إدارة الذات


بسم الله الرحمن الرحيم

 

[من أصبح والآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له].

هكذا يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - العباد كلهم إلى هذين الفريقين العظيمين:

أصحاب هم الآخرة: الذين جعلوا هدفهم الأوحد في هذه الدنيا الفوز برضوان الله - تعالى - والجنة بعد أن لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكره - تعالى -.

 

وأصحاب هم الدنيا: الذين توحدت أهدافهم في إشباع رغبات النفس الأمارة، فأرادوا الحياة الدنيا وزينتها بعد إذ ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله - جل وعلا - ويترجم الزاهد أبو مدين هذا الحديث العظيم فيقول: [القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشى].

فقلوب تحوم حول مراضي الله - تبارك وتعالى - من ذكر وصلاة، ودعوة وجهاد، وقلوب تحوم حول لذائذ الجسد من طعام وشراب ونساء، وعلى أصحاب هم الآخرة من ذوي القلوب الجوالة حول عرش الرحمن ينعقد أمل هذه الأمة ـ بعد الله - تعالى - في استعادتها لزمام القيادة مرة أخرى، إنهم الدعاة إلى الله - عز وجل - لله درهم، وهم يسيرون في درب الجهاد، يرفعون لواء لا إله إلا الله، بعد أن لم تستعبدهم قيود شهوة، ولا رنين ذهب أو جمال أنثى، إنهم صقور الإسلام الذين نادت الدنيا على أحدهم لتوقعه في حبائلها فانقلب منها الصوت خاسئًا وهو حسير، وعادت تقص علينا ما حدث فقال:

 

قلتُ للصقـر وهو في الجـو عال ***  اهبط الأرض فالهـواء جديـب

قال لي الصقر في جناحي وعزمي ***  وعنان السماء مـرعى خصيب

قلب يـطل على أفكاره ويـد ***  تُمضي الأمور ونفس لهوها التعب

إن القلب الذي يتطلع دائمًا وأبدًا إلى هدفه لا يبغي عنه حولاً، فيراه ماثلاً أمامه متحققًا بين يديه، يدفع صاحبه دومًا نحوه، فيعود يقيس حياته كلها على أساس هدفه، فلا يصرف جزءًا من وقته في عمل إلا إذا كان يقربه من مبتغاه خطوة، ويضن بثواني عمره أن تذهب في غير تقدم نحو هدفه الذي يرنو إليه.

ولقد أقنعناك أيها الهمام في الحلقة الماضية بضرورة تحديدك لأهدافك في الحياة بحيث تملك رؤية استراتيجية شاملة لمشوار عمرك كله، فتحدد ما تريد أن تصبح عليه حياتك المستقبلية، وبأي صورة وأعمال وإنجازات تريد أن تلقى الله - عز وجل - وفي هذه الحلقة دعنا نتعلم سويًا كيف نحدد أهدافنا ونضع وثيقة شخصية لأدوارنا في الحياة.

 

أنواع الأهداف:

بداية لا بد أن تعلم أيها الحبيب أن علماء الإدارة يقسمون الأهداف إلى نوعين:

1ـ أهداف استراتيجية أو كلية:

وهي الأهداف ذات الأجل الطويل والتي تحتاج إلى زمن أطول لتحويلها إلى وقاع عملي ملموس.

 

2ـ أهداف تكتيكية أو جزئية أو مرحلية:

وهي الأهداف ذات الأجل القصير والتي تحتاج إلى زمن محدود لتنفيذها، وتكون جزءًا من الأهداف الاستراتيجية بحيث تؤدي إليها في النهاية.

 

ولا شك أن الهدف الاستراتيجي الأكبر لكل داعية موفق هو الفوز برضوان الله - تعالى -وحجز مقعد في الفردوس الأعلى بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، ولكن هذا الهدف الكلي العظيم لكي يكون قابلاً للتحقيق فلا بد أن يترجم إلى أهداف استراتيجية أخرى أكثر تحديدًا تتناول كافة مجالات حياته وجوانب معيشته بحيث يحقق الداعية مصداق قوله - تعالى -: {قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

 

ثم يتبع ذلك بتحويل كل هدف استراتيجي محدد إلى مجموعة من الأهداف التكتيكية تؤدي إليه، بحيث يتحقق الهدف الاستراتيجي بتحقيق هذه الأهداف المرحلية مجتمعة، وبهذا تتكون لدى الداعية البنية الأساسية لخطة عملية شاملة لجميع أطوار الحياة، وبذلك تتحول لحظات عمره كله إلى سلسلة لا تنتهي من الإنجازات التي ترضي الله تبارك وتعالى.

 

شروط صياغة الهدف الفعال:

وقبل أن تعرف أخي الداعية مجالات الأهداف التي تلزمك لأداء دورك فلا بد أن تتعلم أولاً الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الهدف الذي تحدده لكي يكون هدفًا فعالاً قابلاً للتحقيق، وهي كما يقول علماء الإدارة:

 

1ـ مشروعية الهدف:

أن يكون الهدف الذي تسعى إليه لا يصادم شرع الله - تعالى -وهذه طبعًا من البديهيات التي لا يحتاج الداعية أن يذكره بها أحد.

 

2ـ وضوح الهدف:

أن تكون صياغتك لهدفك واضحة محددة لا لبس فيها ولا غموض بحيث تحدد بالضبط ما تريد أن تحقق، وتتخيله كأنه منجز متحقق بين يديك، وعلامة وضوح الهدف أن يصاغ في صورة كمية قابلة للقياس بحيث يوضع له معايير إنجاز يمكن بها قياس مدى تقدم الإنسان نحو هدفه أو تأخره.

 

3ـ التوازن بين الواقعية والطموح:

بحيث يتناسب مع الإمكانات المتاحة أو المتوقعة، فلا يكون هدفًا متواضعًا بحجة الواقعية، ولا يكون هدفًا خياليًا بحجة الطموح، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

 

4ـ تناسب الهدف مع الوقت المقدر لإنجازه:

فلا تعطي لهدفك وقتًا غير كاف لتحقيقه فيؤدي ذلك إلى فشلك وإصابتك بالعجز والإحباط، وعلى الجانب الآخر لا تحدد زمنًا واسعًا لهدفك طالما أنه يمكن إنجازه في أقل من ذلك فالوقت أثمن من أن يضيع، إذ ليس هناك خسارة تعادل خسارة الوقت، فهي خسارة لا يمكن تعويضها حتى لتتضاءل أمامها خسارة الدرهم والدنيا عند صاحب القلب الحي.

 

5ـ أن يعقب تحديد الهدف وضع خطة عملية لتحقيقه:

تتناول تحديد وسائل التفنيذ، والبعد الزمني لكل منهما، والعوائق الموجودة أو المتوقعة، وكيفية تجاوزها، وغير ذلك من مكونات الخطة الناجحة مما سنتناوله عبر سلسلة إدارة الذات بإذن الله - تعالى -.

 

مجالات وضع الأهداف:

وتعالى معي الآن أيها الحبيب إلى بيت القصيد، لنتعلم ما هي المجالات الأساسية التي ينبغي أن تتوزع عليها أهدافك كداعية مجاهد حتى تستطيع أن تقوم بدورك في حمل رسالة الإسلام، وهذه المجالات على كثرتها يمكن حصرها في الجوانب الآتية:

1ـ الجانب الدعوي:

ونعني به كل ما يلزم الداعية من مقومات إيمانية وعلمية وعملية للنجاح في دعوته.

 

2ـ الجانب الصحي:

ويتناول حفاظ الداعية على صحة بدنية ونفسية جيدة حتى يقوى على حمل أعباء الدعوة.

 

3ـ الجانب المادي والمهني:

ونعني به تحديد الداعية للمهنة التي يريد أن يمارسها بحيث تحقق له مستوى ماديًا معقولاً يقيه شر السؤال ويحفظ عليه ماء وجهه، ويستعين بذلك على الالتفات لدعوته.

 

4ـ الجانب الاجتماعي والأسري:

ويشمل تحديد الداعية لعلاقاته مع الناس على اختلاف دوائرهم، وما يتعلق من ذلك بعلاقاته مع أهله وأسرته، إذ من المهم جدًا لنجاح الداعية أن يحتفظ بعلاقات متوازنة مع أسرته ومجتمعه، حتى لا تحدث له إعاقات عن دعوته.

والآن أيها الحبيب فما عليك بعد ذلك إلا أن تمكث مع نفسك ساعة متأملاً في كل مجال من هذه المجالات، فتحدد ما هي الصورة التي ترجو أن تكون عليها في كل منهما، وتحول ذلك إلى وثيقة مكتوبة تحوي كل أهداف حياتك، مع وضع خطوات تنفيذية لكل منها بحيث لا يفوت يوم من أيامك إلا وقد فعلت فيه شيئًا لتحقيق كل هدف من أهدافك.

وإتمامًا للفائدة فسنهديك إن شاء الله - تعالى -في الحلقة القادمة نموذجًا تطبيقيًا لهذا الكلام، حيث نقدم لك بإذن الله مثالاً عمليًا لوثيقة أهداف شخصية مصممة خصيصًا للداعية إلى الله - تعالى -، فإلى أن نلقاك هناك، فلك مني سلام الله وعليك رحمته وبركاته.

 

ـــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1ـ العادات السبع لأكثر الناس فاعلية   ستيفن كوني.

2ـ إدارة الذات      د.أكرم رضا.

3ـ حتى لا تكون كلاً     د. عوض القرني.

4ـ الرقائق      محمد أحمد الراشد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply