بسم الله الرحمن الرحيم
تعلم التلميذ، ونال أعلى الدرجات العلمية، وصار زميلاً لأساتذته في المهنة، وعضو هيئة تدريس في القسم العلمي الذي تخرج فيه، وكان دمث الأخلاق، لين العريكة، طيب المعشر، يحبه أساتذته وطلابه، ومن يتعامل معه من عامة الناس.
التقى به يوماً أستاذه، وتجاذبا أطراف الحديث، ثم أوصى الأستاذ تلميذه بوصايا، أجمعها: أنه قال للتلميذ: اكذب، اكذب، اكذب، حتى تصل إلى ما تبغي وتريد، وسوف تصل بالكذب إلى أكثر من ذلك، قال التلميذ: الكذب لا يليق بالأمور العلمية، فضلاً على أنه سلوك مشين، وعمل يمقت الله صاحبه، وقد لا يؤمن جانبه، ويفضح مقترفه، إن عاجلاً أو آجلاً.
قال الأستاذ:
مادام الزعيم الأكبر يكذب، ويكذب، ثم يكذب، وتنشر وسائل إعلامه هذه الأكاذيب على أنها حقيقة، فما المانع من أن تفعل فعله، الدنيا كلها هكذا، ولا يعيش فيها إلا الكذابون.
إن هذا الحوار يصور لنا حقيقة علية القوم في كل بلد، ويفضح المتنفذين الذين لا يكفون عن ممارسة الكذب، فهم يكذبون، ثم يكذبون، ثم يكذبون، ثم تردد وسائل إعلامهم هذا الكذب على أنه صدق وحق، ومزايا لهذا الزعيم، حتى يصدق هو نفسه هذه الأكاذيب، ويعتدها حقائق، وهي تذكر بقصة أشعب الطماع، فقد مر على صبية يلعبون في الطريق، ثم تعلقوا به إيذاء وسباً، كما يفعل صبيان القرى بكبار السن إذا استخفوهم، وأراد دفعهم عنه، فقال لهم: إن آل أبي فلان عندهم وليمة، فاذهبوا، وكلوا، فانطلق الصبية يتجارون ويتسابقون، وأفردوا أشعب في المكان، فالتفت، فلم يجد حوله أحداً، ثم فكر، وقال في نفسه: لعل ما قلته لهم واقع، فانطلق وراءهم مصدقاً كذبته، رغبة في أن يصيب نصيبه من الوليمة المفتراة.
وهي قصة تمثل الواقع الذي تعيشه الأمة، يدرك ذلك من يتأمل في واقع الإعلام، وما يزيفه لذوي النفوذ والسلطة، وما يختلقه من مشاريع وإنجازات، وما يفتعله من مكرمات وهدايا إلى الشعوب المغلوبة على أمرها، وكأنه إنما يفعل ذلك تفضلاً منه وإحساناً، ومنه منة وكرماً، فيما نرجو بسطه في مقام آخر.
ومما له وجه ارتباط بموضوعنا الآن ما يفتعله الإعلام من ضجة، وما يهول به بعض الأمور العادية أو التافهة، حتى يجعل من غير المشكل مشكلاً، رغبة في صرف أنظار الناس عن القضايا الكبرى إلى قضايا صغيرة تافهة، تدغدغ العواطف، وتلبي الحاجات العاجلة، أو تصرف الناس عن التفكير في الأمور الكبيرة، وهي سياسة تذكرنا بقصة فرعون مع نبي الله موسى - عليه السلام - فيما حكى لنا رب العالمين، بقوله بعد أن لزمته الحجة، وقامت عليه البينة، وانقطعت به الأسباب: ((وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات، فأطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب)) [غافر 36، 37].
وليست هذه القضية مجرد أمر من فرعون لهامان ببناء صرح عال، بل القضية تحمل من المضامين والمفاهيم الشيء الكثير، إذ فعل فرعون هذا يتكرر بصورة مختلفة، لغاية واحدة، فكذلك يفعل الطغاة من بعده، حين تقوم عليهم الحجة، وتخرس ألسنتهم البينة، فيتجهون إلى صرف أنظار الناس إلى أمور جانبية، إن فرعون جاء بفكرة هذا الصرح لينشغل الناس بمتابعة أخباره، وترقب تمامه، والناس تنظر إليه، وهو يرتفع رويداً رويداً، والوزير يأمر بالتنفيذ والبناء، والشعب المغلوب على أمره يتابع، وبمرور السنين ينسى الناس أصل القضية، والأسباب التي أدت إلى البنيان، ويحل أمر البنيان وتمامه محل ما من أجله بني البنيان، وهو الوصول إلى إله موسى، الذي يدعو الناس إلى عبادته.
وكذلك يفعل الطغاة اليوم، تفتعل وسائل إعلامهم المشاكل، وتختلق الأخبار، وتضخم القمء الصغير، ، وتشغل الناس بوسائل العيش، وتوفير فرص العمل، ويخدعون السذج من العامة والبسطاء والدهماء.
ويجند الإعلاميون طاقاتهم لاختزال الدعوة، وحصرها في أمور محدودة، ليصرفوا الناس عن كون الدعوة دعوة إلى منهاج شامل، وحياة ربانية، هدفها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وقد صار الناس إلى زمن صدق فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"تكون أمراء تغشاهم غواش أو حواش من الناس يظلمون ويكذبون، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ومن لم يدخل عليهم ويصدقهم بكذبهم ويعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه\" [رواه أحمد في المسند 3/24، ورواه عن حذيفة وكعب بن عجرة والنعمان بن بشير بنحوه].
والناظر الآن في وسائل الإعلام وسياساته يرى عجباً في تصديق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل يعرف الإعلام إلا الكذب، يأمر أصحاب النفوذ بأن تكال لهم المدائح الباطلة، ويقلدوهم المفاخر التي ليست لهم، وأن تقلب سيئاتهم حسنات، وتجعل خيانتهم وطنية، وسرقتهم أمانة، وخنوعهم عزاً، وهزيمتهم نصراً، وحرب الله وشرعه تطوراً، ومخادعة الدعاة كياسة، وأذى الآمرين بالمعروف حزماً، وإهانة شعوبهم سياسة، وهكذا يأمرون الإعلام بترديد المفاهيم المقلوبة. والببغاوات والقرود من أصحاب الأقلام المأجورة، لا يزدادون إلا علواً وفساداً، وكبراً ومقتاً، ثم يصدق هؤلاء الطغاة ما يقال عنهم من أنهم الساسة القادة، والوطنيون المخلصون، والأمناء الأكياس. ومالهم في ذلك من نصيب، إلا ادعاء باللسان، تنقضه الأعمال، وتهتكه الحقائق الفاضحة.
وهم قد جمعوا كل خصال النفاق، بل زادوا عليها، من كذب وخلف، وغدر وفجور، وزور وخيانة. فهم إن وعدوا لم يفوا، وإن حدثوا لم يصدقوا، وإن عاهدوا أخلفوا وغدروا، وصار ديدنهم تحري الكذب، والتفكير فيه، والبحث عنه ليقال في المجامع العامة، ووسائل الإعلام، فصدق فيهم حديث ابن مسعود: \"إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ما يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً\"....
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد