الحارس الذي صار أستاذا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بين الفينة والفنية، تسنح لي الفرصة، أقلب فيها الطرف في صفحات تاريخنا العظيم، فأزداد قناعة أنه من أخصب أبواب المعرفة، ولا غرو في ذلك، إنه تسطيرٌ لبناة حضارة، كانوا سادة الدنيا، وقدموا للإنسانية صوراً لا يزال التاريخ يضع حول أطرافها أطراً، ويرفعها شواخص.

 

وتنثال عليَّ الخواطر، كلما قرأت شيئاً، هذا موقف يعبر عن الرقي، وذلك يترجم للهمة، وثالث يحمل أبعاداً تربوية..وهكذا.

وثمة قصة شدت انتباهي، لما حملته من أبعاد، رأيت جمع بعض فصولها، علها تبرز مؤشرات تربوية نحن في مسيس الحاجة إليها.

 

ففي عهد العباسيين الزاهر، وخلافة الرشيد تحديداً، تحدثنا كتب التراجم عن الحارس الذي تحول إلى مؤدب.

 

والمؤدب اصطلاح عُرف في زمانهم، ويريدون به العالم المربي القدوة، لكن ليست النقطة هنا، وإنما في طريقة أخذ العلم، وإليكم القصة من أولها..

 

حارس أو رجل نوبة كما كان يسمى سابقاً، ولد فقيراً لأبوين من موالي البصرة، لكن هل وقف الفقر حاجزاً أمام الطموح، ربما أعاق الفقر النجاح إلى حين، لكنه في نهاية المطاف يذعن للإصرار والهمة. يشد الفتى الرحال إلى حاضرة الخلافة، وهو في ميعة الصبا، يبحث عن عمل يسد رمقه، وينضم إلى حراس الخليفة، لتسوقه القدرة الإلهية فيما بعد إلى ما خلق له، فنفسه التي بين جنبيه كبيرة، ومهنة الحراسة لا تشبع طموحه الوثاب، لكن الأمر ليس بالأماني، وأحلام اليقظة مطية العاجز، وليس أمامه إلا الهمة فهي الوحيدة القادرة على كسر ربقة الاستسلام.

ولم يبعد على نفس مرام***إذا ركبت له الهمم البعادا

ولم أر بعد قدرته تعالى***كمقدرة ابن آدم إن أرادا

 

في كنف الرشيد أضحى حارساً، ودار الخلافة يومئذ أقوى وأهم حكومة على وجه البسيطة، وبين الداخلين والخارجين إلى تلك الدار من أمراء وأشراف وعلماء، يلحظ صاحبنا الحارس أن العلماء هم السادة الحقيقيون، ومكانتهم لا ترام في نفس الخليفة، بل يصل الأمر إلى العشق مع الإجلال، فقاضيه إمام مجتهد هو أبو يوسف - رحمه الله - وعندما بلغه نبأ وفاة العالم المجاهد ابن المبارك، جلس للعزاء، كأنه وُتِرَ في أهله.

 

وفي إحدى المناسبات دعي أحد العلماء على مأدبة الرشيد، وكان ضريراً، وعندما كان يغسل يديه، قيل له:

- أتدري من يصب الماء على يديك؟

قال: لا..

قالوا: أمير المؤمنين.

حتى إن الخليفة زوى الخلافة عن ابنه المعتصم لأنه أمي..

هذه هي أجواء دار الخلافة، فالعلماء هم علية القوم، ويتردد بين جنبات القصر قصة أمست حديث الجميع، أظنها أثرت في مسار عقلية ذلكم الحارس، ومفادها: أن شجاراً نشب بين الأميرين الصغيرين وليي العهد: الأمين والمأمون، ويفض الخلاف ويتضح السبب، إنه على شرف تقديم.. تقديم ماذا؟

تقديم حذاء!!! لمن؟ لشيخهما وأستاذهما الشيخ الكسائي، ويقبل الطرفان بحل وسط، فكل أمير يحمل أحد النعلين، ويسري الخبر في القصر، ويهتز الخليفة طرباً من أدب أبنائه، واحترامهم للعلم وإجلالهم للعلماء، حتى إنه أرسل إلى الكسائي ليحضر مجلسه الذي يضم أقطاب الخلافة، وليزرع في نفوس من حوله محبة العلم، فيسأل الرشيد الشيخ الكسائي:

- من أعز الناس؟

فيجيب الشيخ: أمير المؤمنين.

فيقول الخليفة: لا، بل أعز الناس، الذي يتسابق وليا العهد لتقديم الحذاء له.

لعل صاحبنا الحارس أدرك أن العلم هو أقصر الطرق وآمنها للرفعة الاجتماعية، فأسقط من حساباته ما يحلم به أمثاله كأن يصبح رئيساً للحرس، أو قائداً للجند، بل أميراً لبلد مثلاً، وتتضح معالم الطريق أمامه ويحدد الهدف، فما عليه سوى أن يسلك طريقاً يلتمس فيه علماً، ويبدو الأمر هيناً لأول وهلة، فهو يعيش في حاضرة الخلافة، مدينة تشع بنور العلم على العالم بأسره، وتعج بالعلماء كما أن الأمر لا يتطلب انتساباً إلى جامعة فهو في متناول الجميع، فها هي ذي الحلقات المسجدية تستقبل كل من يفد إليها، وله أن يعب من العلم ما شاء.

 

لكن واقع الحارس مختلف، وعمله يفرض عليه نظاماً معيناً، فمن غير المتاح له ترك مكانه وقتما يريد، ولا يخفى أن للحارس نوبات تعوق انتظام حضوره مجالس العلم، إذاً كيف السبيل؟ وما العمل؟

 

إن من يملك إرادة صلبة، وعزيمة قوية قلما يحفل بالصعاب، ونادراً ما يستسلم لها، أما العاجز فهو من تعوقه التحديات، وكأني به أخذ في تقليب الأمور، وبعد لأي يجد ثمة فرصة ماثلة أمام عينيه، وسانحة لابد من اهتبالها، رغم أنها ضئيلة، فإن عليه أن لا يزدريها، فالممكن فن قل من يتقنه، وهو إحدى سمات التميز، فها هو ذا شيخ العربية والقراءات يطرق دار الخلافة يومياً فهو مؤدب أولاد الخليفة الأمين والمأمون، يعلمهما القرآن والعربية، وهل أكرم من تعلم القرآن الكريم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:

(خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

أما العربية فتلك اللغة الرشيقة الأنيقة، وهي فضلاً عن أنها لغة القرآن، كانت لغة العلوم في هاتيك الأيام، من طب وفقه وفلسفة.. إلخ..

إذاً لم لا يستفيد من الشيخ الكسائي! وعلى هذا يصمم، ويباشر تلقي العلم بطريقة دخلت التاريخ، كان يترصد وصول الشيخ الكسائي يومياً، فإذا أقبل تلقاه، وأخذ بركابه، ثم أنزله وماشاه، وفي هذه الأثناء يسأله المسألة تلو الأخرى حتى يصل الكسائي إلى الستر، ثم يقفل صاحبنا راجعاً إلى مكانه، ويتكرر الأمر عندما يعود الشيخ ليغادر دار الخلافة.

 

وبقي الحارس على هذا المنوال حتى قوي وتمكن، وأضحى عالماً بالرواية، بصيراً بالأدب، متبحراً في علوم الشريعة، ويبدو لي أنه كان دمث الأخلاق، لطيف المعشر أيضاً، ويتحول من حارس نكرة إلى شخص يستلفت الأنظار، وينتشر ذكره في دار الخلافة، ويسري الخبر إلى الخليفة، ذلك القائد العظيم المحب للعلم والشغوف بالعلماء، كفاءة جديدة في القصر، ودماء شابة لم يأت عليها حين من الدهر.

 

ويرى الخليفة الرشيد إعفاء الشيخ الكسائي لا عن سوء أو ضعف، فهو صاحب سمعة عطرة، وصيت ذائع، ومكانة مرموقة، يكفي أنه أحد القراء السبعة وإمام في اللغة، ولعل السبب أن الشيخ الكسائي بلغ من العمر عتياً، ووهن عظمه، وضعفت حركاته، إنها سنّة الله في خلقه (ومن نعمره ننكسه في الخلق) يس 68.

 

فما كان للرشيد الخليفة المؤمن الواعي أن يتجاهل سنن الله أو كلامه، ونراه يفسح المجال في الوقت ذاته للشباب ليضطلع بدوره، ويهيئ له الفرصة ليخدم دينه وأمته، فيأخذ الخليفة بيد الشاب المغمور، ويقوي إمكاناته ويعضدها، إن الرجال العظام هذا دأبهم، أما الأقزام فإنهم يفرقون من كل كفاءة لضعف إمكاناتهم من جهة، وضعف ثقتهم بأنفسهم من جهة أخرى.

 

ويفتح التاريخ سجلاته ليدون اسم الحارس، لا بل كنيته التي ناداه بها الرشيد بعدما اختاره مؤدباً وخلفاً للشيخ العظيم الكسائي:

(يا أحمر إن أمير المؤمنين، قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّر يدك مبسوطة عليه، وطاعته لك واجبة، فكن حيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام).

 

وينبري المؤدب الشاب (خلف الأحمر) للمهمة الجديدة، ليخرج للأمة دفعة على رأسها اثنان كل واحد هو علم ومنارة، أما الأول فهو إمام من أئمة المسلمين، وصاحب مذهب معروف: الإمام أحمد بن حنبل، ومما نقل عنه أن شيخه الأحمر زاره في أحد الأيام فقام الإمام أحمد وقال له: (لا أقعد إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن تعلمنا منه).

 

والمنارة الثانية الخليفة المأمون الذي كون مع أبيه ذروة سنام بني العباس، فهو وارث لحب العلم مثل أبيه، وتكفي لمحة تشير إلى ذلك تقول: إن الخليفة المأمون كان يعطي العلماء عما يكتبون أو يترجمون وزن عملهم ذهباً.

 

وقبل أن أطوي تلك الصفحة التاريخية التي هي بحق مأثرة رشيدية إسلامية، أقف معك أيها القارئ الكريم لنطالع الأبعاد والمؤشرات:

 

تقوم الحضارات على العلم، وإن المسؤول الواعي لا يتوانى في البحث عن الكفاءات ومنحها الفرصة، والصيت والسمعة مهما بلغتا لا تشوشان عليه أبداً، كما أن الدماء الشابة لها الحظوة في نفسه لأنه يدرك أن نسغها الطازج هو أفضل غذاء لدوحة الدولة حتى لا يدركها الهرم والشيخوخة وبالتالي تكون عرضة لفتك الأوبئة والأمراض.

 

أما البعد التربوي، فإنه يتجلى بما يسمى التربية بالملاحظة، وإن التربية بالقدوة أيضاً لها دور بارز، وعملية التعلم هذه دلت على أن السن والمكان لا يأتيان في مقدمة الأولويات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply