فن القيادة عند السلف الصالح


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يزخر تاريخ الأمة الإسلامية بمواقف وقصص، المتأمل فيها يجدها نبراساً في طريقه للإصلاح، ولعلِّي أقدم من خلال هذه السطور نموذجاً من تلك القصصº فقد أورد الذهبي في السِّيَر: (عن محمد بن كعب، قال: جمع القرآنَ خمسةٌ: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبَيُّ، وأبو أيوب.

فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان (الأول): إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يُعلمونهم.

فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا.

فقالوا: ما كنا لنتساهمº هذا شيخ كبير ـ لأبي أيوب ـ وأما هذا فسقيم ـ لأُبيّ ـ فخرج معاذ وعُبادة وأبو الدرداء.

فقال عمر: ابدؤوا بحمصº فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يَلقنº فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناسº فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليَخرُج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين.

قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس، أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين)(1).

«وعن مسلم بن مِشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدُد من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وستمائة ونيِّفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرةº فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً، فيُحدِقون به يسمعون ألفاظه»(2).

«وقيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقِّن، وكان أبو الدرداء يطوفُ عليهم قائماً، فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحول إلـى أبـي الـدرداء ـ يعني يعرض عليه ـ»(3).

بعد إيراد هذه القصة لعلك أخي القارئ تتساءل: ما أبرز الفوائد المستنبطة منها؟ فأقول مستعيناً بالله: إن هذه القصة تضيء للإخوة الدعاة والقادة طريقهم نحو الإصلاحº ففيها أسلوب التعامل مع الأتباع، وفن توجيه الناس للهدف المراد، وأسس صناعة الصف الثاني في العمل، وغيرها الكثير، وأدعك أخي القارئ العزيز تتأمل بعض ما تم استنباطه(4­) من هذه القصة:

1 ـ علاقة القائد مع أتباعه هنا هي علاقة ود واحترام وتقديرº حيث نجد ذلك واضحاً في أسلوب طلب يزيد بن أبي سفيان عندما كتب: (إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنِّي برجال يُعلمونهم) حيث أبرز حيثيات الطلب، مع طلب العون في المساهمة لحل هذه القضية. كما نجد وضوح هذه العلاقة في عرض عمر - رضي الله عنه - على الخمسة، مع علمه بأن هذه المهمة تحتاج إلى مواصفات تنطبق على بعضهمº وذلك ليبادر القادرون على أدائها، ولا يُلزِمهم بهاº كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَـة، فقـال: ومـا حقـه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني». قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! فأعطاه إياه. وتتضح هذه العلاقة أيضاً في قوله: (فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا) فالقائد هنا يطلب العون من الأتباع، مع دعائه لهم بالرحمة.

 

2 ـ تهيئة الأتباع لتقبٌّل أصعب المهام في الأزماتº فالناظر في هذه المهمة التي تتطلب فراق الأهل والأصحاب، يرى أنه بـمجرد عرض الموضوع عليهم، بادر ثلاثة بالموافقة على أداء المهمةº وهذا يؤكد لنا أنه لا بد من تربية الأتباع لاستقبال المهام الشاقة في الرخاء، حتى إذا أتت المهمة الشاقة في الأزمات، يبادرون لأدائها، ولا يتقاعسونº كما في إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان يوم الأحزابº فإنه شاهد على ذلك.

 

3 ـ رجوع القائد للمصدر الرئـيس في القضايا، فنجـد عـمــر - رضي الله عنه - يرجع في حال إلى القرآن الكريم، وفي حالٍ, آخر إلى السنة، وفي أخرى يرجع للمتخصصين ـ كـما فعـل هنا ـ مع وجود من هو أفضل منهم كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، إلا أنه رجع لهؤلاء الخمسةº لأنهم المرجع في هذه المسألةº وعليه فإنني أؤكد للقادة أن تكون الاستشارة بناء على الموضوع، وألا يخصصوا مستشاراً واحداً لكل المسائل، بل لكل موضوع أهله.

 

4 ـ رسم القائد رؤية واضحة، بعد دراسته للواقع وتبيينها لأصحاب المهمةº ففي قوله: (ابدؤوا بحمصº فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة...) إلى قوله: (والآخر إلى فلسطين)، فكان فقه عمر ـ - رضي الله عنه - ـ للواقع واضحاً وجلياً، ولذا بدأ بحمص لوجود مشكلة في المنطقة يجب التغلب عليها قبل انتشارهاº وهنا فسر سبب اختياره هذه المنطقة.إن رسم الخطط الاستراتيجية في العمل، وإطلاع العاملين علبهاº يساهم في اختصار الجهود والأوقات، وزيادة الحماس للعمل.

 

5 ـ توجيه القائد لأتباعه بالبدء لصناعة صف ثانٍ, في العمل، وهذه النظرة الثاقبة لعمر ـ - رضي الله عنه - ـ تؤكد لقادة العمل الخيري أهمية هذا الأمرº ولذا رسم لهم سياسة سير العمل، بانتقاء المميزين من الطلاب، كما في قوله: (منهم من يَلقن(1)º فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس). ويأتي التطوير بعد الانتقاء، ثم التقييم، كما في قوله: (فإذا رضيتم منهم)، وهنا نجد اللفتة العمرية المهمة، بأن يكون التقييم جماعياً وليس فردياً. بالإضافة إلى ذلك نجد وضوح أسس التقييم بين القائد والعاملين، وبعدها يتم تفويضهم لإدارة العمل مع بقاء أحد القادة للمتابعة (فليقم بها واحد).

 

6 ـ القائد يرسم السياسات ويترك التفاصيل للعاملينº فعندما رسم خطة صناعة الصف الثاني، كما ذكرنا سابقاً، لم يحدد من يبقى ومن يذهب كما في قوله: (فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين). وفي هذا يقول أحدهم: (القائد ينقش الأهداف على الصخر، والوسائل على الرمل). إن إعطاء الصلاحيات للأتباع بتحديد الوسائل والبرامج، يساهم في زيادة الولاء للمنظمة.

 

7 ـ تقرير مبدأ الأولويات في العملº فقد وجههم بالمسير إلى حمص ثم دمشق وفلسطين، كما في قوله: (ابدؤوا بحمص).

 

8 ـ إبقاء عدد من المتخصصين في العمل الأصلي، ولم يستهلك جميع الطاقاتº لأن المدينة المنورة مركز القيادة والعلمº ولذا أبقى اثنين منهم.

 

9 ـ مراعاة القائد للعامل النفسي للأتباع، وذلك عندما أرسل ثلاثةº فهذا سيعطي لهم تسلية وقوة في العمل وأقدر على النجاحº حتى يتهيأ لكل واحد أتباع، ثم يفترقوا.

 

10 ـ السعي للاكتفاء بالموارد الداخلية في المنطقةº فإن التأكيد على الانتقال إلى دمشق وفلسطين يدل على أهمية الاكتفاء بأهل المنطقة من الموارد البشرية، وأؤكد على أهمية الموارد الماليةº فمن المهم أيضاً السعي للاكتفاء بالموارد المالية من المنطقة.

 

11 ـ ارتباط تعـليم القـرآن بالفـقه بالـدين، كما في قوله: (واحتاجـوا إلــى مـن يُعلِّـمهم القـرآن ويفقههم)، قال الضحاك: (حـق على كــل مـن تعلم القرآن أن يكـون فقيهاً) وتلا قوله ـ - تعالى -ـ: {كُونُوا رَبَّانِيِّــــينَ بِمَا كُنتُـــــم تُعَلِّـمُونَ الكِـــــتَابَ} [آل عمران: 79].

 

12 ـ استمرار بناء الإنسان لذاته، وألا يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين، كما ذكر مسلم بن مِشكم في قوله: (فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً)، يجب على الدعاة والعاملين في الحقل الخيري أن يستمروا في التعلمº ومهما وصل الإنسان إليه من العلمº فمطلوب مـنه الاستمـرارº فهـذا أبو حنيفة قال: (قدمت البصرةَ فظنـنتُ أنـي لا أُسـأل عـن شـيء إلا أجبتُ فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة)(1). وفي دراسة على تسعين قائداً، تحدث هؤلاء القادة بأن أهم صفة للقائد هو التعلم المستمر، والله ـ - عز وجل - ـ يقول: {لِمَن شَاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]. فكل كائن يكفٌّ عن النمو يبدأ في الموت.

 

13 ـ تقدير حجم العمل وتقسيمه بناء على الموارد المتاحةº وذلك عندما قال: (اعدُد مَن في مجلسنا)، وفي قوله: (ولكل عشرة منهم ملقِّن).

 

14 ـ المتابعة من أهم أسس نجاح العمل، كما جاء عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - : (أرأيتم إن استعملت خيركم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم! قال: لاº حتى أنظر: أعمل بما أمرت، أم لا؟).

 

15 ـ التدرج في التعلم، كما في قوله: (فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحوَّل إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه)، حيث لم ينشغل أبو الدرداء بالجميع، بل ينتقل إليه من أحكم الحفظ.

أخيراً: فإن السيرة مليئة بالقصص والأحداثº فلنستفد منها، ونستخرج الكنوز من أعماقها. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

----------------------------------------

*باحث ومدرب في العمل الخيري.

(1) نزهة الفضلاء من سير أعلام النبلاء، تأليف: محمد حسن عقيل موسى (مختصر موسوعة سير أعلام النبلاء للذهبي)، (158/4).

(2) نزهة الفضلاء (159/3).

(3) نزهة الفضلاء (161/5).

(4) تم استنباط عدد من الفوائد، بمشاركة مجموعة من قيادات العمل الخيري، وذلك أثناء حضور دورة صناعة الصف الثاني.

 

(1) جاء في لسان العرب: (غلامٌ لَقِنٌ: سريعُ الفهم. وفي حديث الهجرة ويَبيتُ عندهما عبدُ الله بن أَبي بكر وهو شابُّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، أَي فَهِمٌ حسَنُ التَّلقِين لما يسمَعه. وفي حديث الأُخدُود: انظروا لي غلاماً فَطِناً لَقِناً).

 

(1) نزهة الفضلاء (550/3).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply