بسم الله الرحمن الرحيم
تمام النعيم ونهاية المراد والغاية التي شمّر لها السالكون.
إن أصل الدين وأصل أعماله هو محبة الله ـ تعالى ـ والأنس به والشوق إلى لقائه، وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق، ومتى ما أحب العبد مع ربه مخلوقاً مثل حبه لربه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل، قال تعالى: [ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله].
وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين، ومحبته تبع لمحبة الله ـ تعالى ـ فما الظن بمحبته سبحانه؟ وهو لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، ومن عبادته كمال محبته، فمحبة الله ـ سبحانه ـ والأنس به والشوق إلى لقائه، والرضا به وعنه أصل الدين وأصل أعماله، كما أن معرفته، والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها.
فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهه أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال, والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم - عليه الصلاة والتسليم-.
فالمخلوق كلما خِفـتـَهُ استوحشت منه، وهربت منه، والله ـ سبحانه ـ كلما خِفتـَهُ آنست به وفررت إليه. والمخلوق يُـخَاف ظلمه وعدوانه، والله سبحانه إنما يُخَافُ عدله وقسطه.
وكذلك المحبة، فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحب ووبال عليه، وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له بها من اللذة، وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم، هذا إلى ما في محبته من الأعراض عنك، والتجني عليك وعدم الوفاء لك، إما لمزاحمة غيرك من المحبين له، وإما لكراهته ومعاداته لك، وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه منك، وإما لغير ذلك من الآفات.
أما محبة الله سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها، ومولاها، وربها، ومدبرها، ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم وسرور النفوس، وحياة الأرواح، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه.
والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.
كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: (( إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيب)) وقال آخر: (( إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طرباً بأنسه بالله وحبه له)) وقال آخر: (( مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها !! قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه)) وقال آخر: (( لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف)).
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب القرب من الله. وكلما كانت المحبة أكمل، والقرب من الله أوفر كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى، فمن كان بالله ـ سبحانه ـ وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب، وجد من هذه الحلاوة في قلبه مالا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حباً لغيره، ولا أُنساً به، وكلما أزداد له حباً أزداد له عبودية وذلاً وخضوعاً ورقاً له، وحرية عن رق غيره. فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولن يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقاً، حتى يظفر بما خلق له وهُــِّيئ له: من كون الله نهاية مراده، وغاية مطلبه، فإن فيه فقراً ذاتياً إلى ربه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره.
وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبوديته له. والعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه، وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت، فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدّم عليها لذة وشهوة، لا نسبة بينها وبينها بوجه ما، بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته للقلب يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس وينهاه عما يُـشـعـِّـثـه وينقصه.
وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد