اصنع من بعض أتباعك قادة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تكلمنا في المرة السابقة عن أهمية وجود أتباع إيجابيين واعين يعبرون عن رأيهم، ويقدمون النصح إلى قائدهم، كما تكلمنا عن كيفية إخراج الإسلام لكثير من القادة عبر العصور، وأنه ما من جيل إلا ووجد فيه مجموعة من القيادات الفذة يحملون هم الإسلام، ويستشعرون بالمسؤولية تجاهه، ويضحون بالغالي والنفيس لنصرته, واليوم نتكلم عن ضرورة صناعة القائد من بعض أتباعه قادة يتحملون المسؤولية معه، ويخلفونه من بعده.

 

القائد الناجح هو الذي يحيط نفسه بقادة:

القيادة مستويات ودرجات, ففي المؤسسات مثلاً هناك رئيس مجلس إدارة الشركة، وهي محاطة بمجموعة من القادة الأساسين الذين هم نواب القائد ومساعدوه، فهذه هي القيادات العليا للشركة، وبعد ذلك تأتي القيادات الوسطى، وغالباً ما يكونون رؤساء الأقسام, فمثلاً هناك رئيس قسم الإنتاج، ورئيس قسم التسويق، ورئيس قسم المالية، ورئيس قسم الموارد البشرية, وبعد ذلك هناك مجموعة من القيادات الأقل درجة في كل قسم فمثلاً في قسم الإنتاج هناك رئيس قسم الصيانة، ورئيس قسم المنتجات، ورئيس قسم إصلاح المعدات, وفي الدولة الإسلامية مثلاً هناك الخليفة كعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -, ثم هناك الوالي على أحد البلاد كمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - كان والياً على الشام، وتحته سعيد بن عامر - رضي الله عنه - كان والياً على المدن وهكذا، فكل هؤلاء كانوا قادة ولكنهم درجات.

ودور القيادة العليا أن تخرج وتوجد مثل هذه القيادات الوسطى، وتتعامل معهم بالطريقة التي تساعد على نموهم وعلى صقل موهبتهم، وعلى أخذهم مساحات واقعية أكبر، وأن تتجنب الوسائل التي تقتل القادة، وتجعلهم يدفنون تحت الأرض, ومن أبرز الوسائل التي تساعد على نمو القيادات الوسطى وتشجعهم على العمل:

1) التأكد من اقتناعهم وإعطاؤهم فرصة أكبر للحوار وإبداء الرأي والنقاش، بل حتى الاعتراض وتعديل المسار, وكما يقول المفكر الفرنسي فولتير \"قد اختلف معك في الرأي، ولكني أدفع عمري لتقول رأيك\"(صناعة القائد ص90) فمثل هذه الشخصيات تحب أن تشارك برأيها لأن طبيعتها قياديةº طبيعتها تستشعر المسؤولية تجاه العمل، وتريد تحقيق الأهداف في الواقع، ولذا فاستشارتها والأخذ برأيها يحفزها وينميها.

ولذا فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على استشارة أصحابه، وكان أكثر من يستشيرهم هم من يعدهم ليخلفوه من بعده كأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.

2) إعطاؤهم مكانة خاصة لا تمنح لغيرهم كمناصب معينة، أو المشاركة في دائرة خاصة باتخاذ القرار، أو خصهم ببعض القضايا والأسرار، فمثل هذه الشخصيات دائماً تبحث عن مساحة للعمل، وتريد أن تثبت كفاءتها وأهليتها للقيادة، وتريد أن تستشعر تأثيرها في العمل وفي الواقع، ولذا عليك أن تفتح لها مثل هذه المساحات، وتعطيها الفرصة لتثبت وجودها، وتشعر بأهميتها في العمل، كما عليك كقائد أعلى أن تشعر هذا الشخص بمكانته وأهميته في العمل، واعتماد جزء كبير من العمل عليه.

3)منحهم حرية كبيرة في التصرف، وتوفير صلاحيات واسعة لهم لأداء عملهم مع التوجيه والإرشاد والمتابعة: فهذا الذي يصنع القائد عندما يأخذ مساحة واسعة، ويستشعر بالمسؤولية تجاهها، وتكون له أهداف معينة يريد أن يصل إليها وينجزها ويتابع في مدى تحقيقه لأهدافه، فالقائد يتابع بالأهداف لا بالأعمال اليومية، ومن أوضح الأمثلة لذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لمصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى والتي كانت في موسم الحج في العام الثاني عشر من البعثة، وكان مصعب ذاهباً لأداء مهمة بهدف محدد ألا وهي نشر الإسلام في المدينة وتأهيلها لقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي أقل من عام ينجح مصعب في مهمته، ويعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موسم الحج في العام التالي ليبشره بانتشار الإسلام في المدينة، وتتم بالفعل في موسم الحج لهذا العام 13من البعثة بيعة العقبة الثانية يحضرها ثلاثة وسبعون رجلاً من الأنصار وامرأتان.

4) التجاوز عن أخطائهم الصغيرة عند مقارنتها بأعمالهم وعطاياهم الكبيرة:

وكما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، وكما في قصة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني جذيمة ففي صحيح البخاري: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا، وجعل خالد قتلاً وأسراً قال: فدفع إلى كل رجل أسيره حتى إذا أصبح يومنا أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره، قال ابن عمر: فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره، قال: فقدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له صنع خالد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفع يديه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).

(قولهم (صبأنا) يقصدون بذلك أنهم خرجوا من دين آبائهم، ودخلوا في دين الإسلام، فإن الكفرة كانوا يدعون المسلم يومئذ بالصابئين، ولكن لما كان اللفظ غير صريح في الإسلام جوز خالد قتلهم (وجعل خالد قتلى وأسرى) أي جعل بعضهم قتلى، وبعضهم أسرى، ومع هذا الخطأ الذي وقع فيه خالد، وتبرأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعزله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القيادة).

 

كيف تقتل قائداً؟

إذا أردت أن تقتل معنويات أي قائد، وتدمر عنصر القيادة فيهº فهناك ثمان طرق مختصرة لأداء هذا الغرض:

1- اجعله في إطار روتين جامد، وأجواء كئيبة.

2- علمه هزة الرأس بدون تفكير.

3- علمه إذابة شخصيته بمادة النسخ الكربونية.

4- اجعل أهدافه غير واقعية.

5- تعامل معه كآلة.

6- لا تلتفت إليه وأعجزه عن حل مشكلاته.

7- انسب نجاحه إلى غيره.

8- امكث في منصبك، وحارب من أجله (صناعة القائد طارق سويدان)

إذا تأملت في هذه الثمان وسائل لأدركت حجم المصيبة التي تعاني منها الأمة الإسلامية من جراء قتل آلاف القادة من قادتها كل يوم، مما جعلها تعاني من فقر العناصر القيادية لديها، فانعكس آثار كل ذلك بأن صارت أمة الإسلام أمة تابعة لا أمة قائدة، وكيف تصير أمة قائدة إذا خلت من القادة؟!

 

مثال أخير للقائد الذي لا يخلف وراءه قادة:

هذا المثال نهديه لمن ما زال مصراً على عدم إعداد جيل من القادة يخلفه من ورائه، وعلى الرغم من بساطة القصة إلا أنها توضح أهمية صنع القادة بدرجة كبيرة فتأملها:

مثل القائد الذي لا يخلف وراءه قادة مثل (النمر الكبير) الذي تقدمت به السن، وكان قائداً لقطيع من النمور، وفي يوم من الأيام قرر أن يخرج للصيد في الغابة المجاورة، فجمع نموره، وقال: علينا أيها الأصدقاء أن نخرج للصيد، وأرجو أن تصحبني النمور اليافعة لعلهم يتعلمون مني شيئاً أو شيئين، أحست النمور الصغار بالغبطة والفرح عندما سمعوا ما قاله النمر الكبير لأنه نادراً ما يبدي لهم اهتماماً حقيقياً بتدريبهم على الصيد، ولم يكن لهم أي دور يؤدونه عندما كانوا يخرجون معه، وفي اليوم الأول شاهد النمر الكبير قطيعاً من الفيلة، فانتدب أحد النمور اليافعة ليهجم على قطيع الفيلة، ويجلب لهم ما تيسر، وقد فوجئ النمر الصغير بكلام قائده حيث لم تكن لديه أدنى فكرة صيد أرنب فكيف بفيل ضخم الجثة! ولم يستطع النمر الصغير أداء المهمة فقال النمر الكبير: يبدو أن علي أن أقوم بالمهمة بنفسي، وكذلك فعل، فاصطاد فيلاً كبيراً، وتكرر هذا المشهد عدة مرات مع نمور صغيرة أخرى، وكان الفشل نصيبهم جميعاً، وكان على النمر الكبير أن يقوم بالمهمة بنفسه، وفي كل مرة يؤنب النمور الصغيرة لعدم قدرتها على الصيد، تحلقت النمور حول النمر الكبير مبدية إعجابها بمهاراته وشجاعتهº فتنهد النمر الكبير قائلاً: يبدو أنه ليس بينكم من يتوفر لديه الاستعداد ليحل محلي، وآسف إذا قلت إنني نمر لا يمكن الاستغناء عنه.

وتمر السنون والنمر الكبير على هذا الحال يصطاد بنفسه، ولم يغير من أسلوبه في تعامله مع رفاقه، ولم يخطر بباله أن يعلمهم حيله وأفانينه في اصطياد الصيد، وفي أحد الأيام التقى النمر الكبير بصديقه الأسد، واشتكى النمر الكبير من ضعف النمور الصغيرة، وقلة همتها، وانعدام المبادأة لديها قائلاً: إنه رغم كبر سني فإني أقوم بالصيد لجميع أتباعي، ويبدو أنه ليس ثمة نمر على شاكلتي بين النشء الجديد، عندئذ انتفض الأسد وقال:هذا أمر غريب، إنني أجد الأشبال عندي يتعلمون بسرعة، وينفذون ما أطلبه منهم، بعضهم يحسن في عمله، وبعضهم يخطئ، ولكن لا بأس، وأصدقك القول إنني أفكر في ترك العمل والتقاعد في السنة القادمة، وأسلم القيادة لأحد الأشبال، قال النمر الكبير: إنني أغبطك، ومن المؤكد أنني كنت سأرتاح لو عرفت جيداً معنى القيادة، نهض الأسد فودعه النمر الكبير الذي قال متألماً: إنه لعبء ثقيل حقاً أن تتصرف وكأنك القائد الذي لا يستغنى عنه.

إن النمر الكبير قد فشل فشلاً ذريعاً عندما تجاهل أتباعه ولم يعلمهم فنون الاصطياد، ولم يدربهم على كيفية الصيد، واعتبر أن النجاح والفشل مرتبط بشخصه فقط، وبالتالي كان الفشل الذريع حليفه، ولم يستطع أن يحدث التغيير المطلوب، ولم تتعلم النمور الصغيرة أي شيء من النمر الكبير خلال رحلات الصيد المتكررة، وعندما شاخ وكبرت سنه لم يجد البديل الذي يستطيع القيام بالمهام التي كان يؤديها.

إن بعض القادة الإداريين ينسبون إلى ذواتهم الفردية كافة النجاحات التي تحققها المنظمة، وينسون أنه لا تميز لهم دون أتباع مميزين، فأصبح الأتباع في منظماتهم لا قيمة لهم إلا خدمة قادتهم، بل لا يقبل هؤلاء القادة إلا من هم أقل كفاءة خشية أن يسحبوا عليهم النفوذ من داخل المنظمة، ولا يريدون إلا إمعات ورعاعاً لا يحسنون شيئاً، وكلما أحسن الأتباع الطاعة العمياء كلما تأكد بقاؤهم حول قادتهم.

نخلص من هذا كله أن (النمر الكبير) افتقد إلى الرؤية المستقبلية، ولم يدرك أنه يحتاج إلى جيل من الأتباع المميزين (النمور الصغيرة) ستحل محله عندما يكبر سنه، وأنها بحاجة إلى التأهيل والتدريب على القيادة حتى يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً، كما أن هؤلاء الأتباع بحاجة إلى التشجيع وكما قال الأسد عن أتباعه: (بعضهم يحسن عمله، وبعضهم يخطئ ولكنهم بحاجة إلى الصبر والتحفيز)، ولم يدرك (النمر الكبير) هذه الحقيقة كما أدركها الأسد فكان الفشل حليفه في قيادته للنمور الصغيرة.

إن هذا كله يؤكد لك أيها القائد ضرورة اختيار العناصر المميزة من أتباعك لتصنع منهم قادة المستقبل، وإلا... فإنه الهلاك، ولك في قصة النمر الكبير العبرة والعظة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply