الطنطاوي .. كما عرفته


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
طوِيت بوفاته يوم توفي صفحة وضيئة من صفحات العلم والأدب، وودعت الأمة بوداعه نوعية متميزة من أفذاذ الرجال، قلما تتكرر إلا في أفاويق الزمن، وفسح الدهر.

عاش الشيخ صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته على سنن واضح، وصراط مستقيم، في وقت غربة الدين، واصطراع الآراء، وتنوع المذاهب، واختلاف المشاربº فكانت قضيته منذ كان الدين القويم، والخلق المستقيم، والحق المبين، لا يماري فيه ولا يحابي.

سخر للدين أدبه وبلاغته، وجمال أسلوبه، وروعة خطابه، وكان في ذلك مسارعا في الخيرات سابقا إليها.

كان الشيخ علي الطنطاوي مقبلا يوم كان الناس مدبرين، ومجاهدا والناس قاعدون، ومتيقظا والناس غافلون، وصابرا مصابرا في يوم لم يكن يجد فيه على الحق أعوانا، ثم جاء الله بالصحوة وكثر الخير، ولكن {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10]

كان متدينا يوم كانت الدين رجعية، ومحافظا يوم كانت المحافظة تزمتا، وملتزما يوم كان الالتزام تخلفا، وقابضا بكلتا يديه على دينه يوم كان القابض على دينه كالقابض على الجمر.

كان المساس بالدين مساسا بكرامة كرامته، وعزة عزته، وكبرياء كبريائه، فإذا به يتنمر ويغضب فلا تقوم لغضبته قائمة.

وقف الشيخ في وجه الأدب العابث والفكر المضلل، فكان أول من تصدى لنزار قباني في مجونياته، ولخلف الله في كفرياته، ولزكي مبارك في تجديفاته.

وقف في وجه المد التغريبي، والتحلل الأخلاقي، على منبر الخطابة، وصفحات الصحف، وكان من ضميمة ذلك كتابه (في سبيل الإصلاح)، وكان ذلك في وقت غلواء أهل الباطل وقلة الناصر من أهل الحق.

وقف في وجه الخرافة والوثنية، والطرقية الصوفية ليعيد إلى الدين نقاءه ونصاعته، في وقت كان لسدنة الخرافة وكهنة الوثنية سلطانهم ومراسيمهم.

ثم هو فيما بين ذلك وبعد ذلك يقدم الدين بأسلوبه البليغ الضليع، العذب الجميل، السهل الممتنع، يدعو على بصيرة، ويجادل بالتي هي أحسنº فاستهوى إليه النفوس، وتألف القلوب، وأنار العقول، وحبب إلى الناس الدين والتدين، ودفع عنهم ودافع منكرات الأخلاق والأهواء.

كان يطل على الناس في برنامجه المنير الهادي من شاشة (الرائي) فيحدثهم وكأنه جالس بينهم، فخلب ألبابهم بعذوبة حديثه، وسعة ثقافته، واستقامة منهجه، وحسن تأتيهº فعاش برنامجه سنين طِوالا لم تبل جِدته، ولم تخب جذوته.

ثم جاء على أثره أناس حاولوا أن يكونوا هو فلم يستطيعوا، وأن يصلوا إليه فلم يلحقوا، فكانوا دليلا آخر على أن الشيخ شيء آخر.

إنه مذخور عقود طوال من السنين تعلما وتعليما، قراءة وكتابة، سماعا ومحاضرة، فاعتصر ذلك كله، ثم سقاه الناس شرابا سائغا، فراتا، لذة للشاربين.

لقد أتت على الأمة أزمان طوال كان أهل الأدب فيها يوزنون برقة الدين وعوج السلوك إلا بقايا من أهل الصلاح وقليل ما هم، وكان الشيخ علي الطنطاوي من هذا القليل، بل من خالص الخلاصة من هذا القليل، جمع بين النبوغ في الأدب، والرسوخ في العلم، والنقاء في الفكر، والاستقامة في السلوك، ثم الجهاد الأكبر بقلمه ولسانه.

اقتحم مجلة (الرسالة) وكانت مضمارا لا يجري فيه إلا الفحل القارح، فجاء سابقا مجليا، واتخذ مكانه فيها بين شوامخ قمم الأدب في ذلك الزمن: الزيات، والعقاد، والمازني، ومبارك، والحكيم، إلا أن الشيخ كان أقومهم طريقة، وأزكاهم عقيدة، وأسدهم قولا، وأهدى سبيلا.

كان الشيخ بيننا البقية الباقية من السابقين الأولين من أهل الجهاد المبرور، والبلاء الحسن، فكان أنموذجا فريدا نرى من خلاله حال زمان لم ندركه، ورجالا لم نلقهم، فإذا تحدث فتح مغاليق الزمن، ورفع حجب التاريخ، وسقانا العلم والخبرة، والثقافة والتجربةº فكان مباركا علينا في علمه وأدبه، وحديثه وكتاباته، وكان غيثا عميما أفاد منه الناس على تفاوت علومهم وفهومهم، وتنوع مذاهبهم ومشاربهم.

كان أديبا متفننا، إذا شاء ترسل فكتب بأسلوبه السهل الممتنع، ولكتبه خاصية اللصوق بيد القارئ فلا تستطلق منه إلا عند ما يقع بصره على آخر كلمة فيها.. يقرؤها فكأنما يشرب قراح الماء سهولة وعذوبة، لا تكلف ولا عنت، على أنه إذا شاء التأنق في العبارة صنع العجب العجاب، فكتب مقالته (نحن المسلمون) فكانت آية في الأناقة ودقة الصنعة، رصف كلماتها وكأنما كان يجمع قطع الفسيفساء ليرسم لوحة دقيقة النقش، رائعة الخط، فائقة الجمال.

إذا أردت أن تعرف معنى (إن من البيان لسحرا) فاقرأ بيانه أو اسمع خطابه، لترى كيف يضخ في شرايينك من وقدة حماسه، ويشعل قلبك من حرارة وجدانه.

ترى كيف يمر بالنقطة الصغيرة التي لا تدركها الأبصار فيسلط عليها مجهر بيانه، فيكبرها ويمتنها ويبديها ويعيدها حتى يجعلها بناء عالي الذرا مترامي الأنحاء. فإذا تعجبت وقلت: أنى له هذا! ومن أين أتى به؟ جاءك الجواب: إنه (سحر البيان).

فهنيئا للشيخ هذه السابقة في الخير، وهذا الجهاد في الحق، وهذا الأثر في الناس، وذاك العمر المديد في طاعة الله - عز وجل -.

رضي الله عن الشيخ وأرضاه، وأكرم نزله، وأعلى منزلته، وألحقه بالصالحين من عباده، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply