بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جئت إلى الرياض محملاً بآمال عظيمة وأمان سعيدة... الدراسة، ثم التخرج، ثم الوظيفة، ثم الذكرى الجميلة، والسمعة الحسنة بين أهلي وأقاربي وقبيلتي.. ولا أنسى حماس أبي ودعوات أمي وقلقها ونحن نتردد أنا وأبي على مدينة الرياض بحثاً عن القبول لتحقيق أمنياتي وآمالي.. لقد تحمل أبي الكثير والكثير، وترك أعماله وطلب الرزق ليأتي معي إلى الرياض أثناء البحث عن مكان دراسي في الجامعة، أو مقعد في كلية عسكرية.. ولا أنسى عناءه المادي والمعنوي وهو يشتري تذاكر السفر من مدينتنا إلى الرياض، ومن ثم السكن في الفنادق والشقق أيام البحث عن هذا المستقبل والدراسة العليا، ولكم تألمت وأنا أراه يقترض من بعض الأقاربº ليستكمل مصاريف تلك الأيام التي ترددنا فيها على الرياض، وكنت أقول في نفسي: حينما أجد القبول في الجامعة، أو الكلية العسكرية سأبذل جهدي لأتخرج وأتوظف، وأحصل على الراتب المناسب لأعوض أبي عن هذه الأيام القاسية.
كان أبي يجري من مكتب إلى آخر بحثاً عن الشفاعة والواسطة من أجلي، فتم ولله الحمد قبولي، وعدنا إلى مدينتنا فرحين مسرورين، وأقيمت الولائم والمناسبات في بلدتي الصغيرة من أعمامي وأفراد قبيلتي فرحاً بقبولي وحصولي على ما كنت أنا وأفراد عائلتي وقبيلتي نتمناه، وقبل بداية الموسم الدراسي بأيام غادرت بلدتي محملاً بالسعادة والوعود والآمال والكل فرح سعيد، فهذه والدتي تلقي على أذني الوصايا والنصائح من أجل الحفاظ على ديني ودنياي، وأسرّت أمي بأذني من باب التحفيز والتشجيع: \"سأخطب لك فلانة.. الخلوقة الجميلة.. سأحجزها لك.. أسرع في دراستك، وستجدها بانتظارك عندما تتخرج وتعود\"، وهذا والدي يشد من أزري، ويصور لي المستقبل، وأنا ذلك الموظف المرموق، وهذه أختي الكبيرة وزوجها يودعونني بالهدايا، والكل يأمل ويأمل.
وصلت مدينة الرياض، وبدأت الدراسة، فانتظمت كأحسن الطلاب، وثابرت، واجتهدت، وحرصت، وبذلت، ومرت الأيام وأنا من نجاح إلى نجاح، ومن فرحة إلى فرحة. ووجدت في زملاء الدراسة عوضاً عن الأهل والأصدقاء، ووجدت أن مجموعة منهم هم من أهل مدينتي، وبعضهم من نفس القبيلة، فعشنا معاً في صفاء وتعاون في مقاعد الدراسة وفي السكن، وقمنا بتكوين شلة رائعة من أبناء المنطقة التي أتيت منها فصرنا أنموذجاً من نماذج الإخاء، والصداقة، والتعاون.. شلة من الأصدقاء نشترك جميعاً في هموم مشتركة.. هم الدراسة، وهم الغربة، فنحن جميعاً من خارج الرياض، ويجمع بيننا الانتماء والمحبة. وحيث إن منطقتنا بعيدة عن مدينة الرياض، ولا يستطيع كل واحد منا شراء تذكرة سفر لزيارة أهله في كل عطلة نهاية أسبوع فقد قررنا أن نجتمع معاً بالإضافة إلى بعض أبناء مدينتنا الذين يدرسون في معاهد وكليات وجامعات مختلفة في مدينة الرياض في عطلة نهاية الأسبوع، ونستأجر شقة مفروشة نمضي فيها يومي الخميس والجمعة في اجتماع ومحبة، وتداول الأحاديث الودية، وتجهيز بعض الوجبات الشعبية التي نحبها، ثم تطور الأمر إلى استئجار شقة بعقد سنوي دائم، وأصبحت مرتعنا وملهانا، ومكان تجمعنا بعيداً عن الشقق المفروشة التي طالما أزعجنا فيها موظف الاستقبال بشكوكه، وطلبه للإثباتات والبطاقات الشخصية، وطالما طلب منا عدم الإزعاج أو يرفضنا لأن الشقق للعوائل.
كان لي بعض الأقارب يسكنون في مدينة الرياض ولكنني لم أتواصل معهم جيداًº لأنني أحببت شلة الطلاب الشباب من مدينتي، فكنا نجتمع وفينا الطالب الجامعي، ومنا الطالب العسكري، ومنا الطالب في المؤسسات والمعاهد المختلفة، ولا أخفيكم أن اجتماعاتنا هذه يشوبها بعض المخالفات الشرعية، فمرة يأتي أحدهم بسيجارة مخدر، ومرة زجاجة خمر محلي أو أجنبي، ومرة فيلم فيديو إباحي، ومرة كرت إباحي لفك شفرات القنوات الإباحية الخليعة، وهكذا تستعر الشهوات، وتستحث فينا الشهوة الجنسية، ثم يخرج بعضنا للتجول في الأسواق، ومعاكسة الفتيات، وتنتهي الجولة في أحد المطاعم للعشاء، ثم نعود لهذه الشقة المستأجرة التي صرنا نسميها (الوكر) لتزايد المخالفات الشرعية والفساد فيها، وكنا كل يوم يتعلم بعضنا من بعض الكثير من وسائل الإفساد، وتطور الأمر، وزادت المخالفات الشرعية بيننا. وذات مساء من أمسيات الخميس الصارخة هاتفني بعضهم: \"بسرعة عد إلى الشقة وجدنا صيدة رهيبة\" وانتقلت الرسالة لشلة الأنس، فاجتمعنا مرة أخرى في الشقة، فرأيتها شابة بيضاء اللون، ذات مسحة رائعة من الجمال والدلال، واللباس الخليع المثير، ومعها أخرى لا تقل عنها جمالاً وإغراء...
قام بعضنا بتهنئة البعض على توفر هذا الصيد الثمين، ورحنا نمارس الرذيلة معهن واحداً تلو الآخر، ودفع كل واحد منا ما جمعه من مكافأة أو مرتب لقاء تلك الليلة التي أفرغنا فيها ما أثارته في نفوسنا تلك القنوات، والأفلام الإباحية، وطالت تلك الليلة أو قصرت، لا أدري؟!!.
توالت لقاءاتنا، وصرنا ندور في الأسواق كالمسعورين بحثاً عن فريسة، وهكذا صرنا نتحمس للقاء عطلة نهاية الأسبوع بكل رغبة، ونوفر لهذين اليومين كل ما نستطيع من أموال، نتفرغ لهما بما استطعنا وتكاسل بعضنا عن دراسته، وانقطع بعضنا عن زيارة أهله رغبة في هذا اللقاء، وتوالت اللقاءاتº ولكننا لم نظفر بمثل تلك الصيدة التي أخذت منا القلوب والأسماع، وكل ما حصلنا عليه بعد ذلك وعود ومعاكسات هاتفية، وخداع من بعض الفتيات. ومرت الأشهر ونحن مبهورون بهذه الحرية والانطلاق.
بعد أشهر وعند عودتنا من إجازة الصيف، وبدء الدراسة لم يكن يشوقني للرياض إلا هذه الشلة، وهذه اللقاءات، فرغم كرهي للرياض وازدحامها والغربة إلا أنني وجدت في تلك الشلة والشباب والتسكع بين الأسواق والشقق المفروشة أنيساً وجليساً، وبعد أيام من بدء الدراسة، أصيب أحد أقاربي بعارض مرضي نقل على إثره للرياض لإجراء عملية جراحية، واحتاج لنقل دم من أجل العملية، فذهبت مع بعض أقاربي للتبرع بالدم في مستشفى (...) وتبرعت بدمي، وبعد يوم من التبرع اتصل بي موظف مختبر الدم في ذلك المستشفى، وطلب مني المراجعة بسرعة لإعادة فحص الدمº لاشتباه طبي بوجود فيروس خطير في دمي!! حينما راجعتهم مسرعاً أخذوا مني عينة أخرى للدم، وطلبوا مني أن أعود من الغد لاستلام نتيجة الفحص، فعشت قلقاً طيلة يومي وليلتي، وذهبت في الصباح الباكر، والقلق، والخوف، والفزع، يسيطر عليّ، ولم أستطع إخفاء مشاعر الخوف والقلق، وعندما وصلت إلى المختبر عرفتهم بنفسي، فطلب مني أحد الموظفين أن أدخل إلى غرفة طبيب المختبر، فزاد خفقان قلبي، وارتعدت فرائصي، وتصبب عرقي، ولم أستطع الوقوف، فطلب مني الطبيب الجلوس على الكرسي، فسقطت على أحد الكراسي وأنا أتمتم بشر يا دكتور؟؟!! قلب الطبيب أوراقاً أمامه، وتمعنها، ومضت ثوان خيل لي أنها ساعات بل أشهر، وسمعت أصوات دقات قلبي وكأنها طبول حزينة مخيفة، وصوت طنين غريب في أذني، فتمالكت نفسي، أعدت السؤال على الطبيب: بشر يا دكتور؟؟... فقال الطبيب بصوت هادئ، ونبرة بطيئة: لقد أعدنا الفحص عدة مرات وكل مرة يظهر الاختبار إيجابي... إنك تحمل فيروس الإيدز.
دارت الدنيا في رأسي، وشعرت بدوار رهيب يلفني، ويموج بي، وشعور غريب يحيط بي، وغابت المناظر من أمام عيني، وشعرت بأنني سأغيب عن الوعي، ولم أشعر بعدها إلا وأنا مسجى على أحد الأسرة، وحولي طبيب وممرضة يلبسون القفازات، ويضعون على أفواههم كمامات مانعة لانتقال العدوى، وينظرون إليّ بشفقة ورحمة!! شعرت بالغثيان، ودارت الدنيا برأسي مرة أخرى، وشعرت أنني سأغيب عن الوعي مرة أخرى، ثم عاد إليّ وعيي فنظرت وأمعنت النظر!! فإذا أنا داخل غرفة في المستشفى!! فقال لي الطبيب: كيف حالك يا أحمد؟ وأردت الإجابة بسرعة ولكن غص بها حلقي، وتذكرت أين أنا؟ ما الذي جاء بي إلى هنا، وكيف دخلت هذا المستشفى، فعلمت بسرعة قصتي كاملة، ومرت عليّ أحداثها وكأنها فيلم طويل مخيف!!! فجال في خاطري خواطر وخواطر، وسال وادي الذكريات، وتمثّلت لي قصة متكاملة: \"تلك الليلة، وتلك الفتاة الصيد، والإيدز، والموت، والمستشفى، والمختبر... تضاربت الخواطر\" مر شريط سريع من الأحداث والمواقف!! تراءت لي صورة أبي وهو يبتسم لي أثناء الوداع، ثم أمي وهي تملي عليّ النصائح والوصايا... لا تصاحب أهل الفساد، لا تتخلف عن مجالس الخير والفضلاء... شريط طويل متموج...
أبي... أمي... أختي وهي تهدي إلي هدية جميلة أثناء مغادرتي بلدتي.. شريط متسارع متتابع وكل لقطة فيه لها معنى... بل معان وتاريخ ونهاية... ، ثم أفقت من هذه الخواطر على صوت الطبيب يكرر سؤاله: كيف حالك يا أحمد؟ أفقت على الحقيقة المؤلمة... سكت قليلاً... أردت الإجابة فلم أستطع.. لم تخرج الكلمات... حاولت، ثم حاولت.. ولكني انفجرت باكياً، وأصبت بحالة هستيرية، وأخذت أصرخ.. لا تخبروا أبي.. لا تخبروا أمي.. لا تخبروا أحداً... ماذا؟؟ إيدز؟؟ أنا أحمل إيدز؟؟ وأخذت أبكي كالطفل، وأردد كلمات الأسى والحزن!! أخذ الطبيب يحادثني، ويشرح لي الإجراءات والاحتياطات اللازمة... أنت ناقل لمرض الإيدز... يجب عليك الآن أن!! !! ، والآن... !!... لا تنقل العدوى للآخرين... لا تتزوج... لا تتبرع بالدم... لا تخالط الناس... لا... لا..
قائمة طويلة ومحاذير... فأكملت أنا من غير شعور: لا... لا... لا... لا... لماذا؟ لماذا؟؟ أنا؟؟ ماذا أفعل؟ تداخلت الكلمات.. ماذا يقول أبي؟ ماذا تقول أمي؟؟ أهلي؟؟ عشيرتي؟ قبيلتي؟... لا... لا... أقتلني يا دكتور...!! أعمل أي شيء!! لا أريد أن أُفضح أمام الناس.. (ثم انفجرت باكياً).
بعد فترة من الهدوء سألني الدكتور: متى فعلتها؟
قلت: ماذا؟ ما هي؟ من هي؟ فتصورت تلك الفتاة، وتلك الليلة!!
الدكتور: متى مارست الزنا؟ وأين؟ هل كان ذلك خارج المملكة؟ أو: هل نقل لك دم ملوّث بالإيدز؟
-: لا... لا... فأنا طالب عسكري!! لا يسمح لي بالسفر، ولا أملك جواز سفر...!! ولكنني فعلتها هنا!! في الرياض!! كانت فتاة جميلة، ونظيفة، وأنيقة وحسبناها صيداً ثميناً لا يمكن التفريط فيه..!! ولكن... قاطعه الدكتور: حسبناها؟ من؟ هل معك أحد؟ من هم الآخرون؟ أجب يا أحمد: هل معك أحد؟
-: نعم!! نعم...!! معي فلان وفلان وخالد وأسعد.. و... نحن تسعة!!
الدكتور: تسعة؟؟ يا للكارثة!! تسعة..؟؟ هل تسمح بإخبارهم ليأتوا للفحص؟ يجب أن تخبرهم قبل استفحال الأمر وينقلونه للآخرين، أو ينشط الفيروس لديهم قبل بدء الإجراءات العلاجية التي تخفف من نمو الفيروس.
-: لا...! لن أخبر أحداً! ولن أدعو أحد!
الدكتور: ولكن هذه أمانة ومسئولية! يجب أن تفعل ذلك خدمة لدينك وأمتك وأصدقائك..
-: وماذا عني؟ هل سأموت؟ متى؟
الدكتور: أنت الآن تحمل هذا الفيروس الخطير في دمك وبعض أنسجة جسمك، وسيبقى هذا الفيروس في جسمك كامناً وغير نشط لفترة قد تطول وقد تقصر، من أسابيع أو أشهر إلى سنوات.. سنتين.. ثلاث سنوات.. أربع.. أقل أكثر... ولكن عليك أن تأتي للفحص كل أربعة أشهرº لكي نكتشف وقت نشاط الفيروس في الوقت المناسب، ونعطيك بعض العلاج الذي يخفف نمو الفيروس، ويقلل من شدته..
-: وبعد أن ينشط الفيروس؟ ماذا يحدث؟
الدكتور: تبدأ بالمعاناة، وتفتك بجسمك الأمراضº لأنك ستصبح بدون مناعة.. وبعد أشهر... بعد أشهر... لا أدري!
ماذا؟ بعد أشهر؟ ماذا يحصل؟
الدكتور: عموماً انتبه لنفسك الآن، وراقب الأعراض المرضية، وسارع إلى المستشفى إذا شعرت بإصابة أو التهاب أو حرارة أو إسهال سارع إلى هناº لكي نبدأ العلاج لتخفيف الأعراض...
هل سأشفى؟ متى؟
الدكتور: هذه الأمراض أعيت الباحثين والأطباء..! للأسف لا يوجد علاج قطعي للإيدز يا أحمد.. كل ما لدينا أدوية لتخفيف الأعراض، وإبطاء نمو الفيروس...
كيف؟ هل سأموت؟ متى؟
الدكتور: الله أعلم؟ هذا كله بيد الله! الآن يجب أن تخبر زملاءك الآخرين، وتطلب منهم المجيء إلى هنا للتأكد من صحتهم، وهل أصيبوا أم لا؟
خرجت من المستشفى وأنا أحمل حزني وهمي، تثاقلت الخطى!! نظرت إلى الناس والمراجعين وأنا أغبطهم أنهم ليسوا من مرضى الإيدز... نظرت إلى مريض على كرسي متحرك فتمنيت أن أكون مثله.. أن أكون مصاباً بأي مرض إلا الإيدز...
خرجت إلى الشارع ولون الأرض غير لونها الذي عرفته من قبل، بل وبدا لي لون الشمس شاحباً هزيلاً... وقفت على الرصيف منتظراً... ماذا؟ أنا أحمل فيروس الإيدز؟ كيف سيتقبل أبي الخبر؟ أمي؟ قبيلتي؟ ماذا يقول الناس عني؟... هل سأعيش؟ إلى متى... نظرت إلى السماء.. نظرة حزين بائس محطم،.. أفقت على فرامل سيارة ليموزين وهي تصطرخ بجواري، والمنبه يزعجني ويقطع حبال أفكاري الحزينة البائسة. ابتسم سائق سيارة الأجرة، وضحك لي من باب مجاملتي وهو يدعوني للركوب، فنظرت إليه نظرة متفجرة وأنا أقول في نفسي: يحق لك أن تضحكº لأنك لا تحمل فيروس الإيدز.. يحق لك أن تفخر بصحتك وعفافك...
كان بصري يتجول في الشوارع، وأنظر إلى الناس وأغبطهمº لأنهم لا يحملون فيروس الإيدز القاتل، رجعت إلى غرفتي الكئيبة الحزينة البائسة التي بدا لي أنها يملؤها الأسى والظلام، وبدا لي أن كل شيء قد اكتسى بحزني وبؤسي... حتى الأثاث بدت عليه أمارات البؤس، حاولت النوم والاسترخاء... فلم استطع.. لا النوم يأتيني، ولا الفرح يعرفني، وحتى السعادة التي أحاطت بي تلك الأيام أصبحت كابوساً مزعجاً، وذكريات مخيفة قاتلة، لم أستطع حتى البكاء، تحشرجت الدموع، وغص بها حلقي... بدأت بالاتصال بزملائي الذين عاشوا معي تلك الليلة القبيحة واحداً تلو الآخر وأخبرتهم! فسمعت منهم عبارات اللوم، والتعنيف، والسب، والشتم، فعذرتهمº لأن هذه مفاجأة حزينة مرعبة، وطلبت من كل واحد منهم أن يذهب للتأكد والفحص، وصرت بعدها أسمع الأخبار المفاجئة عن كل واحد من شلتنا المفجوعة التي جمع بيننا فيها العبث واللهو المحرم.
لقد ثبتت إصابتنا جميعاً بهذا الفيروس، نعم هؤلاء التسعة.. وأنا منهم.. وعاشرتنا تلك الفتاة وصاحبتها... ماذا؟! إيدز.. نعم إيدز.. تفرقت بنا السبل، وصد كل واحد منا عن الآخر وعن المجتمع، وترك معظمهم مقاعد الدراسة، وفصل آخرون قسراً وعقاباً، وطردوا من كلياتهم ووظائفهم بسبب هذه الوصمة القبيحة (مريض إيدز) وتشتت هذه الشلة وتفرقت، فمنهم طريح الفراش أو المستشفى... ومنهم من هرب من نفسه ومن مجتمعه، ومنهم من اختفى عن أنظار المجتمع، ومنهم من مات بعد أسابيع من نشاط الفيروس.. ولا أدري عن المصير الذي ينتظر بقيتنا، أما أنا فلا تسألوني عن حالي: فلقد سيطر عليّ الهم والغم، وتركت الدراسة، وانعزلت عن مجتمعي، وانقطعت عن أهلي وأبي وأمي فلا أزورهم إلا شتاتاً ولفترة قصيرة وأنا أحمل الوساوس والمخاوف من أن أنقل لهم مرض الإيدز.. ومن شدة ألمي وحرصي على أن لا أنقل إليهم الفيروس أصبحت أتحدث إليهم من بعيد، ولا أصافحهم، ولا أقبلهم كما كنت أفعل من قبل!! بل لقد افتقدت أحضان أمي وشعورها العميق لي بالحنانº إذ إنني أحاول البقاء بعيداً عنها، ولا أرمي بنفسي عليها، وأسقط في أحضانها كما كنت أفعل من قبل، وصرت مثل المحكوم عليه بالإعدام... ويردني من وقت لآخر أخبار متقطعة عن أبناء مدينتي التسعةº فتارة أسمع أن فلاناً من هؤلاء التسعة أصيب بمرض غامض أقعده في الفراش، ثم نقل للمستشفى وهو بحالة خطرة، ولا يدري أحد ما هي أحواله، وما هو مرضه!! فيقشعر بدني، وأصعق من هذه الأخبارº لأن الدور سيكون عليّ، أدري ما الذي سيحدث لي لاحقاً، ومتى سيوقعني هذا المرض في براثنه التي أكاد أراها تطبق عليّ، وتحيطني من كل جانب، ولا يصعقني ويضايقني أشد من سؤال أبي لي: كيف الدراسة؟ متى ستعود لاستكمال دراستك؟ متى ستتخرج؟ وأنا أكاد أن أجيبه الإجابة التي ستصعقه، وقد تودي به إلى الموت، وهي أنني أنتظر الموت ولا فرصة لي لانتظار التخرج والوظيفة إلا أن يشاء الله - تعالى -.
اعذرني يا رب فقد عصيتك، وارتكبت الزنا المحرم... وهاآنذا ألقى جزائي وعقوبتي.. وأسألك يا الله أن تجعلها عقوبة الدنيا فقط وتعوضني في الآخرة بجناتك ونعيمك... اللهم تب عليّ.
اعذرني يا أبي... أعذريني يا أمي الحبيبة.. فقد تحملتم الكثير والكثير من أجلي، ولقد صبرتم عليّ كثيراً لتروني في عداد الخريجين الذين يبحثون عن وظيفة مرموقة، وراتب مرموق أسدد به ديونكم، وأعوضكم عن معاناتكم، وصبركم عليّ!..
أبي العزيز... لكم بكيت بكاء مراً وأنا أتذكر عناءك وتضحيتك بالكثير والكثير من أجلي، ومن أجل أن أحظى بقبول للدراسة في الرياض.. فها آنذا أعود من الرياض حاملاً هذا الفيروس القاتل بدلاً من الشهادة والوظيفة المطلوبة، ها آنذا أحطم آمالي وآمالك لقاء متعة جنسية زائغة، لم تتجاوز ثلاث دقائق.. في هذه الممارسة المحرمة قتلت كل شيء بيدي!! قتلت نفسي، وقتلت طموحك، وقتلت رجولتي وشهامتي وديني ومستقبلي!
أعذرني أيها المجتمع الكريم.. أيها المجتمع الذي كنت تنتظرني لأسطر على صفحاتك إنجازات أبنائك.. فهاآنذا أُسقط نفسي من صروحك، وأرمي بها في غياهب المرض والموت.. لا أدري كيف أخرج من هذه الدوامة.. أنا الآن مكبّل بالأسى، والخوف، والهلع، والقلق... ولكنني أشفق عليكم أن يقع أحد أعزائكم فيما وقعت فيه.. فاعتبروا بي.. فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ الناس به..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد