النقد الأدبي تحول إلى عملية تسهيلات للشللية وتجار الحقائب الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

الناقد د. حامد أبو أحمد عميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، واحد من أبرز النقاد المعاصرين، الذين يملكون أدواتهم من التبحر الثقافي، والتمرس النقدي، والأكاديمية الجامعة بين الثقافتين العربية والغربية عن أصالة واستحقاق، وهو أحد الذين يتربص بهم الحداثيون العرب.. لأنه سحب البساط من تحت أقدامهم، وقاتلهم بسلاحهم، ونقد الحداثة من داخلها في مؤلفه المهم \" نقد الحداثة \".. الذي أثار ضجة واسعة.. مازالت تتردد أصداؤها في الغرف الحداثية العربية المهترئة..

بدأ حياته بكتابة الرواية والشعر، وتمرس بالنقد التحليلي والموضوعي للأدبين العربي والإسباني واللاتيني، إلى أن ترأس عمادة كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر.. عن مسيرة أنتجت عشرين كتاباً إلى جانب عشرات البحوث والتراجم المهمة.

وإلى ما سبق فإنه يشغل عضوية رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضوية مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر.. التقيناه... وكان هذا الحوار:

 تعاني ساحة الأدب الإسلامي والعربي بصفة عامة.. من فتور وكسل في النشاط النقدي الذي تحول في معظمه إلى \"تشهيلات\" و\"تسهيلات\"، مما أصاب الحركة الإبداعية بفتور الهمة.. والسقوط في زوايا النسيان والتجهيل.. ما رأيكم؟

هذا صحيح إلى حد كبير.. فالشللية البراجماتية والأيديولوجية تسيطر بصورة كئيبة على الساحة الثقافية، ولكن المبدع المعبأ والممتلئ.. لا ينتظر شارات المرور من هذا الناقد أو ذاك.. لأنه يؤدي أمانة لا يستطيع إلا أن يقوم بها، مهما كانت الأجواء والظروف المعاكسة، وإن كان هذا لا يعفي النقاد مما قلت في سؤالك.

موت المبدع

 لكن هناك حالات يتحول النقد فيها إلى \"ردع\" و\"إرهاب\" بصورة تجعل المبدع يكتب وعينه على أسلحة هذا الناقد أو ذاك؟

هذا لا يعتبر نقداً بحال من الأحوال، فالنقد في أرقى صوره لا يعدو أن يكون تقييماً للإبداع، أو إعادة ترتيب للبناء، ومثل هذا النقد الذي أشرت إليه ليس إلا \"قرصنة\" يمارسها فريق من المولعين بإحداث ضجة أكثر مما يتوفرون على \"طحين\".. وهذا المبدع أيضاً.. ليس مبدعاً أصيلاً.. النقد الجيد هو عملية تمتين للإبداع، وليس مجرد توهين أو تهوين له، أو استعراض الثقافة الخاصة للمبدع على حساب الإبداع.

 لكن الناقد العربي، والإسلامي على وجه خاص.. أصبحت مهمته ليست سهلة بحال من الأحوال، وذلك لغياب المنهج النقدي المستقر الذي يمكن التحاكم إليه؟

هذه حقيقة، فمازالت مسألة المناهج النقدية لدينا غير واضحة، وغير مستقرة، لسبب بسيط، هو أننا مازلنا في مرحلة استيعاب للمناهج النقدية، التي نشأت في الغرب خلال القرن العشرين، وقد كثرت هذه المناهج خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتفرعت بصورة تجعل متابعتها في حد ذاتها أمراً شاقاً، فما بالك بالاستيعاب والتمثل ثم التأصيل؟!

فالمشهد النقدي الغربي الآن متسع جداً.. فهناك حالياً نقد التحليل النفسي، والنقد البنيوي والنقد التفكيكي، والنقد السيميوطيقي، والنقد النسائي، ونقد النقد، والنقد القرائي المتسع الأفق، ومن ثمَّ فنحن أمام هذا \"التوهم الثقافي\" نقع أسرى تجار الحقائق الثقافية من \"الجُلاَّب\" الذين قبَّح الشرع لعبتهم المخادعة.

 تنطلق معظم دراساتكم التطبيقية من أرضية حداثية، بل وما بعد الحداثية.. فكيف.. ولماذا انقلبتم عليها في كتابك الشهير \"نقد الحداثة\"؟

أنا بالفعل كاتب حداثي .. لكن عندما تتحول الحداثة إلى طلاسم ومعميات وظلاميات ولوغاريتمات يصعب بل يستحيل فكها.. فلابد أن تكون لنا وقفة..

وفي لقاءات سابقة لي مع بعض الأعلام كنجيب محفوظ والدكتور زكي نجيب محمود وغيرهما.. سألتهم: هل تفهمون شيئاً من هذه الحداثة.. فأجابوا بأنهم لا يفهمون شيئاً على الإطلاق!!

ومن ثمَّ كانت وقفتي مع آخرين مع هذه الحداثة التي نقدتها من داخلها.. فأنا لم أطبق عليها أي منهج آخر.. إنما عملت بالأثر: \"من فمك أدينك يا يعقوب\"، فالحداثة لدينا بدأت على يد العقاد وطه حسين ومحمد عبده وغيرهم.. وهي مفهومة.. ولها رسالة.. أي أنها كانت \"حداثة معربة\". أما حداثة التغريبيين، التي نُقلت إلينا دون أدنى عملية تصفية أو تنقية من الشوائب.. فليست إلا عملية انفصال، لا اتصال فيها إطلاقاً.

فهي غريبة تماماً عن بيئتنا وثقافتنا وهويتنا ولساننا وتراثنا، وللأسف الشديد.. سرعان ما تجد تطبيقات مباشرة لهذا الكلام على نصوص وإبداعات عربية بصورة تدعو إلى البكاء والضحك في آن.

 لعل هذا يرجع إلى \"أمية المثقفين\" المسيطرة الآن على قطاعات عريضة من الساحة الثقافية؟

نقادنا في السبعينيات والثمانينيات، كانوا يؤكدون على \"أقانيم\" البنية الوحيدة المركز، والأنساق الكلية الثابتة، وأقانيم المنشأ والأصل والعلة والغاية... إلخ.

ويظنون أنهم بذلك قد بلغوا أقصى درجة في المنهجية العلمية المنظمة للدرس الأدبي.. مع أنهم لو نظروا حولهم بإنصاف، لأدركوا أن الثقافة الغربية في ذلك الوقت نفسه، كانت تعُنى بأفكار جديدة مناقضة تماماً للأفكار السابقة، تقوم على نسبية المعرفة كما هو واضح في هذه النظرية التي تعرف بنظرية \"التلقي\" التي كانت تلقى القبول والاهتمام الواسع في الربط بين القراءة ونظرية التحليل النفسي.

من هنا كان نقد الحداثة.. وقفة لازمة مع النفس والآخر. مثلما فعل الناقد والمبدع الكبير د. عبد العزيز حمودة الذي قام بعملية \"تعرية\" حقيقية للحداثة والحداثيين ولم يستطع أحدهم أن يرد عليه إلى الآن.

 يرى كثير من النقاد والمبدعين الرواد أن \"ما بعد الحداثة\" تحمل عوداً ولو جزئياً إلى التقاليد والأصول المرعية التي تحكم العلاقة بين \"الناقد\" و\"المتلقي\" و\"المبدع\" و\"المنتج\"... فما رأيكم؟

هذا صحيح.. والمتابع لإنتاج الحداثيين وما بعد الحداثيين الغربيين والعرب.. يلمح هذا بوضوح.

ذلك لأن النتاج الثقافي لابد أن يحمل نظاماً إشارياً واحداً، صار يعرف حالياً \"بسيميائية الثقافة\".. وكل نظام إشاري لا بد أن ينطوي على أنظمة إشارية تمثل حلقة من حلقات التواصل الإنساني، القائم على التقاليد والأعراف التاريخية، التي لابد أن تراعى من أجل التواصل الثقافي المطلوب أو ما يسمى بالمزاوجة بين الطرز الحداثية والكلاسيكية، والتقاء الفن بالمجتمع، على عكس ما حدث في تيار الحداثة الذي يقبع في برج عاجي مظلم.

 هل ترى أن \" الحداثة \" انتهت إلى قطيعة معرفية، كان لابد من الوقوف حيالها بقوة ووضوح؟

نعم.. والكاتب إذا فقد مهمة \" التوصيل \" و\" التعبير \" معاً.. فقد مبرر وجوده على الساحة.. ولابد من الاثنين معاً، فالفن \" متعة وبصيرة \" على حد تعبير نجيب محفوظ في حوار لي معه عام 1985م.

 بسقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس الفردوس المفقود عام 1492م، وتسليم مفاتيح قصر الحمراء من أبي عبد الله بن الأحمر للملكين الكاثوليكيين \"فرديناندو وإيزابيلا\" كآخر حلقة من حلقات السقوط الحضاري، دخل العقل الثقافي الإسباني في عدة مراحل من التدافع والتطور، ثم الظلام والتراجع.. ثم التطور أخيراً، فماذا عن العقلية الاستشراقية الإسبانية الراصدة لهذه المسيرة بخصوص الحضارة والثقافة الإسلامية بالأندلس؟

كانت الأندلس عند العرب تشبه الفردوس.. وعندما ضاعت أطلقوا عليها \"الفردوس المفقود\".. وهي لحظة تاريخية مفعمة بالحسرة والضياع والتمزق والأحزان.. لها ما قبلها ولها ما بعدها.. أما ما قبلها.. فيلخصه قول \"عائشة\" أم أبي عبد الله بن الأحمر، التي قالت له:

ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً  * * * لم تحافظ عليه مثل الرجال

فعندما سقطت \"طليطلة\" في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، دخلت إسبانيا عصر \"ملوك الطوائف\"، الذي قال فيه الفقيه أبو محمد عبد الله بن العسال عام (1094م) في صيحة تحذير تاريخية:

يا أهل أندلس حثوا مطيكم * * *  فما المقام بها إلا من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى * * * ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط

ونحن بين عدو لا يفارقنا   * * * كيف الحياة مع الحيات في سفط ؟

وبعد ذلك بقرن ونصف تقريباً.. عندما تداعت \"أشبيلية\" و\"قرطبة\" و\"مرسية\" و\"شاطبة\" و\"حيان\"... كتب \"أبو البقاء الرندي\" قصيدته النونية التي أخذ يستنهض فيها همم المسلمين في كل أنحاء الأرض لنجدة إخوانهم في الأندلس قائلاً:

لكل شيء إذا ما تم نقصان  * * * فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأيام كما شاهدتها دول * * * من سره زمن ساءته أزمان

أعندكم نبأ من أهل أندلس * * *  فقد سرى بحديث القوم ركبان

وبسقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس.. دخلت شبه الجزيرة الأيبرية عدة مراحل متناقضة من تاريخها..

فعلى الرغم من وجود عدة قوى ناهضة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلا أنها ظلت موسومة بعار \"محاكم التفتيش\" ومحارق المسلمين المورسكيين الذين اختاروا أن يعيشوا في الأندلس.. وظلت هذه العقلية الاستئصالية هي المهيمنة على العقل الثقافي الإسباني المحلي والاستشراقي المتعصبº ومازال الكثير من هذا \"السواد\" موجوداً حتى الآن في الكتب المدرسية.. وهذا العقوق الحضاري موجود في كتابات \"جارثيلا سودي لافيجا\" و\"سرفانتيس\" و\"سان خوان دي لا كروث\" و\"يوحنا الصليبي\" وغيرهم... ثم جاء القرن الثامن عشر.. وبينما كانت أوروبا تدخل عصور \"التنوير\"، دخلت إسبانيا بالكامل في عصر الظلام.. الذي استمر ما يقرب من ثلاثة قرون.. عانت خلالها من التخلف والاضطرابات والمشكلات المزمنة التي تعاقبت عليها فيها أنظمة دكتاتورية.. آخرها نظام الدكتاتور \"فرانكو\" الذي استمر حوالي أربعين عاماً، منذ الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936م حتى أواخر عام 1975م.

وللأسف، فإن الكثيرين من مؤرخي الحضارة والثقافة والاستشراق الغربيين والإسبان خاصة يرجعون أسباب نهضة إسبانيا المؤقتة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلى إنهاء الوجود العربي عام 1492م، لأنه العام نفسه الذي شهد انطلاق الرحالة الشهير \"كريستوفر كولمبس\" حول القارة الإفريقية.. واكتشاف العالم الجديد، والبحث عن طرق جديدة لتطويق العالم الإسلامي.

ومن ثمَّ.. فقد ملأوا العقل الإسباني والغربي عموماً عن خمول الشعوب الإسلامية وتخلفها وتعصبها وتصوير العربي والمسلم على أنه المحتال الكاذب الحاقد المؤهل للاستعباد.

وهذه الأمثلة تعج بها العقلية الإسبانية إلى يومنا هذا.. ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع ونقرأ مثل هذا الهراء والنكران والجحود..

لكن على الجانب الآخر هناك مستشرقون منصفون إلى حد كبير.. ممن يبحثون بحثاً أميناً عن الأصول والجذور في الثقافة والحضارة الإسبانية من أمثال \"رامون بيدال 1869 1968م\" و\"أمريكو كاستر الذي ولد عام 1885\" ومن أهم أعماله \"آثار الإسلام\" الذي اعترف فيه بالدور الضخم والفضل الواسع للإسلام وحضارته على إسبانيا وأوروبا.. و\"آسين بلاثيوس\" (1871 1944م) الذي قام بالدور الأكبر في التعريف بتراث المسلمين والعرب العظيم في الأندلس.. بل إن من أواخر هؤلاء المنصفين الكاتب الإسباني الكبير \"خوان جوتيصولو\" الذي قال في لقاء معه في فبراير 1988م: \"أعتقد أنه بالنسبة لأي إسباني في القرن العشرين، فقد جاءت اللحظة التي يجب أن ينظر فيها إلى ماضيه بدون عقد، وأن إخفاء قيمة التراث العربي والإسلامي في الأندلس، أو الإقلال منها، ليس من الأمانة النقدية أو المراجعة التاريخية في شيء\".

 لكن المناهج الدراسية الإسبانية مازالت تعج بهذا التشويه المتعمد للإسلام والمسلمين حتى اليوم؟

نعم.. مازال هناك جانب كبير من هذا التشويه في كل مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية في إسبانيا.. نقرأ مثلاً في كتاب \"العلوم الاجتماعية\" للصف السادس من التعليم الإلزامي الإسباني: \"الله هو الذي كلف محمداً بتحرير هذا الكتاب القرآن الكريم ولا يُعرف هل كتبه محمد أم أملاه، ولكن من المؤكد أن جزءاً كبيراً من هذا الكتاب قد تناقلته ذاكرة أتباعه\"! وهذا مثل من آلاف الأمثلة المحرفة عن عمد، أو عن جهل في الكتب المدرسية، لأنها تمثل معلومات شائعة ومنتشرة جيلاً بعد جيل في إسبانيا منذ أواخر القرن الخامس عشر حتى الآن..

وقد قام مؤخراً مركز \"دارك نيومبا\" في مدريد، الذي يشرف عليه راهب مستنير هو الأب \"جاليندوا\" عام 1981م بجمع هذه المعلومات المحرفة في مذكرة تحت \"محمد والإسلام في الكتب التعليمية الإسبانية\"، بلغت صفحاتها ثلاثين صفحة \"فولوسكاب\"، وقُدمت صور منها للملك الإسباني \"خوان كارلوس\" ولرئيس الحكومة..ولوزير التعليم..ولغيرهم من المسؤولين وللسفراء العرب في مدريد.. لكن تغيير المفاهيم الخاطئة ليس من السهل أن يتم بقرارات رسمية.