لا جفاف مع اليقين


بسم الله الرحمن الرحيم

            

ضاجت الدنيا في عقلها وهي تحكم إغلاق باب المنزل الريفي قبل أن تغادره مودعة، ففي حين أثار المكان فيها ذكرى الراحل العزيز، وعاود طيفه وحضوره بقوة ليثير لواعجها. ويعتصر مآقيها وكل زاوية في المكان تذكرها به، وتحكي موقفاً من مواقف دماثة خلقه ولطافة تعامله، لقد شهدت زوايا المزرعة ودارها أحلى لحظات حياتهما وأمتعهاº فقد كانت بهدوئها وجمال موقعها وتنظيمها تعيد إليهما ما افتقداه من هدوء خلال معترك مسؤولياتهما في أجواء المدينة بكل ما فيها من جهد جسدي وعقلي يستهلك الأعصاب... فكانت المزرعة ملاذهما المفضل حيث يتاح لكل منهما ممارسة هواياته المفضلة في أجواء من السعادة والراحة والهدوء في ظلال طبيعة خلابة وجو نقي يحرك المواهب الخلاقة في النفس المبدعة.

كان حال المزرعة بما آلت إليه من إهمال عاملاً منغصاً على نفسها التي ما زالت ترزح تحت طائلة الأحزان المتعظمة في نفسها على فقيدها ورفيق دربها لثلاثين عاماً هي عمر زواجهما... تعاونا خلالها على السراء والضراء، وتشاركا خوض غمار المواقف الشديدة الوطأة مما تُفاجئ به الحياة ناسها... يحلان مشاكلهما بهدوء ودون بادرة ضجيج، حتى اعتبر الجميع حياتهما المشتركة مثالية بما كانوا يلحظونه من توافق غير ملوث ولا منفعل، فأصبحت علاقتهما قدوة ومثالاً يُحتذى به في العلاقات الزوجية فكل منهما كان يشكل حالة مميزة وفريدة يحسد شريكه عليها.

للمرة الأولى بعد أحد عشر شهراً من وفاته تقرر رفع حصار نفسها وزيارة المزرعة الأثيرة إلى نفسها ونفس زوجها إكراماً للمكانة التي كانت لهذه المزرعة في ذكرياتهما معاً، حيث لحظات الهناء هي عمر المرأة الحقيقية من حياته، فإذا ارتبطت لحظات الهناء بالمكان المميز بموقعه وحالته فإنها تصبح كما الحفر على جدار العقل لصور ذهنية رائعة المعالم لا يمكن لها أن تبهت.. فإذا ما استطعت محاكاة جمال الطبيعة بلغتها الخاصة تصبح ممن يحصد السعادة ويمتلك الموهبة بكل المقاييس من أحد قادر على استخدام لغات الطبيعة ويداهمه الاكتئاب، فهي لغة الحياة التي تفسر لك مكامن جمالها.

فالمكان وهو مُضجع برخاوة على منحدر مرتفع من تل غوري يشرف على سهل مُخضّر يُحتبس بين سلسلتي جبال شرقية وأخرى غربية... يخترقه نهر كأفعى هزيلة تتلوى بشدة مخترقة خضرته الداكنة، لتغرز رأسها في جسم البحر الميت وتسكب ما بجوفها من مياه حلوة متحدية ملوحته ومخترقة وحدانيته القصية في قاع العالم... حيث تبتدئ صفحته الفضية متوهجة بحمرة الغروب كقطعة محروقة من عرق الذهب، لم يستطع جمال المنظر وشاعريته أن يوقف ذاك الدفق الحزين الخارج من بين أضلعها. فطفرت دموع حارة من مآقي لم تهمد ثورة تفجرها منذ لحظة الفراق المفجع.

اتخذت مكانها على مقعد السيارة بينما تولت ابنتها القيادة وهي تلوذ بصمت موجع... كانت تدرك أن ما من فائدة في تهدئة شجن والدتها سوى أن تتركها تطلق معتملات نفسها حتى الاكتفاء... راحت السيارة تلتهم الطريق ما بين الأغوار وعمان وأضواء السيارات المعاكسة تشع في وجوههم فتوضح مظاهر الحزن والانفعال على ملامحهما... الصمت كثيراً ما يكون حاجة ملحة في لحظات التثور الوجداني، فهو يترك مجالاً رحباً ليرسل الماضي شذرات ذكراه في النفس اللوعى حتى يُسكنها بهدوء دون أن يُلحقها الأذى... البعض من الناس يؤثر اجترار آلامه على مسامع من حوله، والبعض الآخر ممن تشتد حساسيته على قاعدة شفافيته تأنف نفسه عرض لحظات ضعفه على فترينة عامة.

أمام البوابة الحديدية لمدخل العمارة استقرت عندها السيارة، تكتم أنفاسها الأخيرة وهي تركن على حافة الرصيف... التفتت سهى نحو والدتها بقلق.

 - المنزل بأكمله مطفأ الأنوار مما يعني أن لا أحد عاد إلى المنزل بعد!!

 - يا إلهي وليس مع أي منا مفتاح.

أجابت سهى وهي تعيد تشغيل سيارتها.

 - سوف نذهب لإحضار شقيقاتي من منزل خالتي.

بشيء من مظاهر المفتقد الرغبة للقيام بأية مهمة نطقت:

 - لا... لا، اذهبي أنت لإحضارهن، بينما أجمع الغسيل من على الحبال!!

استدارت السيارة الصغيرة مبتعدة في عتمة الشارع المطفأ المصابيح، في حين انشغلت وداد في جمع الملابس وطيّها فوق سجادة مدخل المنزل، ثم راحت تتحرك في ساحة البناية جيئة وذهاباً تستهلك زمن الانتظار وجملة نسائم ربيعية تداعب وجنات حرى... خطرت لها خاطرة سريعة وجدت قبولاً لديها، أن تتجه باتجاه البناية القابعة على الزاوية الشمالية المقابلة لمنزلها وتقضي زمن الانتظار في زيارة صديقتها في شقة الطابق الثاني من البناية.

فوجئت بأن شقة صديقتها هي الأخرى تغرق في العتمة عندما أصبحت الرؤية تتيح لها التيقن من ذلك.

فاستدارت عائدة وجملة خواطر تتقاذفها دون كبح الجماح، كانت تحس بسيارة مقبلة من خلفها، إلا إنه لم يكن عليها أن تستدير مستطلعة طالما هي تتخذ أقصى جانب الطريق تحاشياً للحوادث. ورغم ذلك فقد فوجئت بمقدمة السيارة تتجاوزها ببطء شديد وقرب أشد يثير الشبهة، فالتفتت مستطلعة وبذات الوقت أحست بحقيبتها تعلق في شيء ما. فتشبثت بها باليد الأخرى بحركة لا إرادية ظنًّا منها أنها علقت بمرآة السيارة، وفي اللحظة التي بدأت تتبين فيها حقيقة المجريات، انطلقت السيارة بأقصى سرعتها مطلقة صوت هدير قوي اخترق رأسها كانفجار. وإذا جسمها يندفع بقوة إلى الأمام بفعل انسحابه خلف حقيبتها التي التقطها الشاب الذي كان يخرج نصف جسمه من نافذة السيارة للقيام بمهمة سرقة حقيبتها... وتحاشياً لفقدان توازنها والسقوط تحت عجلات السيارة، حررت يديها من الحقيبة وهي تصرخ بذهول بفعل المفاجأة وما زال جسدها يتابع اندفاعه.

فشلت في محاولة التقاط رقم السيارة أو نوعها قبل أن تختفي مسرعة في بطن الظلام في ثوان، فقد نُزعت لوحة الأرقام من مكانها ضمن خطة جهنمية تمرس مرتكبوها القيام بها... حل السكون على المكان وكأن شيئاً لم يكن... تلفتت حولها في حيرة وخوف وجسمها ينتفض بقوة، فرغم أن الشارع مأهول بالسكان، فقد بدا في تلك اللحظة خالياً تماماً من المارة، فعطلة يوم الجمعة تغري الغالبية من الناس الخروج للتنزه خارج مدينة عمان، أو لزيارة الأقارب والخلان، فبدت أغلب المنازل مهجورة من ساكنيها وأقفر الشارع من ممارسي رياضة المشي في هذا المساء.

وجدت نفسها أمام مدخل فيلا جيرانها المجاورين وبدون تردد ضغطت على زر جهاز \"الإنتركم\" ليعالجها الرد من الداخل مستفسراً شخصية القادم.

وباضطرابها المستحوذ نطقت عبارة مرتجة تنسحب من عمقها المقهور.

 - أنا جارتكم أم مظفّر.

شعرت بيديها الفارغة وكأنها فقدت سترها، فلملمت عليها جلبابها بخوف... انفتح الباب عن وجه بشوش لصبية تضخم بطنها المتكور أمامها، وظهرت خلفها والدتها بالعباءة المنزلية تبادر بعتاب ودود.

 - ننتظر زيارتك منذ زمن بعيد... فهلا تفضلت أهلاً وسهلاً بك.

باضطراب وتأثر نطقت عبارتها وهي تنقل نظرها بين وجه المرأتين والأرض:

 - الحقيقة أني لجأت إليكم طالبة العون!

 - خير يا أستاذة ما الذي جرى... إن وجهك ينم عن أمر به سوء!

 - نعم... تعرضت للتو إلى السرقة، ها هنا أمام بوابة منزلكم.

ظهر الانفعال على وجه الأم وبادلت ابنتها الضيفة نظرة متخوفة، بينما ظهر خلفهما شاب في العشرين من عمره وآخر يكبره تكهنت أنه زوج الابنة، وبدا على وجوههم التحفز وقد تشنفت آذانهم لسماع المزيد لتتوضح أمامهم الصورة، بينما ترنحت عبارة الأم وهي تضع كفها على خدها.

 - سرقة!! ها هنا... يا إلهي.

 - أريد استخدام هاتفكم لتبليغ المركز الأمني.

بدت الدهشة تتفشى على وجوههم وهم يستمعون إلى تفاصيل الحادث وقد تعلقت نظراتهم بوجهها المعفّر بالصفرة.

 - أيعقل أن يحدث ذلك هنا وفي مدينتنا الهادئة وحيٌّنا الأهدأ... هذا أمر غريب.

اندفع من الخارج شاب ثالث يتوضح شبهه لأخيه.

 - خالتي أم مظفر... لقد سمعت أنا والشباب صرخة مع صوت فرامل السيارة لكننا لم نتحقق أنها صادرة عنك، وأن حادثاً غريباً قد وقع لك... ورغم أننا شاهدناك تركضين خلف السيارة، إلا أننا لم نربط ما شاهدناه بشيء مريب.

نظرت في وجه الشاب متأملة، تستغرب تسارع الأيام والسنين وقد كان الشقيقان قبل زمن قصير مجرد ولدين دمثا الخلق، يطيعان أوامر والدهما دون تذمر... استغربت أن تراهما الآن وفجأة شابان يافعان وهي جارتهما ومنزلها يطل على منزلهم، سألت نفسها كم من الزمن مضى عليها وهي منهمكة في ظروف اشتداد المرض على زوجها بلحظاتها العصيبة، ثم في ظروف تكالب الحزن عليها لافتقاده من حياتها، حتى تغيّب ذهنها كلياً عن المجريات المحيطة بمنزلها ومحيطها.

تساءلت بحيرة:

 - أين كنتم حينها.. لم أشاهدكم، وإن كنت سمعت همساً في عمق الظلام.

 - نعم خاله... كنا نجلس على السور الداخلي وسط ظلمة انبعاج الأرض... نراك ولا ترينا.

مدّ الشاب يده إليها بجهاز التلفون اللاسلكي... تناولته بيد مرتجفة تؤكد أنها مازالت واقعة تحت تأثير الصدمة ومفاجأتها... أجرت الاتصال، واستغرب الجميع تجاوب رجال الأمن في أقل من خمس دقائق، ليبين لهم أن رجال الأمن كانوا على بعد شارع واحد يحققون في حادثة سطو مشابهة وقعت قبل عشرين دقيقة فقط من هذه الحادثة لامرأة أخرى، وأن هذه الحادثة هي الرابعة في هذه المنطقة بالذات مما يؤكد أن الأمن والضمير الحي يتغيبان مع تفشي الفقر.

كان عليها أن تسأل بعد الانتهاء من تسجيل إفادتها

 - هل حقاً تمتلك الفريق الأمني الكفء الذي يمكنه ملاحقة القضية وإعادة المسروقات؟

كمن مسته شرارة منطلقة من مسافة قريبة:

 - ما الذي يدعوك إلى التشكيك في ذلك؟

 - الحقيقة... لم يسبق أن سمعنا أن سرقة ما تم كشف ملابساتها وأعيدت المسروقات إلى أصحابها إلا إذا ارتبطت بشخصيات متنفذة، أو قريبة من المتنفذين.

قطع الحوار دخول أولادها الذين فاجأتهم الحادثة خلال الفترة القصيرة التي ابتعدوا عنها فيها.

مرت نسمات رقيقة محملة برائحة الياسمينة التي كان تظلل المكان، فأخذت نفساً عميقاً ملأت صدرها به فارتفع قلبها الهاوي إلى مكانه، فعندما نصبح وسط أحبتنا تكبر مساحة الأمن داخلنا.

 - على العموم هاك رقم جهازي الخلوي السري الذي احتفظ به ليعينكم على تتبع الجهاز إذا ما استعمله السارق.

ارتسمت على وجه الملازم ابتسامة الرضا وقدم وعده بالعون.

استطاعت الحصول على نتيجة المتابعة لجهاز الخلوي من شركة الاتصالات الخلوية وحين قدمته إلى ضابط الأمن رمقها بحذر وقال:

 - قمت بعمل هو من اختصاصنا... ترى إلى أي قدر تخدمك علاقاتك؟

ردت بلهجة لوم:

 - أحد مسؤولي الأمن قال يوماً إن نجاح عمل الشرطة محكوم بذكاء المواطن وتعاونه.

وكيف أحاول أن أكون متعاونة لتتمكنوا من إعادة مسروقاتي إلي ومعاقبة السارق.

استجابت وولدها بعد أسبوع لطلب ضابط الأمن الحضور للمركز الأمني، لتجد عدداً من الأشخاص قام ذات اللص بسرقتهم بنفس الطريقة، والضابط خلف مكتبه يعبث بجهاز خلوي ويؤكد أنه محروق... وتم بناء على طلب ذات الضابط الانتقال إلى مقر المحكمة لمقابلة المدعي العام حيث تبين لها هناك أن الضابط قدم جهاز الخلوي المحروق على أنه جهازها ورغم أن جهازها الخلوي سليم من أي سوء بتأكيد متابعة المكالمات التي أجريت من خلاله بواسطة اللص على مدى أسبوع كامل، الأمر الذي واجهت به المدعي العام مبينة شكها بحصول تواطؤ أو تلاعب بشكل ما خاصة أن موديل جهازها يحمل رقماً مختلفاً.

وتساءلت... أين أشياءها المسروقة وأوراقها الرسمية طالما قد قُبض على اللص... ليأتيها الجواب أن السارق أقر بأنه صرف المال وتصرف بالممتلكات وألقى بالأوراق الرسمية في حاوية النفايات.

أحست بغبن الدنيا يقع عليها، وتوضحت لها صورة غريبة من صور الغدر هي أدهى وأمر من صورة افتقاد الأمن... هي صورة الفساد وعفن رائحته الكريهة، عندما تجد نفسك تعيش في غابة الأشرار، وحُماتك هم جلادوك، تشعر بنيران تحرق صلابتك وتكوي قلبك... الأنياب والمخالب تنتظر سقوطك لتتقاسمك معدة الجياع، هكذا يغيبون ملامحك كي لا يتعرف على جريمتك أحد، ويفرضون عليك أن تحيا في سياق غيبوبة دون اعتراض لتثبت حسن مواطنتك.

وفشلت في الحصول على متابعة أخرى للجهاز الخلوي عندما أقر موظف الاتصالات بالضغوط التي مورست عليه ليوقف التعاون معها.

توقفت فجأة وهي تستشعر انفجاراً يوشك أن يمزق داخلها ويحيلها إلى أشلاء استغلال النفوذ أمر لا يمكن مواجهته إلا من قبل من ألقى الدنيا خلف ظهره، وأيقن أحد أمرين إما قدرته على الدفاع والاختراق، أو قدرته على المهانة وتحمل الأهوال.

وتتذكر واقعة تسجيل التبليغ عن السرقة حين سألها الملازم حول مدى رغبتها في متابعة القضية قضائياً وإيقاع القصاص على السارق، فكان جوابها وهي لا تستطيع مداراة احتجاجها.

 - أعجب لسؤالك... ألا يجب أن ينال من يزرع الخوف ويستولي على أملاك الغير قصاصه من الدولة.

 - قد ترغبين بالتنازل عن حقك؟

جال فكرها بين التلافيف تستعرض بين طياتها وسيلة تخرجها من أتون الغضب المتفاقم قبل أن يثور فيه ضباب الانتقام ثم قالت:

 - جُل ما أتمناه أن أنال حقوقي قبل أن أتنازل عنها.

ثم أخرجت مفكرتها وكتبت عبارتها لتطفئ لهيب الغضب في عقلها قبل أن ينالها خرابه.

الطبيعي أن تُطوّعنا الهزائم، لكن من غير الطبيعي أن نستسلم للجفاف، واليقين مزروع في عقولنا وأفئدتنا.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply