العبد بين جيوش الدنيا وجيوش الآخرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -:

أقام الله - سبحانه - هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع، فافترقوا فرقتين: فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.

وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا، وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرَّعنا إليك وذكرناك، فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزَّقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين كما إن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم، فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتلº إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين فأنت مع أحدهما لا محالة فالفريق الأول استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه، وفرَّغوا قلوبهم للفكر فيما خُلِقوا له، وجوارحهم للعمل بما أُمِروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها، فعجّل لهم – سبحانه - من نعيم الجنة وروحها أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوَّقهم إلى لقائه، ونعَّمهم بقربه، وفرَّغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا، والهمّ والحزن على فَوتها، والغمّ من خوف ذهابها فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply