نفحة الرحمن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت الخطوات التي تخطوها واثقة، مفعمة بالقوة، لم يسبق لها أن شعرت بمثل ذلك الاطمئنان من قبل

لقد اختارت طريقها ولن تحيد عنه، فكل ما حولها أشبه بشجرة عراها الشتاء من أوراقها الصفراء فبدت على حقيقتها بلا ظل ولا ثمر.

 

دخلت منزلها وهي تضع الحجاب لأول مرة بعد انقضاء ثلاثين سنة على استنشاقها هواء الرحمن كل صباح، ومع ذلك لم يدر بخلدها أنها ستؤوب إليه يوما

 

ـ ماذا فعلتِ؟ سألها زوجها

ـ لقد عزمت أمري، وهداني الله، و ...

ـ اسمعي كل شيء في هذا البيت يتم بعد إذني

ـ صحيح، إلا معصية الله، لن أفعلها إن أمرتني!

ـ أنا لا أفهم..، هذا الحجاب الذي ترتدينه هو آخر شيء أسمح به. بإمكانك أن تصلي، تصومي، تعبدي ربك ما تشائين، ولا ضرورة لوضع الحجاب

ـ إنه أمر رب العالمين، وكفاني ما مضى من سنواتي الثلاثين في الضلال

ـ لديك خياران اثنان: إما الحجاب، وإما أنا

ـ أتقصد إما أنت أو الله؟ إني أختار إذن الخيار الثاني

وصال الرجل وجال في البيت لا يدري ما يفعل، فالكلام هين لكن الأفعال قد تخرب البيوت

وبعد هنيهة هدأ قليلا أمام تصميم زوجته

ـ غريب هذا الإصرار الذي تبدينه، وأنت تعلمين أن حجابك سيمنعك من سهرات رائعة كثيرة وسيغير من نمط معيشتنا المنفتح

ـ إني غير آسفة على لقاءات كلها زيف وتمثيل، وعلى كؤوس تدور برؤوس أصحابها، فتجعلهم أحط خلق الله

ـ وماذا ستفعلين خسرت عملك في شركتك الأجنبية؟

ـ سيبدلني الله خيرا منها

وانفض الحديث عند هذا الحد

لكن الزوج لم ينفذ تهديده، فهو يعلم في قرارة نفسه أن الصواب هو ما فعلته امرأته، وهواه هو الذي جعله يتكلم عن الطلاق والفراق

وماذا فعلت ليفارقها؟ لأنها قصدت طريقا اختارته ملايين النساء بعد أن عشن ذلك البحر المتلاطم من الأهواء والصرعات الأجنبية والأحاديث التافهة التي تشلا لعقول

 

واستقر رأيه على أن يدع امرأته وشأنها، لكنه لم يحرم نفسه من مباهج الحياة حلالها وحرامها. واتخذ كل منهما طريقه كان يراها بعد أن وضعت حجابها أكثر حرصا على بيتها وأطفالها حتى عليه شخصيا مع أداء صلاتها في أوقاتها، وأكثر اهتماما بقراءة القرآن وسماع البرامج الدينية، وأصبح حديثها أكثر عمقا واتزانا من ذي قبل في البداية أخذ يستهزئ بمثابرتها، لكن دعاءها وتوسلاها المبللة بالدموع عقب صلاة الفجر أثّرا في نفسه، وإن كان يتظاهر بالنوم أمامها

 

وأقبل شهر رمضان، وكان فيما مضى يصوم الشهر مثل باقي المسلمين، لكن شهر هذا العام كان مختلفا، شعر أن له مذاقا روحيا آخر في هذا الجو الجديد من الدعاء وقراءة القرآن، بدأ يركع بعض الركعات، ويختلس السمع إلى بعض الأحاديث الدينية متظاهرا أمام زوجته بانشغاله بأمر آخر. شعر أن هنالك جهلا عميقا في نفسه بالإسلام. كان يحسب الدين سجنا وقيدا، لكنه اليوم يتحسس فيه تلك الحرية التي تعتق الروح من أسرها

ـ ما رأيك أن نؤدي فريضة الحج؟ سأل امرأته

لم يكن يقصد حقا ما يقول، لكن تلعثم كلمات زوجته ودموعها المترقرقة في عينيها جعلاه يفكر بجدية في الأمر ذهبا إلى مكة المكرمة، وهناك كان الرحمن يخبئ لهما هداياه، فالكعبة بيته، والله أمر بإكرام الضيف، فما بالك بكرم الرحمن؟

هناك لمس الحقيقة بعينيه وسمعها بأذنيه وهو يطوف بالبيت الحرام

شعر بالندم يغسل روحه، كانت صور سهراته العاصية تتراءى له بين الفينة والأخرى، فيخجل منها

 

هناك... وسط تلك الجموع الهائلة من البشر التي تنادي من أعماقها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، شعر أنه يقف أمام رب العالمين في يوم الحشر، كانت المرة الأولى التي تواجهه فيها نفسه، وتؤنبه، لكن أقسى وخز كان ذكرى ذلك اليوم الذي هدد فيه امرأته بالطلاق إن هي اختارت هذا الطريق

وعاد إلى وطنه

واختار الطريق نفسه

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply