اقتصاديات الوقت ألف باء الإدارة الحديثة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

1- لاشك بأن أهم مايمتلكه الإنسان المعاصر هو الوقت الذي هو مجموع ثواني حياته القصيرة التي يعيشها على هذه الأرض ولا سيما في هذا العصر الإلكتروني السريع حيث في الوقت الواحد هنالك آلاف الخيارات أمامه للقيام بإحداها سواء من أعمال رسمية أو اتصالية أو إطلاعية أو الإبحار عبر آلاف المواقع على الإنترنت أو مشاهدة احدى مئات المحطات على الدجيتال أو استماع احدى عشرات المحطات الاذاعية على الموجة الواحدة أو القراءة لأحد مئات الكتب أو إحدى آلاف المقالات الممتعة والمفيدة الصادرة في مواضيع مختلفة في عشرات المجلات الأسبوعية أو الصحف اليومية أو زيارة المتاحف والمعارض والمسارح ودور السينما..الخ

 

2- ولكن المهم في عصرنا الحاضر هو كيفية إيجاد الوقت الحر اللازم لدى الإنسان المعاصر للاستمتاع ولو بجزء صغير جدا من كل ما تقدم عرضه من خيارات

 

3- ولذلك فقد اخترع المتطورون من الناس وسائل كثيرة لتوفير كل ما يمكن توفيره من الجهد المهدور في غير محله والوقت الضائع به وذلك لخلق الوقت الفائض (الذي تقاس به رفاهية الأمم المعاصرة) من أجل المزيد من الاستمتاع به بالقراءة والتفكير والتأمل والإبداع والاختراع والتطوير والفن والموسيقى..الخ

فاخترعوا وأنتجوا وطوروا المواصلات السريعة والأسرع والأكثر سرعة من الطيارة والباخرة والسيارة والقطار TGV.. الخ الخ وكذلك أوجدوا وسائل الاتصال السريعة والمريحة من الإيميل والفاكس والتيلكس والهاتف والخليوي.. الخ وآلات الطباعة والخياطة والتعليب والتغليف والنقل... الخ وكل وسائل الإنتاج عالية الإنتاجية والمردود وحتى المؤتمتة والمربوطة منها... الخ وكل ذلك لزيادة هامش الوقت الحر لدى الإنسان المعاصر لاستغلاله فيما تقدم

 

4- وكذلك طوروا الحاسوب (الكمبيوتر) للإسراع بواسطته في الإنجازات العلمية والتقنية والفنية والإبداعية.. الخ وتخزين أكبر كمية ممكنة من المعلومات واستدعائها بأسرع وقت ممكن عند اللزوم

 

5- وأيضا طوروا فن الإدارة الحديثة الذكية والرقمية والعمل عن بعد الذي يوفر أكبر كمية من الوقت والجهد وقسموا العمل الاجتماعي والمؤسساتي لزيادة الإنتاجية وخلق المزيد والمزيد من هامش الوقت الحر للعيش به بما يليق بالإنسان المعاصر.. الخ

فكم من مليارات الساعات المجهدة فيزيولوجيا وعصبيا قد وفرتها وسائل الإنتاج الحديثة كانت تبذل في الحرث والزرع والحصاد والدرس و الطحن البدائي القديم وكذلك في العصر والخبز والطبخ والغسل والحياكة والنقل والمواصلات و.... الخ

 

6- ولا عجب أن أصبحت المصارف في الدول المتطورة تقوم بدفع كل الفواتير المترتبة على الإنسان في تلك الدول من التأمين الصحي والماء والكهرباء والهاتف وقسط المنزل وأقساط التأمين على الحياة وحتى تجهيز المدفن والتابوت والموسيقا والزهور اللازمة للدفن في اليوم الأخير من الحياة وتحويل الوقت الموفر إلى رفاهية حقيقية وأعمال إبداعية أخرى وجديدة تغني الحضارة الإنسانية والوطنية والذاتية

 

7- فعاش الإنسان المتطور في بحبوحة من الوقت الحر للاستمتاع به فيما تقدم من خيارات في الفقرة (1) أو للسياحة خلاله في بلاد الله الواسعة وزيارة المتاحف والآثار القديمة أو الاستجمام على الشواطئ أو الاستمتاع به في المطاعم والمقاهي والمنتزهات الفسيحة أو حضور المحاضرات العامة والندوات والمؤتمرات العلمية أو الاجتهاد في المكتبات والمختبرات للمزيد من الإبداع والاختراع والتميز في ميادين الحياة الجديدة والعمل لإضافة كل مجتهد لبصماته المميزة له على جدار التاريخ الطويل واللامتناهي

 

8- وبتلك الاجتهادات والتميزات تطورت العلوم التطبيقية والفنون الحياتية والإبداعات والاختراعات العلمية والتكنولوجية والفنية والالكترونية بدون حدود وفي كل مجالات الحياة وبما يتجاوز الأفق المنظور لحواس الإنسان الخمس

 

9- ولكن ويا للأسف الشديد لا يزال أبناء العالم الثالث والرابع والعاشر وربما العشرون.. الخ بعيدون جدا عن كل ما تقدم الا بما يستوردونه من منجزات الاخرين مما ورد ذكره من منجزات تقنية فهم لا يزالون يكدحون أغلب أوقاتهم وراء لقمة العيش المغمسة بالعرق وكثيرا من الأحيان بالذل والألم والدم لأنهم لم يجهدوا أنفسهم بتشغيل عقولهم الخام بالإبداع أو الاختراع العلمي والتقني والفني كما فعل المتطورون (أو ربما لم يوجد لدى بعضهم الوقت الفائض من أجل ذلك) ولا بتصويب وتحكيم ضمائر ذوي القرارات فيهم لتحسين مستوى معيشتهم أو تخفيف ما يمكن تخفيفه من الأعباء الحياتية عنهم وما بإمكانهم فعل ذلك ولو على الأقل بتقليد المتطورين فيما فعلوا في هذا المجال وكيف سهلوا حياتهم وخلقوا فائض الجهد والوقت لديهم.. الخ

ولذلك لايزال هؤلاء اللامبدعون لحلول مشاكلهم يجرجرون أرجلهم لدفع فواتير الماء والكهرباء والهاتف والخليوي والنظافة وقسط المسكن وتجديد أوراق السيارة وتسجيل معاملات البيع والشراء وأخذ براءات الذمة وتجديد الأوراق الشخصية المنتهية الصلاحية... و... والخ هنا وهناك وهنالك في عمليات روتينية وبيروقراطية عقيمة وسقيمة ومنهكة ومدمرة للطاقة والوقت والأعصاب ولا سيما الاضطرار للوقوف الساعات الطوال بالانتظار بالدور على الرجلين المنهكتين في قمة الحر أو القر في بعض المؤسسات القابضة الجاحدة أو السادية لأنها تضن على الدافعين لها بكرسي أو مقعد خشبي أو مروحة أو مكيف أو كلمة طيبة أو حتى ابتسامة ونحن الذين نكرر في الصباح والمساء القول المأثور (ابتسامتك في وجه أخيك صدقة.. وإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوا بأخلاقكم.. الخ) ولكن يبدو أننا أصبحنا نضن بالابتسامة حتى على أنفسنا أمام المرآة

 

10- هذا مع العلم أن أكثر الناس المراجعين للدفع في هذه الطوابير هم من كبار السن من المحامين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والمعلمين والموظفين الآخرين ورجال الأعمال... الخ سواء الذين عطلوا أعمالهم أو هم المتقاعدين الشيوخ الذين قدموا لكي يقوموا بتسديد ما عليهم في الوقت المحدد حتى لا تقطع عنهم الخدمة وتسوء الحالة أكثر هذا وإذا احتسبنا أجرة ساعة المحامي الأمريكي المبذولة في قراءة دعواه بــ 200 دولار (أي بحوالي عشرة آلاف ليرة سورية) وساعة الجراح السوري بــ 5000 ليرة سورية وساعة العامل الألماني بحوالي 1000 ليرة سورية وساعة الطبيب أو المحامي العربي بما لا يقل عن ساعة العامل الألماني وساعة المدرس الخصوصي بــ 300ليرة سورية... الخ فكم يا هل ترى تهدر مليارات الليرات السورية شهريا من قيمة الساعات الضائعة في الجري وراء العمليات الروتينية العقيمة السقيمة التي كان من الممكن أن تسدد من قبل المصرف أو تشغيل بها مئات الموظفين من الشباب الخريجين العاطلين عن العمل الذين يدخنون الأراكيل لحرق الوقت الطويل الممل لديهم

 

11- ومما يزيد في الحسرة ويحر في الحرقة أن الحواسيب (الكمبيوترات) لدينا بلدت أو تبلدت إذ هي لا تقوم بالسرعة والدقة... والجهد والإنتاجية التي تقوم بها في بلاد الصنع فأغلب الفواتير المحسوبة لاتصدر في تاريخها المذكور على الفاتورة السابقة وكشف الهاتف المحوسب يتاخر كذا يوم واحيانا أسابيع عن تاريخ دفع الفاتورة وفواتير الماء لا تاتي في الوقت المحدد على الفاتورة السابقة وقس على ذلك فواتير الكهرباء والخليوي... الخ والسؤال: لماذا هذه التأخيرات؟. ولماذا هذه الكمبيوترات إذن؟ ولماذا لا يعلم المستهلكون بذلك مسبقا؟ ولماذا لا يوظف آلاف الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل بدلا من الحواسيب العاطلة أو المعطلة أو الموظفين الكسالى؟ ولماذا لا يقسم العمل فيما بينهم بشكل صحيح لتنجز الأعمال في حينها ويحمل المقصر مسؤولية تقصيره؟ وتوفير مليارات الساعات الضائعة على الملايين من عباد الله الجارين وراء إنجاز هذه الأمور العقيمة والسقيمة واللامفيدة لأحد والمعطلة للعمل والإنتاج البديل هذا عداك عن غياب وتغيب ومرض وتمارض الموظف المسؤول بدون تكليف من ينوب عنه وأيام العطل والمناسبات الكثيرة والطويلة.. الخ إذ يمكن أن تزور المقصد أكثر من مرة لتدفع (لا لتقبض) فلا تجد الموظف المقصود لتدفع له (رغم أنه يأخذ راتبه من الضرائب لخدمة الوطن عبر خدمة المواطنين وليس لإرهاقهم وتضييع أوقاتهم)

 

12- وهكذا تضيع حياة أبناء العالم الثالث والعاشر في اللهث وراء السراب في المتاهات الروتينية والدوائر البيروقراطية المغلقة والعمل العضلي المرهق والمنغصات الكثيرة وعندما يتهالك ذلك المتعب في منزله آخر النهار لا يجد رغبة في قراءة أو كتابة أو عمل فكري أو إبداعي فيتبع الأسهل له مثل متابعة مسلسل تلفزيوني قديم أو سماع أغنية عاطفية طويلة أو التشعي على كيفية صنع طبق اليوم أو مشاهدة مباراة كرة قدم وما يتخلل ذلك من دعايات تجارية سمجة وإعلانات سخيفة تدعوا للغثيان

 

13- فقط هم من لديهم الوقت الفائض في العالم الثالث هم بعض المسؤولين الذين يستغلون مناصبهم فيكلفون سائقيهم ومرافقيهم وسكرتيراتهم وخدمهم وحشمهم في القيام بكل هذه المهمات المقيتة وأما هم فيجدون كل الوقت الكافي لاستقبالات وتوديعات الضيوف المماثلين والعزائم على الولائم العامرة.. وفي المهمات الرسمية شبه السياحية والتسوقية المأجورة خارج الحدود... الخ وليتهم يخصصون لحلول المشكلات المنوطة بهم جزءا ولو قليلا مما يهدرونه من الأوقات اللامنتجة لديهم

 

14- والسؤال: متى سيحلم أبناء العالم الثالث بالوقت الفائض والجهد الموفر الذي يمكن تحقيقه عن طريق:

- الروبوت (الانسان الآلي) الذي يعمل 24 ساعة بدون كلل أو ملل أو شكوى لا يمرض ولا يتمارض ولا يذهب للمرحاض ولا للموؤسسة أو لغيرها على حساب وقت العمل الماجور

- الكمبيوترات غير البليدة ولا المتبلدة التي تعمل لوحدها بدون إنسان وتنجز الأعمال والكشوف والفواتير في حينها وبدون أن تضطرك إلى سؤال ذوي النفوس الحامضة دائما من المكلفين بأداء نفس الخدمة.. أو

- الارتقاء بالأداء الإداري إلى مستوى فن الإدارة الذكية والمجتمع الرقمي الذي تحل فيه القضايا وتتجدد فيه الأوراق ويحصل فيه على المستندات اللازمة بأقل جهد وأقصر وقت وأقل كلفة

- بمصارف معاصرة تقوم بما تقوم به مثيلاتها في البلدان المتطورة وتدفع ما يترتب علينا ومن حساباتنا مع حسم العمولة المكافئة للجهد والوقت أو..

- بتوظيف كل الشباب المؤهلين المتواضعين المحتاجين المحبين للعمل والمجيدين له والمبدعين فيه ليقوموا بالأعمال اللازمة وفي حينها بدلا من المقصرين في أعمالهم المعطلين لأعمال الآخرين

15- وساعتئذ ربما سيتوفر الجهد والوقت المطلوب والتمكن من التفرغ لما هو مهم وأهم وأكثر أهمية من اللف والدوران في الحلقات المفرغة وبالتالي التفرغ للعمل البديل المجدي وكذلك للقراءة والكتابة والترجمة والإبحار في عالم الإنترنت والدجيتال والمكتبات والاطلاعات لكسب المزيد والمزيد من المعارف والخبرات والمؤهلات المعاصرة اللازمة لتمثيلها وتبسيطها وإعادة صياغتها إلى جماهير الطلاب والمستمعون وخاصة للقراء من الجيل الحاضر أو لمن سيقرأ من الاجيال اللاحقة فربما ساعدت على المساهمة في تحقيق ابداع أو اختراع بما يفيد المجتمع أو الإنسانية أو يفيد الذات على الأقل

16- ولمعرفتنا المسبقة ببطء تحقق أي مما تقدم فإننا نتمنى على كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بتطبيق ألف باء الإدارة الحديثة في المجتمع الرقمي المنشود القاضية بـــ:

- أخذ كل ما تقدم بعين الاعتبار والعمل على اجراء محاضرات عامة أو ندوات علمية بذلك لمناقشته وخلق رأي عام به

- تقييم كل الطوابق والغرف والقاعات والمدرجات لديها وبالأرقام العربية (العالمية المعاصرة 1-2-3) ليعرف المواطن المراجع في أي طابق هو؟ ومن أين يذهب؟ وإلى رقم أي مكتب ينبغي أن يتجه في معاملته؟.. الخ

- وكذلك نتمنى على المؤسسات القابضة التي يتجمع لديها عادة ثلاثة مراجعين فأكثر بأن واحد أن تؤمن لديها كراسي أو مقاعد خشبية لمن لا يقدر على الوقوف الطويل احتراما للمواطنية أو للإنسانية على الأقل

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply