رحلة في شواطئ المتنبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

* الشاعر:

هو أبو الطيب، أحمد بن الحسين، المشهور بالمتنبي، أشهر شعراء العربية، بل أشهر الشخصيات العربية. المولود عام 303 للهجرة، والمقتول بعد ذلك بواحد وخمسين عاماً، وتنقّل في حياته بين العراق ومصر، ونزل عند العديد من الملوك والأمراء والقواد والوزراء، ولقي من الحفاوة والتكريم والاهتمام ما لم يلقه شاعر غيره.

أما شعره فهو الذي سار مسير الشمس والقمر، ولم يخف على أحد، ويصعب أن يوجد من لم يسمع أو يحفظ بيتاً من أبياته الخالدة وحكمه الرائعة. امتاز بجودة التعبير وقوة المعاني، وحسن المطالع والخواتيم. وخلد بحسن بيانه الكثير من الحكم التي لا تزال تطرب من يسمعها.

والنص الذي معنا من النصوص الجميلة التي ملأها بحكمه وتأملاته.

* النص:

 

كدعواكِ كُلُّ يدّعي صحة العقلِ  * * * ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهلِ

 

لَهِنَّكِ أَولى لائمٍ, بملامةٍ,  * * * وأحوجُ مِمَّن تعذلين إلى العذلِ

 

تقولين: \"ما في الناس مثلك عاشق\"؟؟  * * * جِدِي مثلَ من أحببتُهُ..تجِدِي مثلي

 

مُحِبُّ كَنَى بالبيضِ عن مُرهَفاتهِ  * * * وبالحُسنِ في أجسامِهِنَّ عن الصَّقلِ

 

وبالسٌّمرِ عن سُمرِ القَنا..غير أنني   * * * جناها أحِبائي.. وأطرافُها رسلي

 

عَدِمتُ فؤاداً لم تبِت فيهِ فَضلَةٌ   * * *  لغَير الثنايا الغُرِّ والحِدَقِ النٌّجلِ

 

ذريني أنَل ما لا يُنالُ من العُلا  * * *  فصعبُ العلاَ في الصعبِ والسهلُ في السهلِ

 

تريدينَ لقيانَ المعالي رخيصةً؟  * * *  ولا بدَّ دونَ الشهدِ من إِبر النحلِ

 

• هذا النص جمع بين ثناياه الجمال الفني والجمال المعنوي، وباجتماعهما يحصل الجمال الشعري.

• أول ما يقابلنا من جمال هذا النص، إخفاؤه لأول معانيه حتى البيت الثالث، فالقارئ لا يعلم عندما يقرأ النص من بدايته ماذا تدعي المرأة التي يخاطبها (البيت الأول)، وعلام تلومه وتعذله (البيت الثاني)، ثم يأتي البيت الثالث فيسفر عن هذا المعنى، ففيه تشويق إلى معرفة الفكرة بأسلوب رائع.

• البيت الثالث يحتوي على حكمة رائعة، تصلح ليقولها كل ملوم على عشقه. رائعة النظم، تفاجئ القارئ بجمالها: (جدي مثل من أحببته، تجدي مثلي). فيها تكرار لبعض الألفاظ بطريقة تضفي على البيت مسحة جمال وبلاغة لا تخفى.

• البيت الرابع والخامس، يحملان لنا مفاجأة أخرى! فالمتنبي يعلن هنا أنه لا يتغزل، وأنه لم يتغزل في شعره أبداً، رغم كثرة أبيات الغزل في شعره، ويعلن أن قلبه قد شغف بالسيوف والرماح، لا بالثغور والأحداق، ويلفت أنظارنا إلى معاني غزله: فالبيضاء في غزله كناية عن السيف، أما السمراء فكناية عن الرمح. ولا يكتفي بذلك، ويصنع مقابلة لطيفة بين ما توصف به الحسناء وما يوصف به السيف، وأما الرمح ففي عشقه له تفصيل أطول، فالرمح رسول، والأحباب دماء الأعداء.. ! وفي هذين البيتين من براعة التركيب وسمو المعنى ما لا يخفى.. وفي ترتيب معاني الأبيات بهذه الطريقة التي تكشف المعنى شيئاً فشيئاً من الإبداع والجمال الشيء الكثير.

• يعود المتنبي في البيت السادس إلى الحكمة، ويدعو بالعدم على القلب الخالي من الهمم العالية، والذي لم يبق فيها سوى عشق الثنايا والعيون.

• يعود بعدها بحكمة أخرى إلى هممه العالية، وببيت يمتلئ بالمحسنات اللفظية التي تسبغ عليه المزيد من الجمال.

• ويختم ببيت خلده الدهر، مستخدماً فيه التشبيه التمثيلي، حيث شبه الطريق الصعب إلى الغاية النبيلة، كالتعرض لإبر النحل للوصول إلى الشهد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply