بسم الله الرحمن الرحيم
النقابات في أوروبا تلعب دورا في تخفيف وطأة التسريح:
تستحق التجربة الأوربية في تسريح العمال والموظفين بسلبياتها وإيجابياتها النظر لها من المؤسسات والنقابات العربية، لا سيما أن الآلاف من العمال والموظفين العرب يسرحون سنويا، دون ضمان أي حقوق لهم بعد التسريح، أو حتى محاولة دمجهم مرة أخرى في سوق العمل للاستفادة من خبراتهم، كما أن تداعيات العولمة بدأت تتجلى بقوة في خفض نصيب رأس المال البشري من العملية الإنتاجية في العالم.
وتتم عملية تسريح الموظفين في الشركات والمؤسسات الصناعية في أوربا، في إطار ما يعرف بنظام \"إعادة الهيكلة\"، الذي هو في واقع الأمر البحث عن توفير أكبر قدر ممكن من النفقات لتسجيل أرباح أكثر في نهاية العام، وبالتالي ترتفع أسعار أسهمها في سوق الأوراق المالية، وتعزز من مكانتها الدولية في القطاع الذي تنشط فيه.
وقد تجد بعض الشركات نفسها مضطرة إلى شطب الآلاف من الوظائف، بعد أن بدأت في تحويل خطوط إنتاجها إلى دول ذات عمالة رخيصة كما في جنوب شرقي آسيا على سبيل المثال.
إعانة بطالة:
ويعتمد العاطلون في المرحلة الأولى من تسريحهم على إعانة البطالة التي تكون عادة 70% من آخر أجر تقاضاه الموظف قبل الفصل، وذلك لمدة زمنية محددة، وإذا لم يجد خلالها العامل أية وظيفة جديدة يحول على الفور إلى المرحلة الثانية التي يتم تصنيفه فيها على أنه \"حالة اجتماعية حرجة\" يحصل خلالها من الدولة على الحد الأدنى من النفقات الضرورية فقط للحياة اليومية.
وهنا يفرض عليه المشرف الاجتماعي أوجه إنفاق محددة، يجب ألا يتجاوزها سواء في المأكل أو الملبس، كما يجب عليه أيضا أن يقبل بأي فرصة عمل يمكن أن يوفرها له مكتب الضمان الاجتماعي، الذي يحرص على تذكير العمال دائما بأن الدولة لا تمنح هبات أو صدقات، ولذا يجب على العامل أن يثبت دائما أنه مستعد لتقديم أي شيء في مقابل ما يحصل عليه من أموال.
فعلى سبيل المثال، يتم استخدام تلك الحالات الاجتماعية الحرجة في أعمال تتعلق بحماية البيئة أو في دور العجزة وكبار السن، في مقابل مادي ضعيف أيضا، لأن مثل تلك المجالات ليست ربحية في أغلب الأحوال.
رعاية المفصولين:
ونجحت العديد من النقابات العمالية والمهنية في الدول الرأسمالية في إقناع المؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى بتحمل جزء من المسئولية في مصير العمال المفصولين، لتجاوز الآثار الاجتماعية المختلفة الناجمة عن انتشار البطالة وانعكاساتها.
وقد توصلت تلك الضغوط إلى رضوخ أغلب الشركات لوضع ما يعرف بـ\"البرنامج الاجتماعي\" لرعاية الموظفين والعمال المفصولين خلال فترة محددة، لا تدخل في إطار المرحلة التي يحصل فيها المفصول على إعانة البطالة. ويشمل مثل هذا البرنامج الاجتماعي عدة نقاط هامة، تختلف بطبيعة الحال من شخص إلى آخر، حسب الكفاءة المهنية، والسلم الوظيفي، وحسب مكانة الشركة على الصعيد الدولي.
فتقوم الشركات بمساعدة الكوادر الإدارية والفنية العالية والكوادر ذات الخبرة الواسعة في مهمة العثور على وظيفة مشابهة في مؤسسة أخرى، حتى وإن كانت خارج البلاد، لأن أغلب تلك الكوادر مستعد للعمل في أي مكان، بدلا من الوقوف في صفوف العاطلين أمام مكاتب العمل والضمان الاجتماعي.
فعلى سبيل المثال، عندما بدأت شركة الطيران السويسرية \"سويس إير\" سابقا في الانهيار قامت بالسعي لتوظيف طياريها لدى شركات الطيران الدولية، وحتى الشركة الحالية \"سويس\" قامت بتوفير 40 فرصة عمل لطياريها لدى شركات طيران مختلفة، بعد أن قررت تقليص عدد العمالة فيها إلى الحد الأدنى.
أما العمال، فتقوم الشركات بإعداد دورات تدريبية متخصصة لهم تحت عنوان \"إعادة التأهيل\" أو \"كيفية تحسين جودة الأداء\" يتدربون فيها على الجديد في المجالات التي تخصصوا فيها، ولكن بما يتناسب مع احتياجات الأسواق العالمية والفرص المحدودة المتاحة، مثلما فعلت فرع شركة \"موتورولا\" لصناعة الهواتف في فلينسبورغ الألمانية عندما قررت في عام 2003 الاستغناء عن 600 من عمالها في مجال التركيب والتغليف، فوفرت لهم فرص تدريب جديدة في مختلف المصانع مع ضمان 80% من آخر راتب تقاضاه كل عامل لمدة عامين، على أمل أن يتمكن من العثور على مكان مناسب له.
تغيير التخصص:
وبما أن الأزمة عامة وتشمل قطاعات مختلفة، تنصح الشركات عادة العمال المفصولين بتغيير تخصصاتهم بالكامل، بما يتناسب مع المتاح حاليا من فرص العمل، فلا بد للعامل من إجادة العمل بالكمبيوتر واستخدام الإنسان الآلي والتعامل معه، والتعرف على الماكينات الحديثة وأساليب التصنيع الجديدة، بعدما تقلص العمل اليدوي إلى حده الأدنى، واحتلت الآلة مكانة هامة في المصانع. كما تقوم بعض الشركات أحيانا بالاتفاق مع مصانع أخرى، قد تواصل نشاطها بتعيين العمال المفصولين عند خلو أي وظيفة بسبب التقاعد مثلا.
أما بالنسبة للأعمال المكتبية والإدارية، فالأمر يكون صعبا إلى حد ما، إذا يدخل العاطلون عن العمل في سباق مع الزمن، للعثور على أية وظيفة، ولو كانت حتى بنصف وقت، فيعمدون إلى تعلم أكثر من لغة أجنبية، وإجادة التعامل مع برامج الحاسب الآلي المتعلقة بالأعمال المكتبية.
كما أنهم يضيفون مهام أخرى إلى وظائفهم أي سكرتارية ومعالجة نصوص وبيانات وإعداد وعلاقات عامة، لمحاولة الظهور في شكل الشخصية التي يمكنها العمل بكل شيء في آن واحد، وبالتالي تكون فرصتهم أكبر، لأنهم يلتزمون \"ضمنيا\" بالقيام بمهام 3 موظفين في آن واحد، مما يساعد الشركات على توفير رواتب إضافية.
نقابات تضغط:
والوصول إلى \"برامج اجتماعية\" للعمال المفصولين طريق طويل يمر بمفاوضات عسيرة للغاية، بين النقابات العمالية وأصحاب رأس المال، فمن ناحية لا ترى النقابات أن فصل العمال لتوفير النفقات مبرر للإلقاء بهم على قارعة الطريق، إلا في حالات الإفلاس أو تضخم ديون الشركات، وهو ما لا تقبل العديد من المؤسسات الظهور به في دوائر المال والأعمال.
بينما يرى أصحاب رءوس الأموال (دون استحياء) أن النظر دائما إلى البعد الاجتماعي يهدد الثروات ولا يجلب معه الأرباحº بالتالي يبحثون عن برامج اجتماعية لا تكلفهم الكثير، أو لا تستنزف الكثير من مدخولاتهم، حيث يضعون حساب الربح والخسارة في المقام الأول، أما الدولة فتقف في موقف المتفرج، الذي لا يتدخل إلا عندما تغلق جميع الأبواب فقط أو في الحالات الإنسانية الحرجة للغاية.
هذه التحولات القوية في سوق العمل في الدول الرأسمالية والصناعية الكبرى، تضع الإنسان أمام تحديات كبيرة وجسيمة على صعد مختلفة، فبعدما كان رأس المال في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوج احتياجه للأيادي العاملة والقوى المنتجة، التي شيدت وأنتجت في مجالات مختلفة، تغيرت الاهتمامات الآن، وبدأت تنظر إلى كيفية التخلص من الأيادي العاملة بحثا عن أرباح أكثر من طرق أخرى، في الوقت الذي بدأت فيه الدول الغنية تتنصل من واجباتها والتزاماتها تجاه مواطنيها ولا تقدم لهم سوى الحد الأدنى.
ويؤشر على ما سبق إحصائيات الاتحاد الأوربي، التي تظهر تراجعا واضحا في ميزانية الدعم الاجتماعي الذي انخفض في الفترة ما بين عامي 1990 إلى عام 2001 من 28. 4% من إجمالي الناتج القومي العام إلى 27. 5%، وكانت الدول الإسكندنافية في مقدمة الدول التي خفضت بشكل كبير من نفقاتها الاجتماعية، تليها فرنسا وهولندا وأسبانيا وإيطاليا وبريطانيا، ورغم ارتفاع معدلات البطالة بشكل درامي فإن النموذج الاقتصادي الإسكندنافي يوصف بأنه الأكثر نجاحا في العالم!!
ولم يتبق أمام المواطنين في الدول الصناعية الكبرى سوى السعي لخوض \"معركة\"، بكل ما تعنيه الكلمة، للبقاء على قيد الحياة، وهذا السعي يسير في مراحل مختلفة بشكل متواز، فأسلوب التعليم والدراسة أصبح يعتمد بشكل أساسي على تنمية روح الإبداع والتميز منذ الصغر.
البطالة واقع:
والإعلام لم يعد يصور البطالة كأزمة، بل كواقع يجب التعامل معه بما تمليه المصلحة الاقتصادية، لتعيِش أوربا أجواء تحول من عصر النهضة الصناعية الإنتاجية، إلى عصر الاعتماد على تجارة الخدمات والبحث عن الابتكار والتطوير والجديد، لمصلحة رأس المال.
وهذا ما تؤكده الإحصائيات أيضا التي تظهر في بلد مثل سويسرا تراجعا كبيرا في البحث عن الأيادي العاملة في التصنيع بلغت نسبته 30% في الفترة ما بين عامي 1991 و2004، في مقابل زيادة في البحث عن المبتكرين والمتميزين ومن يفهمون في بيع الخدمات على اختلاف أنواعها بلغت 5% عن نفس تلك الفترة، مع ارتفاع ملحوظ في نسبة البطالة.
وتبقى الفرصة الوحيدة المتبقية هي أن تكون مبدعا خارقا حتى ولو كنت خبازا بسيطا أو عامل نظافة، أو أن تقبل بما يمليه عليك رأس المال أي إما أن تعيش كما يريد لك هو، أو ترحل إلى مكان آخر.
قد تبدو الصورة قاتمة ومتشائمة، ولكنها الحقيقة التي تعيشها فترة التحول الراهنة التي فرضتها العولمة، والسعي نحو إنجاحها بأي ثمن، على حساب القيم الاجتماعية والأخلاقية، ويبرر أنصار العولمة هذه التحولات بأنها \"نتيجة حتمية تفرضها متطلبات العصر، ولكل ثورة ضحاياها\"، فالمهم أن ينتصر رأس المال، أما البقية فعليهم تدبر أمرهم بأنفسهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد