بسم الله الرحمن الرحيم
كان المكان يشبه منتجعاً ريفياً بسبب كثرة الخضرة والأشجار وخاصة حول الوحدات السكنية، وتحت الشرفات الرئيسية للمباني، ولو تخيلنا المكان لعرفنا أنه صمم بطريقة تدل على ذوق تجاري لطيف، ففي يمين الداخل إلى المجمع أقيم صف أبنية علاه القرميد الأخضر، ولم يكن في الحقيقة سوى مباني متعلقة بالخدمات العامة، وقد أقيم طريق صخري لطيف طليت أطرافه باللون الأبيض، ثم يتفرع الطريق بطرق أصغر تؤدي إلى المباني ذات الدور الواحد.
واهتم البستاني بتزيين هذه المنطقة إذ أنها مسئولية الإدارة، ولذلك بدت غاية في التشذيب والجمال، وعلت في الأقصى اليمين نخلة استوائية عالية أعطت المكان مزيداً من الشاعرية، وفي أسفلها مجموعة كراسي شمسية ومكان معد للشواء.
ثم في الأمام ومباشرة بعد وحدات الصيانة والخدمات سيبدو أمامك صف طويل من الوحدات السكنية الرائعة التصميم، والمغطاة بقرميد أحمر نقشت عليه أرقام الوحدات، وكل وحدة لها مدخلان يؤدي كل واحد منها إلى دور مجهز بعدة غرف نوم وغرفة طعام، ومطبخ وغرفة ألعاب، وبعض المنافع المهمة، وصالة داخلية، وشرفة خارجية تصلح لجلسات الشاي والقهوة التركية المشهورة في هذه المنطقة.
وسرعان ما ينتهي الصف الطويل بمسبح أولمبي في صالة زجاجية يلحق به ملحق خشبي تغطيه الأشجار، ويقع فيه النادي الصحي والسونا والعلاج الطبيعي وغير ذلك مما يهتم به أهل الرياضة.
يلي ذلك وفي الجهة المقابلة تماماً للوحدات السكنية تقع صالة اجتماعات كبيرة مجهزة بأحدث المعدات من وسائل عرض، وخرائط، ونظم معلوماتية وغير ذلك، يليها وقريباً من المدخل الرئيسي على يسار القادم ترى حديقة استوائية رائعة يتوسطها مبنى صمم على شكل معبد صيني، واتخذته إدارة المجمع مقراً لها، وبجانبه وضعت بعض الأقفاص المرتبة لتعطي حديقة حيوان صغيرة وضع فيها بعض الحيوانات النادرة.
هذا هو المكان الذي قررت البعثة إرسالي إليه للاجتماع السنوي لعلماء الإدارة والتخطيط، وكنت أرى في وجه الرجال نوعاً من الرفاهية المقيتة التي هي في حقيقتها كسل وجبن، وتعلق بأسباب الحضارة المادية، لم أكن متمسكاً تماماً بإسلامي، ولكن المكان أعطاني شعوراً بتميزي، ولأن فترة إقامتي كانت ستطول فقد أرسلت لأخي في طلب مجموعة من الكتب الشرعية التي تتعلق بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -.
انتهى الشهر الأول في برامج مملة نوعاً ما، ولأن الجميع حضر بأهله عداي فقد كانت لديهم برامج تخص الأسرة، ولكن لم يكن لي مكان كبير فيها لاختلاف الثقافة، وبدأت أعد مشروعي الذي سأتبناه في هذا المؤتمر الذي هو أقرب لورشة تنظير إداري، وأنهكت نفسي في البحث والتأمل، والدراسة والترتيبº حتى حان موعد إلقاء أطروحتي الإدارية.
- أنت مجنون يا أحمد؟
- لا.. لست مجنون.
- كيف لا.. وهذه هي أطروحتك.. أتدري من ستقابل هنا؟
- نعم.. كل أقطاب الصناعة والإدارة في مختلف دول العالم.
- جميل.. جميل.. إذاً أنت تعرف حقاً من ستقابل.. ومع ذلك فأطروحتك لا تدل على فهمك.
- لماذا يا دكتور؟
- ما دخل الدين في الإدارة والاقتصاد؟
- سادنا لحظة صمت ثم قطعتها بردي عليه: ومن قال لك أنني سأتكلم عن الدين، أنا أتكلم عن الإدارة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشيخين.
- رد علي مستهزئاً: وهل كانت هناك نظم إدارية في ذلك الزمان؟
- ربما لم تكن هناك نظماً إدارية مكتوبة، ولكن السياسات التي مشوا عليها تعطي عمقاً إدارياً قوياً في حياتهم، وإلا لما قامت الدولة الإسلامية بهذه الصورة القوية والمبدعة في ترتيباتها وتقسيمات المهام فيها.
كنت متحمساً للفكرة بشدة، وبذلت جهدي طوال شهرين كاملين في دراسة بعض المقاطع التي رأيت فيها قوة إدارية وخاصة المعارك، والعلاقات العامة، ومنها استطعت أن أرسم الخطوط الكبرى في العلاقات الإدارية في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، ثم وبعد كلام رئيس الاجتماع أدركت أنني سأخوض حرباً لإثبات صحة نظرياتي، وإن كان هذا المسلم واجه الأمر هكذا فكيف ستفعل الشعوب الحمراء والصفراء.
- معنا الآن الدكتور أحمد.. هكذا أعلن اسمي أمام الجميع، وتقدمت أحمل حقيبة وضعت فيها جهاز الكمبيوتر الخاص بي، ومجموعة قصاصات وضعت فيها أهم النقاط التي سأتطرق إليها ضمن حدود وقتي.
- ألقيت التحية وساد الصمت.
- ليس المهم أن أقف هنا أنا أو غيري لطرح نظريات خيالية لمعالجة أوضاع الاقتصاد، والتصدي للنكبات والأزمات، وتوفير مستويات معيشية مناسبة للمجتمع، ومن ثم وضع صوراً مثالية للتطوير، بل المهم أن آتي لكم بسبب يعالج كل ما ذكرته من سلبيات.
- منذ أكثر من 1424 سنة خرج دين جديد على مجتمع صحراوي لا يعرف من صور الحضارة شيء سوى الخمر والنساء وبعض عادات فيها نبل كالكرم والشجاعة مع ما خالطها من الرغبة في المدح وغير ذلك، ولكن رجلاً خرج من هذه البيئة قاد هؤلاء إلى تحقيق أروع الصور في السلوك والتعامل، وفي التعامل مع معطيات الحياة لصنع النجاح من خلالها إنه رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
سرت همهمة في القاعة الكبيرة، ولكنني لم التفت إليها بل تابعت حديثي، وأخذت أسرد في صور سريعة ملامح من الواقع الجاهلي، وبالمقابل صور التغير التي حدثت في المجتمع بعد إسلامه، وكيف تعامل معه أعدائه بشدة ولكن بالمقابل وثقوا فيه ليقينهم من صدقه.
- كانت أول صور الإدارة هي ضبط النفس في مواجهة العداء، وعدم التعامل مع الإساءة بالمثل، ومع أن العربي يرفض الضيم إلا أنهم امتثلوا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتصرف أي منهم بأي تصرف، ولم يقاتل أحد منهم، وما كانت تنقصهم الشجاعة، ولكنه التغير الذي حدث في النفوس.
- وكانت الزكاة تؤخذ من الأغنياء لتعطى للفقراء فإذا وصل المال إلى حد معين أخذت منه نسبة دفعة لمن لا مال له في محاولة لعمل توازن في المجتمع، ثم فتح باب الصدقة لسد ثغرة أكبر، ثم كان التآخي في صورة لم يعرف التاريخ كله مثلها، إذ كيف نتصور أن يحل أهل مدينة ضيوفاً على مدينة أخرى فيتقاسموا معهم كل شيء، ويشاركونهم في حياتهم حتى لا تكاد تعرف من أهل البلد الأصليون.
- وبدأت الفتوح، فإذا بالبدو ينتظمون في جيوش، ويقاتلون في صفوف في سابقة تاريخية ما عرفها الناس، وظهرت صور من الإدارة فريدة وكانت بدر، وأحد، والقادسية وغيرها، وأما بيت المال فكان مخزن الدولة في عمق الصحراء، ينتفع به الجميع تحت إدارة الخليفة، وتكلمت عن مهام الخليفة وطبيعة العلاقة، ومعالجة المواقف التي قابلوها.
كنت أتكلم في سعادة ونشوة، ومع أن الوقت انتهى إلا أن أحداً لم يغادر مكانه، أو يقاطعني بل كان الكل مندهشاً لعرضي للجوانب الإدارية في كل المواقف التي ذكرتها، وفي الوقت الذي كان البعض ينزوي خجلاً من تاريخهº وقف أقطاب الإدارة في العالم يصفقون ويثنون ويعجبون كيف لم يعرض أحد هذا الكلام من قبل، وكيف يفرط المسلمون في هذا التراث المجيد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد