كلمات في الأدب 2 - 7


 

بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الأول: الأدب مع الله تعالى:

إن في سيرة الأنبياءِ نماذجَ عطرةٍ, راقية، من التأدب والتخلق مع الله - عز وجل -، في قولهم وفي فعلهم، بل وفي اعتقاداتهم وأعمالهم القلبية.

 

المثال الأول: أدب عيسى - عليه السلام - مع ربه:

أنظر إلى قول عيسى - عليه السلام -: ((وَإِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبحَانَكَ)) (المائدة: من الآية116) بدأ بتنزيه الله - تعالى -، ثم قال ((مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ, إِن كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلا أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ)) (المائدة: من الآية116).

ثناءً على الله - تعالى - ((مَا قُلتُ لَهُم إِلَّا مَا أَمَرتَنِي بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنتُ عَلَيهِم شَهِيداً مَا دُمتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, شَهِيدٌ)) (المائدة: 117).

((إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبَادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) (المائدة: 118).

 

هذا أدبٌ من عيسى - عليه السلام - كأنَّهُ يقولُ: هؤلاءِ عبادكَ وأنت سيدهم، وشأنٌّ السيدِ أن يرحم، مهما عذبتهم فإنَّهم عبادك، ستلطف بهم وترحمهم في آخرِّ المقام، ((وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ))º قال العلماء: ما قال إنَّك أنت الغفور الرحيم، لأنَّهُ إن عذبهم - عز وجل - فهو موقفُ عذابٍ,، وهذا يستدعي عزته - سبحانه - وحكمتهº ولا يناسبُ ذكر رحمتهِ - سبحانه وتعالى - وعفوه.

 

المثال الثاني: أدب إبراهيم- عليه السلام - مع ربه:

تأمل أدب إبراهيم - عليه السلام - في قوله: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ)) نسب الخلق إلى الله والهداية إلى الله، ((وَالَّذِي هُوَ يُطعِمُنِي وَيَسقِينِ)) (الشعراء: 79) نسب النعم إلى الله - عز وجل - ((وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ)) (الشعراء: 80) لم يقل: (وإذا أمرضني) مع أن الممرض هو الله - عز وجل -، ولكن تأدباً مع الله - تعالى -جعله ينتقي العبارات.

 

المثال الثالث: أدب الجن مع الله - تعالى -:

وتأمل قول الجن في قوله - تعالى -: ((وَأَنَّا لا نَدرِي أَشَرُّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرضِ أَم أَرَادَ بِهِم رَبٌّهُم رَشَداً)) (الجـن: 10) لما رأوا الشهب إبَّان بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم - ما قالوا: وأنَّا لا ندري هل أراد اللهُ بعباده شراًº لأنَّهُ لا يناسبُ نسبة الشرّ المحض إلى لله، ولذلك قالوا ((أَشَرُّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرضِ)) فهذا أدبٌ مع الله حيثُ بنو الشرَّ للمجهول، وأما الرشد فبنوه للمعلوم و أبرزوا الفاعل ((أَم أَرَادَ بِهِم رَبٌّهُم رَشَداً)).

 

المثال الرابع: أدب أيوب - عليه الصلاة والسلام - مع ربه:

ومن نماذج الأدب مع الله - تعالى -أيضاً أدب أيوب- عليه الصلاة والسلام - مع ربه، يقول الله - تعالى -: ((وَأَيٌّوبَ إِذ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضٌّرٌّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ)) ما قال مسستني يا ربي بالضر، ولا أتيت بالمرض لي، بل قال ((أَنِّي مَسَّنِيَ الضٌّرٌّ)) مع أن ذلك كله من الله ((وَإِن يَمسَسكَ اللَّهُ بِضُرٍّ,)) (الأنعام: من الآية17) ثم قال ((وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ)) كما يقال:

علمُهُ بحالي أغنى عن سؤالي، مع أن هذه العبارة لا تنطق على كل حالº لأنَّ فيها نظر، فالسؤال مطلوب، لكن أيوب- عليه السلام - ما سألَ ولكنَّهُ قال ((وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ)) يعني ارحمني واكشف ضري، وهذا الأمر كثير.

 

المثال الخامس: تأدب الأنبياء مع ربهم في الشفاعة للناس:

ومن الأدب مع الله - تعالى -، ما حصل من أنبياء الله - تعالى - يوم القيامة، حين تُطلب الشفاعة من النبيين، فكلهم يتبرءون منها، تأدباً مع الله، ثم يذكرُ كل واحدٍ, منهم زلته، مع أنَّها مغفورةً لهم، فنوحٌ- عليه السلام - يقولُ: لي دعوةٌ تعجلتها لقومي، وآدم- عليه السلام - يقول أكلتُ من الشجرة، وإبراهيمُ- عليه السلام - يقول كذبت ثلاث كذبات، مع أنَّها في الله ولله، ومن الكذب الجائز، وموسى- عليه السلام - يقولُ قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وكل واحد منهم يذكرُ خطأه تأدباً مع الله.

 

نماذج من الصفات التي يتجلى فيها أدب الأنبياء:

وكذلك تجد في سيرةِ الرسل اليقينَ والصبر، والتوكل والشكر، وتجد غير ذلك، وكلٌّ ذلك من أعظمِ الأدب مع الله - سبحانه وتعالى -، فمن ذلك:

أولاً: الصبرُ

ما أكثر ما تجد الصبر في سيرةِ النبيين، وهو يعدٌّ قاسمٌ مشترك في حياة النبيين كلهم- عليه الصلاة والسلام -، فقال - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فَاصبِر كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرٌّسُلِ)) (الأحقاف: من الآية35)).

وقال: ((وَكَأَيِّن مِن نَبِيٍّ, قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيٌّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ)) (آل عمران: 146).

 

وقال: ((أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة: 214).

والصبر بكل أنواعه من أعظم الأدبِ مع الله، لأنَّهُ من مفهوم الرضا بالله ربا، يعني رضيتُ بحكم الله - تعالى -، ورضيتُ بقضاءِ الله، ورضيتُ بإرادة الله - عز وجل -، وضد الصبر وهو الضجر، منافي للأدبِ مع الله - تعالى -، ولهذا قال الله - عز وجل -: ((وَاصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعيُنِنَا)) (الطور: من الآية48).

وقال - عز وجل -: ((فَاصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذ نَادَى وَهُوَ مَكظُومٌ)) (القلم: 48) يونس- عليه الصلاة والسلام - قال العلماء: ليس المعنى لا تكن مثله لأنَّهُ دعا ((إِذ نَادَى)) لاº وإنَّما لأنَّهُ دعا وهو في بطن الحوت ((مَكظُومٌ)) يعني مهموم، بل ينبغي أن يكون صبرك مصحوباً بالرضا بقضاء الله - عز وجل -، والأريحيةِ والتشوفُ والأمل، واليقينُ بفرج الله - تعالى - ويسره.

وإنَّك لواجد أنواع الصبر الثلاثة في سيرة النبيين، وهذا كله من الأدب مع الله - عز وجل -.

النوع الأول: الصبر على طاعة الله - عز وجل -

فنبينا محمد- عليه الصلاة والسلام - كان يقومُ الليل أو أكثره حتى تتفطر قدماه.

وداود- عليه الصلاة والسلام - خيرُ الصيام صيامه ـ فكان يصومُ يوماً ويفطر يوماً، وخيرُ القيامِ قيامه: ينامُ نصف الليلِ ويقومُ ثلثه، وينامُ سُدسه، ولهذا يقولُ الله: ((اصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذكُر عَبدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) (صّ: 17)

وكذلك الصبر على تبليغ دعوة الله، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وأمثلته كثيرة، فنوحٌ- عليه السلام - كم لبث في قومه؟ ألف سنة إلاَّ خمسين عاما، تسعمائة وخمسين عاماً يدعوا إلى الله دون ضجرٍ, وتأففٍ, وتبرم، ولم يتسخط، بل مضى صابراً محتسباً طيلة هذه الأجيال، تأمل يا أخي لو دعوتَ أناساً نصف ساعةٍ, في مجلس، ثُمَّ رأيت منهم تكذيباً، ماذا سيكونُ حالك من الإحباط؟ ماذا سيكون حالك من التذمر منهم، والتأفف والتسخط من وضعهم؟ وربما دعوت عليهم، وربما تركتهم، ورُبما سببتهم وشتمتهم أو غير ذلك، وانظر إلى نوحٍ, كيف مكث هذه المدة، كيف يدعو إلى الله - عز وجل -.

 

وإبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - صبر على دعوةِ قومه، وكذلك هود وموسى- عليهما السلام -، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نالهُ ما ناله، وأصابهُ من أصابه، فواجههُ بالصبر الذي تزول دونه الجبال الراسيات، يقفُ على عمهُ في أُحد بعدما وضعت الحرب أوزارها، وهو- عليه الصلاة والسلام - به ما به من الجراح، كسرت رباعيتهُ ـ يعني أسنانه الأمامية ـ ودخلت حلقتُ المغفر في رأسه، وشُجَّ رأسه، وأسيلَ دمهُ وهموا بقتله، ونالهُ ما نالهُ طيلة ذلك اليوم من الحصار، حتى صعد الجبل- عليه الصلاة والسلام - بجراحهِ وآلمه، و مع ذلك نسي ما به، ووقف على عمِّهِ حمزة ـ أحبٌّ الناس إليه ـ عمهُ الذي بذل مهجتهُ في سبيل دينه ـ وماذا يرى؟

 

جُدِعَت أذناه، وقُطِعَ أنفه، وفقئت عيناه، وبقر بطنه، وأخرجت كبده، ومُثل به، وفُعل به الأفاعيل، فلا يتحملُ- صلى الله عليه وسلم - ذلك الموقف!! ويبكي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويبكي الصحابة لبكائه، ويقول (لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم، فينزل قوله - عز وجل - معاتبا: ((لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ)) وقوله: ((وَإِن عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)) (النحل: من الآية127، 126).

 

قالت عائشة: يا رسول الله: هل مرَّ عليك يومٌ هو أشدٌّ عليك من يومِ أحد؟ قال: نعم، حين أخرجني قومي من مكة، بعدما عادوه سنوات، خرج لا يلوي على شيء، خرج يبحثُ عن تربة صالحةٍ, يبذرُ فيها هذه البذرة الجديدة، بذرة الدعوة إلى الله - عز وجل -، فمشى- عليه الصلاة والسلام - على رجليه من مكة إلى الطائف، طريقٌ جبليُّ وعر، يمل منه السائرون على ظهور السيارات والمطايا، فكيف بمن يسير على قدميه!! لكن في سبيل الدعوة كل شيءٍ, يهون، وإذا رضيت فكلٌّ شيءٍ, هين

ثم يصل- صلى الله عليه وسلم - الطائف فماذا يجد؟ هل يجد- عليه الصلاة والسلام - أمامه بعثاتٍ, إعلامه؟ هل يجدُ الوفود الصحفية؟!! هل يجدُ الذبائح والولائم؟ يجد التسفيهَ والتعنيف، ويجدُ التشريدَ وإغراءَ السفهاء به، بعدما كلم زعمائهم وقال إن أبيتم الإسلام فاستروا عليّ، فلم يستروا عليه، بل أغروا به السفهاء والعبيد، فخرج- صلى الله عليه وسلم - والحجارة تنكب قدميه، ويسيلُ الدمُ من عقبيه، مودعاً بمثلِ ما استقبل به، من سبٍ, وتشريدٍ, وتعنيفٍ, وأذى، حتى إنهُ- عليه الصلاة والسلام - يهيمُ على وجههِ من شدةِ ما به، ولا يفيقُ إلاَّ في قرنِِ الثعالب، فيأتيهُ جبريلُ ويسلم عليه، ويقول: إنَّ ربك قد بعث ملك الجبال، يستأذنك إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين، ـ جبلي مكة ـ لفعلهم، فماذا يقول: - صلى الله عليه وسلم -؟ يقول: لا، لعلَّ الله يُخرج من أصلابهم من يعبدُ الله!! وهذا أدبُ النبوة.

 

النوع الثاني: الصبر على محارم الله

وأنت واجدٌ كذلك في سيرتهم الصبر على محارم الله، وهذا من أعظم الأدب مع الله، وأبرز مثال على ذلك: قصةُ الصديق يوسف- عليه السلام - ـ والتي نفسر الآن آية منها ـ وكيف عفّ و كفَّ عن الحرام، على حين توفرت كل الدواعي، فهذه امرأةٌ جميلة، وامرأة الكبير، في بيت فارة، غلقت الأبواب، تجملت، وتعرضت له، وهو شابٌ في ريعان الشباب، في الفتوة، وتفجر الغرائز، و لا يراهم إلاَّ الله - عز وجل -، فتتعرضُ له، وكل هذه من مسوغات الشهوة ومما يدعوها، فتقول: هيت لكº فيقولُ: ((قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَأخُذَ إِلَّا مَن وَجَدنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ)) (يوسف: 79).

 

النوع الثالث: الصبر على أقدار الله - تعالى -

تجد ذلك في قصة يوسف- عليه الصلاة والسلام - ولذلك يقول الله: ((إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ)) (يوسف: من الآية90).

وتجده أيضاً في قصة أيوب- عليه الصلاة والسلام -: )) إِنَّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) (صّ: من الآية44).

وإبراهيم - عليه السلام - عندما ألقي في النار، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - تحمل مرارة اليُتم، توفي أبوه قبل أن يولد، وأمهُ وهو صغير، وجدهُ الذي كفلهُ، وخديجة زوجته التي ناصرته وآزرته، وعمهُ حمزة، وأولادهُ الستة، كلهم الواحد تلو الآخر إلاَّ فاطمة، حتى دمعت عيناهُ، فيتعجبُ عبد الرحمن بن عوف ويقول: وأنت يا رسول الله؟ قال: يا ابن عوف إنَّها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال: ((إن العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا))

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply