات المذمومة من الكبر والحسد والتفاخر المذموم، مع ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، ولا يخفى أن القلب يمرض كما تمرض سائر الجوارح وأعظم المرض مرضه، بل عليه المدار في صحة الجوارح واستقامتها، ومتى ما فرط العبد بقلبه سلك به المسالك المردية\"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون\"أي: غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية، والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ويفقده الحساسية شيئاً فشيئاً حتى يتبلد ويموت.
وفي الحديث\"إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت\"وقال الحسن:\"هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت\".
فإياك ومواجع القلب، فتهلك من حيث لا تشعر، وطهِّر قلبك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وبعد فهذه أسطر رقمتها لعل الله أن ينفع بها كاتبها قبل قارئها، ولتعلم أن أصل الدين في أعمال القلوب الباطنة، وأن الأعمال الظاهرة بدونه لا تنفع، وأن الأعمال الظاهرة هي دليل صدق الأعمال الباطنة.
فاحرص على قلبك وراقبه، واعرف قدره واشتغل بصلاحه، ومن أعظم ما يصلحه كثرة الذكر فإن من أحب شيئاً أكثر ذكره، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــ
1- طريق الهجرتين ص (173)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد