بسم الله الرحمن الرحيم
الموهبة عند المرء قدرة يدلنا عليها أما معرفة أو مهارة أو إتقان لعمل ما يتميَّز به عن غيره من النَّاس. فإذا مارس هذا الموهوب موهبته وأنجز عملاً ما متميِّزًا سمينا ما أنجزه إبداعًا، وسميناه هو مبدعًا. فكل مبدعٍ, موهوب، وليس كل موهوب مبدع، إذ العبرة بالممارسة والإنجاز، لا بالقدرات الكامنة المعطَّلة.
وفي الحقيقة أن كلَّ إنسان موهوب، فالله سبحانه وتعالى خالق الإنسان معلِّمه البيان، كرَّمه، وفضله على كثيرٍ, ممن خلق تفضيلا. والتَّكريم، والتَّفضيل المذكوران في القرآن الكريم يتجاوزان في بعديهما ومعنيهما مفهومنا عن الموهبة مهما حمَّلنا ذلك المفهوم من معنى. فهذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب عنا، وإنََّ غابت عنَّا، دون عذر مقبول، القدرة على اكتشاف ما حبا الله به الإنسان من مواهب، ومعرفتها، وتوظيفها التَّوظيف الصحيح حتى تؤتي ثمارها المرجوة.
وهناك براهين كثيرة على ما قدمنا، يكفي إيراد واحد منها هنا. أما ترى أنَّ المواهب تتعدَّد بتعدٌّد النشاطات الممارسة في أي زمان ومكان، فلو افترضنا توفٌّر ألوان كثيرة لا حصر لها من النشاطات المتعددة المختلفة، في مكان واحد، في زمن واحد، في أمةٍ, واحدة، ألاَّ ترى أنَّه لن يبقى من أناس هذه الأمة في هذه البيئة من أحد إلاَّ وظهر له موهبة ما، في عمل ما لكثرة الخيارات المُتاحة للإبداع من جهة، ولتعدد القدرات التي يتمتَّع بها الإنسان التي نجهل أقلها علمنا أو لم نعلم، فسبحان القائل: وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً\"، نعم لم نؤت منه إلاَّ قليلاً حتى في الإحاطة بما لدى الإنسان من مواهب وقدرات.
من هنا أرى أن الإنسان موهوب بطبعه لكنه قد يعيش ويموت مغمورًا لا تُعلم قدراته ولا مهارته ولا موهبته، من ذاته ولا من أحدٌ ممن هم حوله. ولذلك للإنسان حقٌ على من يتولَّى حق رعايته وتربيته أن يعرف قدراته ورغباته أو قل مواهبه فيدله على الاتجاه الصحيح الذي يناسبه فعساه أن يفيد في حياته نفسه وأمته. كما أنَّه يجب على الإنسان السَّعي في الأرض بهدف عمارتها، والتَّحرٌّك في طلب الرِّزق، وفي ابتغاء الفضل، فبذلك تُعرف قدراته، يعرفها هو، ويعرفها عنه المحيطون به. أمَّا أن يحصل القصور في التَّربية والرِّعاية، ويتبعه القصور في السَّعي والعمل ويبقى الإنسان غامضًا منطويًا إلى أن تنطوي حياته، فذلك غمط للمواهب ودفن لها، ودفن للأمة معها شعرنا بذلك أو لم نشعر.
ولعلي أضرب مثلاً يتضح من خلاله تقييدنا الموهبة التي نسعى لاكتشافها بما نعرفه من معارف معدودة محصورة نتحرك في محيطها. فقد تجد شخصًا ما موهوبًا في الشعر واللغة، وآخر موهوبًا في الرياضيات، وآخر في الحاسب الآلي، وآخر في قراءة والقرآن وتجويده، وآخر في الحديث حفظه وتفسيره، وآخر في الفقه واستنباط الأحكام الفقهية، وآخر في الجغرافيا، وآخر في التأريخ وهكذا. كلٌّ هذه المواهب ظهرت من خلال دراسة مقررات معيَّنة في هذه الجوانب من المعرفة. هب أنَّ هناك مقررات أخرى غير ما ألفناه هنا ألا تجد أنَّك ستجد موهوبين مبدعين فيها مهما تعددت وتنوَّعت.
ولو تصورنا أن لهذه المعارف تقنيات منتشرة في الحياة من حولنا، توظِّف بدورها أصحاب هذه المواهب ألا تجد أننا سنعثر على مواهب جديدة لدى هؤلاء أوغيرهم ممن يستهويه هذا التَّوجٌّه. لا بد أنَّنا سنجد موهوبين جدد يأتون بالعجب في هذا الاتجاه من المعرفة، بل وسيظهر التَّمايز أكثر بينهم جراء اختلاف النَّشاط الممارس من قبلهم. وتصوَّر، أيضًا، أننا سعينا إلى استحداث آلية عملية للتَّكامل بين هذه المعارف المختلفة لنخرج بتقنيات مبدعة متكاملة أفضل من التقنيات المشتَّتة المنفصلة عن بعضها، ألا ترى أننا سنجد أهل مواهب هذا المسار بارزين أمامنا وجاهزين للتَّعلٌّم والإبداع. ثمَّ تصوَّر أننا بحثنا عن مجال آخر للتقنية غير ما هو مألوف لدينا من التقنية الرَّقمية في عالم اليوم، ألا تعتقد أنَّه سيبرز لنا عدد من الموهوبين يغذٌّون هذا الاتجاه ويصلون فيه إلى نتائج مبهرة. وقس على ذلك ما شئت من التَّصورات العلمية الممكنة التي لا شطط فيها ولا عنت.
ولا يعجبنَّ أحدٌ مما نقول فإن \"المعلومات\" التي يتغنَّى كلٌّ واحد منَّا بتقنيتها اليوم تختلف في هيئتها وكنهها من شخص لآخر، ومن فئة لفئة بحسب معارفها ومداركها ومجالها. فقد نجد أنَّ ما يُعد \"معلومات جديدة\" لشخص ما، هي عند آخر من المألوفات المعروفات التي لا جدة فيها. أو بعبارة أخرى نجد أنَّ المعلومات التي تنتجها تقنية ما، هي مدخلات عند أهل تقنية أخرى، أي أنَّ قمة التقنية عند فئة هي قاعها عند أخرى، ولله في خلقه شؤون.
إذن ألسنا نظلم الإنسان عندما نقول إنَّه غير موهوب؟. إن قولنا لشخص ما أنَّه غير موهوب يقتضي أن نكون قد أحطنا بكافة مجالات المواهب أو الإبداع خبرا، ولم نجده فالحًا في أيٍّ, منها، وهذا غير وارد على الإطلاق. فعلينا أن نُقيد هذه المقولة بقيد المجال الذي هو غير موهوب فيه، أما إطلاقها دون قيد فيعني الإجحاف بعينه، والضَّياع برمته. ومن أقل أنواع الإجحاف أن يُصاب من نطلق عليه موهوبًا بشيء من الغرور، ويصاب من رفعنا عنه تلك الصفة بشيء من الانهزام، والعياذ بالله.
فما الذي ينبغي علينا عمله لنلاقي بين المرء وموهبته؟ إنها مسؤولية كبيرة لا يقوم بها فرد أو أفراد وإن كثروا، إذ هي مسؤولية المجتمع كله، أو قل هي مسؤولية الأمة كلِّها. وما أفلح كثير من أمم العالم المتقدِّم تقنيًّا اليوم إلاَّ بعد أن وعى أهمية الفرد في كيانه، وآمن بأنَّه موهوب وله قدرات تميزه عن غيره في عمل ما. ولو أنَّ هذه الأمم أخذت النَّاس بالعرق، أو باللون، أو بالمنشأ، أو بالشَّكل، أو بالمظهر، لما أفلحت في شيء من شؤونها التقنية كما نراها اليوم لكنَّها أخذتهم بما يتقنون كلُّ فيما يريد أن يبدع فيه دون عسف أو اعتساف، فجاءت النَّتائج مثمرة لها في معظمها، وإن كانت مدمِّرة في بعضها لغيرها من الأمم بكل أسف.
إن العناية بالإنسان لكي يكون موهوبًا ولو حسب تصورنا غير السَّليم تبدأ قبل أن يخرج إلى الدٌّنيا كما يقول أهل الاختصاص، أي وأمٌّه في مرحلة وهن على وهن، ثمَّ تستمر هذه العناية به إلى أن يصبح في وهنٍ, مشابه لوهنه الأول مع اختلاف نوعية العناية وكيفيتها بحسب مراحل حياته، فهل نحن جاهزون لهذه المسؤولية الجسيمة، أم لا؟.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد