بسم الله الرحمن الرحيم
هل قرأت حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه وصف لمرحلة البرزخ التي ما من أحد إلا وسيمر بها وهذا الحديث أيضاً قد انتظم فيه جميع أفراد الناس: المؤمن والكافر، والحر والعبد.
اقرأ واعتبر أخي في الله.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
فهذا بيان حال سائر الناس عند نزوع الروح وفي القبور نسأل الله العافية والسلامة:
جاء بيان هذه الحال في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث فيه وصف لمرحلة البرزخ التي ما من أحد إلا وسيمر بها، وهذا الحديث أيضاً قد انتظم فيه جميع أفراد الناس: المؤمن والكافر، والحر والعبد.
وفيما يلي أورد نص الحديث كما ذكره الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، حيث عني بجمع طرقه ورواياته وألفاظه، فمن شاء تفصيل هذه الأمور فليرجع إليه في كتاب: (أحكام الجنائز).
وإليكم أخوتي في الله نص الحديث: عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قـال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من ا لأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة، وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكث في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثاً، ثم قال: (أن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط فذلك قوله - تعالى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنَا وَهُم لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61).
ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمون بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل - اكتبوا كتاب عبدي في عليين ((وَمَا أَدرَاكَ مَا عِلِّيٌّونَ. كِتَابٌ مَرقُومٌ. يَشهَدُهُ المُقَرَّبُونَ)) (المطففين:19_21).
فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولو عنه مدبرين، فيأتيه ملكان شديد الانتهار فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله - عز وجل -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلٌّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(إبراهيم:27) فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي منادٍ, في السماء: أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا عليه باباً إلى الجنة.
قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه وفي رواية: يمثل له رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً.
ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي فيقال له: اسكن.
قال: وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر.
ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تُفَتَّحُ لَهُم أَبوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاط))(لأعراف: من الآية40)، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده ثم قرأ: ((وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخطَفُهُ الطَّيرُ أَو تَهوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ, سَحِيقٍ,))(الحج: من الآية31).
فتعاد روحه في جسده قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان له: فما في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال: محمد، فيقول: هاه، هاه لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دَرَيت ولا تَلَوت فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه وفي رواية: ويمثل له رجل قبيح الوجه قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً على معصية الله، فجزاك الله شراً.
ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً فيضربه ضربةً حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان فيضربه ضربةً أخرى فيصيح صيحةً يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فراش النار، فيقول: (رب لا تقم الساعة). [صحيح رواه جمع من الأئمة].
فانظر يا أخي إلى حال الكفار والفجار في تلك الساعة.
إنهم يعانون الأهوال الفظيعة والكرب الشنيعة حال الاحتضار قال الله - عز وجل -: ((وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيدِيهِم أَخرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُم تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آيَاتِهِ تَستَكبِرُونَ ))(الأنعام: من الآية93)، وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه فإن هذا الخطاب والعذاب الموجه إليهم إنما هو عند الاحتضار، وقبيل الموت وبعده، وفيه دليل على أن الروح جسم يدخل ويخرج، ويخاطب ويساكن الجسد، ويفارقه فهذه حالهم عند البرزخ.
وهذا كقول الله - تعالى-: (( وَلَو تَرَى إِذ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضرِبُونَ وُجُوهَهُم وَأَدبَارَهُم وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ ))(لأنفال:50)، وثبت في حديث البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره يجيئه ومعه ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه، ويقال لروحه: (اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم، وظل من يحموم، فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب).
كما أن لهم الذلة والهوان والفزع عند البعث والنشور:
قال الله - تعالى - مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور: (( يَومَ يَخرُجُونَ مِنَ الأَجدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُم إِلَى نُصُبٍ, يُوفِضُونَ . خَاشِعَةً أَبصَارُهُم تَرهَقُهُم ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليَومُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ))(المعارج:43،44)، فيخرجون من الأجداث: أي القبور سراعاً مجيبين لدعوة الداعي كأنهم إلى علم يؤمون ويقصدون، فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي ولا الالتواء على نداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين بين يدي رب العالمين، ذلك الحال الذين هم عليهم هو ما وعدهم إياه ربهم - جل وعلا -، ولابد من الوفاء بوعد الله - تعالى -.
ثم تأمل مقدار الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم إذ يقول ربنا - جل وعلا -: ((وَأَنذِرهُم يَومَ الآزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ, وَلا شَفِيعٍ, يُطَاعُ ))(غافر:18)، ويوم الآزفة: أسم من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لاقترابها كما قال - تعالى -: (( أَزِفَتِ الآزِفَةُ. لَيسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ))(لنجم:57،58).
وقوله: (( إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ, وَلا شَفِيعٍ, يُطَاعُ ))(غافر: من الآية18) أي وقفت القلوب في الحناجر فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، ومعنى كاظمين: أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه، وقيل: باكين يؤتى بهم مربوطين بالأغلال والسلاسل، ويسربلون بالقطران، وتغشى وجوههم النار، كما قال - تعالى -: (( يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ. وَتَرَى المُجرِمِينَ يَومَئِذٍ, مُقَرَّنِينَ فِي الأَصفَادِ. سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ, وَتَغشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ))(إبراهيم:48 - 50).
وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور، وعذرهم غير مقبول، فييأسوا من رحمة الله قال - تعالى -: (( وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبلِسُ المُجرِمُونَ ))(الروم:12)، ويتمنى المجرمون أن يعودوا ويرجعوا إلى الدنيا ليكونوا من المؤمنين المتقين فيعملوا الصالحات، ولكن ولات حين مناص، ويبلغ الأمر أنهم يتمنون أن يكونوا تراباً لشدة ما يرون من العذاب والنكال قال الله - تعالى -: (( يَومَئِذٍ, يَوَدٌّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَو تُسَوَّى بِهِمُ الأَرضُ وَلا يَكتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ))(النساء:42)، وقال - تعالى -: (( وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيتَنِي كُنتُ تُرَاباً ))(النبأ: من الآية40)، فهذا هو حال الكفار والعياذ بالله، وفي المقابل حال الأتقياء الذين قال الله - تعالى - عنهم: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ. نَحنُ أَولِيَاؤُكُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِن غَفُورٍ, رَحِيمٍ, ))(فصلت: 30-32).
قال الإمام البغوي - رحمه الله -: (تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ) قال ابن عباس: عند الموت، وقال قتادة ومقاتل: إذا قاموا من قبورهم، قال وكيع بن الجراح: البشرى تكون في ثلاث مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث.
وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (( نَحنُ أَولِيَاؤُكُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ )) أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا أولياؤكم، أي: قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم إلى جنات النعيم.
فبعد أن تقبض روح المؤمن وتخرج الروح إلى بارئها نجد أن القرآن يخبرنا عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة زمراً - أي جماعة بعد جماعة -، المقربون ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكاله، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، وإذا وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.
يتقلبون في نعيم مقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أخي المسلم، أختي المسلمة:
إن وصف نعيم الجنة وما أعده الله لعباده المؤمنين مما يطول وصفه ولا يوفى حقه قال - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله - عز وجل -: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: (( فَلا تَعلَمُ نَفسٌ مَا أُخفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ, جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ ))(السجدة:17)) [ رواه البخاري ومسلم وغيرهما ].
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير حذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فانظر يا عبد الله مقامك، وتوهم مآلك ومن أي أولئك تكون فإن أعظم الخسارة خسارة أولئك الذين وصفهم الله - تعالى- بقوله: ((قُل إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ ))(الزمر: من الآية15)، وأعظم الفوز والفلاح هو فوز من قال الله - تعالى- عنه: (( فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَاز ))(آل عمران: من الآية185).
فيا عجباً ممن باع ما لا عين رأت، وما لا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بمتاع زائل، وصباب عيش إنما هو كأضغاث الأحلام، أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص أحزانه كثيرة، أضعاف مسراته وبكائه كثير.
واعجباً ممن الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وممن باع جنة (( جَنَّةٍ, عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ ))(الحديد: من الآية21)، وباع نداء المنادي: (يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبوا فلا تهرموا) بغناء المغنين.
فتذكر يا غافلاً عن الآخرة، وتفكر في الموت وما بعده، فكفى به قاطعاً للأمنيات، وحارماً للذات، ومفرقاً للجماعات.
كيف والقدوم على عقبة كؤود، ولا يدرى المهبط بعدها إلى النار أم إلى الجنة، فاعمل على أن تلقى الله - عز وجل - وهو راض عنك غير غضبان، واعلم أن الخواتيم ميراث السوابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - تعالى - قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار) ولا أدري في أي القبضتين كنت.
وقال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق، وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتم، فكل يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ويقول: يا رب قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك، فهل فكرت مثلهم يوماً يا أخي الحبيب، وهل قلت قولهم؟ وهل بت ليلتك تبكي على حالك بعد الموت، وفي أي الفريقين أنت، افعل ذلك ولو مرة واحدة يجعلها الله في ميزان حسناتك.
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وصرفها على طاعتك، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد