الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد..
فإن سؤالاً واحداً يلاحقني في كل أمسية شعرية، أو ندوة أو لقاء بعشاق الأدب من الشباب، وهو..
كيف تتحقق الإسلامية في الأدب؟ ويتبع هذا السؤال - غالباً - عدد من الشبهات التي ما تزال تثار حول مصطلح الأدب الإسلامي، ويمكن أن أحصر تلك الشبهات فيما يلي:
1- عندما نقول (الأدب الإسلامي) فإننا نُلغي بذلك الأدب العربي.
2- الأدب الإسلامي يتعارض مع الجانب الفني للأدب، لأنه يحصر الأدب في زوايا الوعظ والإرشاد فقط، وهذا إخلال بفنية الأدب لا يمكن أن يُقبل.
3- الأدب الإسلامي أدب واضح مباشر لا تتحقق به المتعة الفنية.
4- عندما نقول في ظلِّ التصوٌّر الإسلامي للأدب: (هذا أديب غير إسلامي) فإنَّ هذا يجرٌّنا إلى تكفير الأديب المسلم الذي لا يدخل في دائرة هذا التصوٌّر ونحن منهيون - شرعاً - أن نكفِّر مسلماً بهذه الطريقة.
5- إن مصطلح الأدب الإسلامي بدعةٌ معاصرة، لم يقل بها أحدٌ من سلف هذه الأمة، فهل نحن أحرص على الإسلام من أولئك؟ !
6- إن الأدب الإسلامي يدعو إلى التميٌّز.
ونحن نعيش عصر النظام العالمي الجديد الذي ينادي بثقافة عالمية موحدة.
هذه هي - على وجه التقريب الشٌّبه التي تُثار هذه الأيام حول مصطلح الأدب الإسلامي، وربما توجه إليه شُبَهٌ أخرى، ولكنها لا تكاد تخرج عما ذكرتُه هنا.
وأقول: من المؤكد لدينا أنَّه ما من فكرة تطرح، أو مصطلح علمي أو أدبي يوضع إلا وتكون في جداره ثغرات، وتحدث أمامه وقفات نقدية وتثار حوله شبهاتٌ، بل لعل تلك النقدات الموجهة، وهذه الشبهات المثارة هي التي تتكفل بسدِّ ثغرات المصطلح وتصحيح ما قد يحدث في دلالاته من أخطاء.
ولا بد من اتساع صدور أصحاب المصطلح لما يوجَّه إلى مصطلحهم من نقد مهما كانت الدوافع وراء ذلك النقد.
ولعلَّ من المفيد هنا أن أذكِّر الإخوة القراء بأهمية فهم المصطلح فهماً واعياً من قبل الناقد له حتى يبني أحكامه على قاعدة صحيحة.
ولو راعى كل ناقدٍ, هذا الجانب لسلم الأدب من شرِّ كثير من (المناقشات الجدلية) التي لا فائدة منها.
وأعود إلى موضوع الأدب الإسلامي فأقول: إنَّ هذا المصطلح يقوم على قاعدةٍ, راسخة من التصور الإسلامي الصافي للكون والحياة والإنسان، وهو كما نعلم تصوٌّر شامل فسيح، لا يترك جانباً من جوانب الحياة دون تأمٌّل وتفكٌّر، كما أنه تصوٌّر سليم من آفات الأفكار والمذاهب والمعتقدات البشرية المحرًّفة القائمة على (قرارات طائشة) يصدرها العقل البشري العاجز عجزاً ظاهراً أمام كثير من جوانب الكون الخفية (وفوق كل ذي علم عليم).
ونعني بالتصور الإسلامي، تلك الرؤيا الشاملة التي تمكِّن الأديب المسلم من رؤية ما يجري في هذا الوجود بصفاء، بل هي - الرؤية - التي تفتح أمام الأديب نوافذ الحياة الدنيا، والآخرة، من خلال تلك الروح المسلمة التي تتميز (بشفافية) لا نظير لها [1].
وهذا التصور الإسلامي لا يتأتى للنفوس والعقول المريضة التي فتحت أبوابها لجراثيم الأفكار والتصورات المنحرفة عن منهج الإسلام.
كما أنه لا يحول دون التأمل الشامل لكل ما يدور في هذا الوجود، بل إنه يحقق هذا التأمل وما هو أبعد منه مما ينتظر الإنسان في الآخرة..
ولهذا كان الأديب الإسلامي متميزاً عن غيره من أصحاب الاتجاهات الأخرى بإمكانية التصوير الأدبي لما يختلج في نفسه من شوق إلى الآخرة بما فيها من نعيم مقيم، وبما فيها من عذاب أليم - نسأل الله السلامة - [2].
بل إن ما ورد عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يعطي الأديب الإسلامي مساحات شاسعة رائعة من الخيال الواعي لتصوير خلجات قلبه نحو ذلك النعيم العظيم.
وما كنت أظنٌّ مسلماً سيقف متردداً أمام هذا المصطلح من حيث صلاحيته للوجود والبقاء، وقد عجبت كلَّ العجب لأحدهم عندما قال في مهرجان شعري عقد في الرياض: إذا قلنا الأدب الإسلامي، فكيف نعبِّر عن الوردة الجميلة والمنظر الطبيعي الخلاب؟ ؟ عجبت له وأشفقت عليه من هذا التصور الناقص والفهم الكسيح لمعنى اصطلاح الأدب الإسلامي.
ولا شك أن هذا القائل وأمثاله يبنون على هذا الفهم القاصر مواقفهم الرافضة لهذا المصطلح، ولو أعطى هذا القائل لنفسه فرصة التأمل والتفكير لعرف مدى النقص الكبير لديه في الاستيعاب.
وإلا فإن نظرة عاجلة إلى كتاب الله الكريم، وسنة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، تؤكد أن التأمل الواعي، والشمولية في النظرة من أهم سمات المنهج الإسلامي.
وأعتذر إلى القارئ الكريم من الإطالة في هذه التوطئة وأنتقل إلى مناقشة الشبهات التي ذكرتها من قبل.
الشبهة الأولى: يعترض البعض على مصطلح الأدب الإسلامي بقوله: إننا بهذه التسمية نلغي الأدب العربي، ويرى أنَّ هذا جناية على الأدب العربي الذي أعطى على مدى قرون طويلة وما يزال، ونجيب عن هذا بما يلي: 1- لا يعني مصطلح الأدب الإسلامي إلغاء الأدب العربي، وهذا الربط بين الأمرين ناتج - في نظري - من تلك الرؤية الناقصة والفهم الكسيح لهذا المصطلح، وإن المراجعة السريعة لما كتبه نقاد الأدب الإسلامي تثبت خطأ هذا الزعم، فما من واحد من النقاد الإسلاميين قال بالغاء الأدب العربي على الإطلاق، ويمكن أن تراجع الكتب التي نشرت في هذا المجال لكتّاب مقتدرين أمثال د. عبد الرحمن رأفت الباشا في كتابه (نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد)، و د.عبد الباسط بدر في كتابيه (مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي) و (مذاهب الأدب الغربي - رؤية إسلامية) و د. عماد الدين خليل في كتابيه (في النقد الإسلامي المعاصر) وغيرها من الكتب التي نشرتها رابطة الأدب الإسلامي.
2- قلنا إن الأدب الإسلامي هو (التعبير الفني الهادف عن وقع الحياة الكون والإنسان على وجدان الأديب من خلال التصور الإسلامي).
فالتصور الإسلامي هو القاعدة التي يقوم عليها هذا الأدب، ولهذا فإن بين الأدب الإسلامي والأدب العربي عموماً وخصوصاً.
فالأدب الإسلامي أعم من حيث شموليته لكل أدب انبثق من التصور الإسلامي سواء أكان أدباً مكتوباً بالعربية أم بغيرها من اللغات الأخرى التي يتكلم بها المسلمون في العالم، وهو أخصٌّ لأنه لا يطلق إلا على الأدب المنبثق من التصور الإسلامي، والأدب العربي أعم من حيث أنه يشمل كلَّ ما كتب باللغة العربية على اختلاف المناهج والأفكار فهو يطلق على الأدب الاشتراكي والوجودي، واليساري، والقومي والإسلامي، ما دام مكتوباً بالعربية، كما أنه أخصٌّ لأنه لا يشمل الأدب المكتوب باللغات الأخرى فإذا كانت قصيدة بالأوردية مثلاً وكانت من خلال تصور إسلامي كقصائد محمد إقبال، فإني أسميها أدباً إسلامياً، ولا يصح أن أسميها أدباً عربياً وهكذا.
وبناءً على هذا التصور الإسلامي، فما كان من الأدب العربي منبثقاً من الرؤية الإسلامية أو متفقاً معها فهو أدب إسلامي، وما كان خارجاً عنها فهو أدب غير إسلامي، بل إن النصوص الأدبية التي لا تنبثق من التصور الإسلامي أساساً، ولكنها لا تتعارض معه تكون مقبولة في الأدب الإسلامي.
إن محمد إقبال شاعر إسلامي، وهو باكستاني، وإن محمد محمود الزبيري شاعر إسلامي وهو عربي يمني، ولكن صلاح عبد الصبور ليس شاعراً إسلامياً وهو عربي مصري وهكذا..
ولا يستطيع عاقل منصف أن يقول إن أدب اليسار العربي أدب إسلامي.
أو يقول إن أدب القومية العربية بمفهومها الضيق أدب إسلامي، بحجة أنه كتب بالعربية.
ومن هنا كانت شبهة (إلغاء الأدب العربي) باطلة من أساسها، وإنما يروِّج لها جاهل أو مغرض، بل إن صدور كلمة إلغاء في مقام الأدب دليل على عدم الوعي، فإنه لا يمكن لأحد أن يلغي اتجاهاً أدبياً مهما كان انحرافه، والأدب الإسلامي لا يملك قرار مصادرة الآداب الأخرى، وليس هنالك من يملك هذا الأمر من البشر، وإنما هو منهج واضح، يرسم أمام الأجيال المسلمة طريقاً أدبياً سليماً حتى لا يتخبطوا في طرق الآداب المنحرفة عن منهج الإسلام، وشتان بين هذا وبين دعوى (الإلغاء) وهناك فرق كبير بين من يرفض أمراً لأنه يتعارض مع ما يؤمن به، وبين من يلغي ذلك الأمر، إن الأدب الإسلامي يرفض الآداب التي تخالف تصوره الشامل، ولكنه لا يلغيها.
إنه يرفض أدب محمود درويش مثلاً لأنه لا ينبثق من التصور الإسلامي، وإنما ينبثق من التصور اليساري، ولكن الأدب الإسلامي لا يلغي شعر محمود درويش، إن مدلول كلمة الإلغاء هو (الشطب الكامل والمصادرة) وهذا لا يتأتى لبشر، وأكبر دليل على ذلك ما بذله أصحاب الاتجاه اليساري (التقدمي) في عالمنا العربي من جهود كبيرة لمصادرة الأدب الإسلامي وإلغائه بحجبه عن الناس وممارسة الإرهاب الثقافي ضده في الملاحق والصحف الأدبية، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا - بإذن الله -، وأضرب مثلاً بالكاتب الروائي والمسرحي الإسلامي علي أحمد باكثير - رحمه الله - فقد حورب حرباً شعواء من قبل اليساريين وحالوا دون أعماله ودون النشر! لا في نطاق ضيق يكون خارجاً عن إرادتهم، ومع ذلك فها هو باكثير حي في عالمنا الإسلامي بأدبه، وها هي أعماله تطبع من جديد ويتلقفها القارئ بلهفة وشوق، ومثل هذا يقال عن محاولات أصحاب (الاتجاه العلماني) في الأدب الرامية إلى إلغاء الأصوات الإسلامية ومع ذلك فإنهم عاجزون، لأن فكرة الإلغاء غير واردة أصلاً في مجال الأدب والثقافة.
إذن فالأدب الإسلامي مظلة كبيرة يستظل بها أصحاب التصور الإسلامي، وهي قادرة على إيواء كل أدب يتفق مع هذا التصور، ولكنها ترفض ما يصادم تصورها وفرق كبير بين الرفض والإلغاء [3].
(1) انظر كتاب \" الإنسان في الأدب الإسلامي للدكتور محمد عادل الهاشمي ص 9 وما بعدها \".
(2) انظر كتاب \" منهج الفن الإسلامي للأستاذ محمد قطب، ص 52 وما بعدها \".
(3) راجع ما كتبه د عبد الباسط بدر في كتابه القيم \" مقدمة النظرية الأدب الإسلامي ص:84 \".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد