تضاريس الفقد.. وتشكيل جذور الانتماء 2 - 2


 

بسم الله الرحمن الرحيم

\"الحوار وتشكيل الهوية\":

وفي اللوحة الثالثة يصحو الشاعر من حلمه الوجودي، ومن ضجيج الذاكرة إلى تشكيل معالم هويته، وقسمات انتمائه، وفي هذا التشكيل الشعري يبرز عنصر القالب المسرحي.. ليتجسَّد الصراع بين عنترة من جهة.. وبين الأم من جهة أخرى بصفتها صوتاً مثبطاً أو مهادناً، والشاعر هنا لا يجري وراء بريق الرمز التراثي \"عنترة\"، ولا يغرق في أوهام الماضي مستكيناً إلى ما كان، ولكنه يصوِّر في هذا الحديث فعله المقاوم، وانتماءه الحقيقي، وصوت \"الأنا\" يعلو، ويتصدر أول مشهد في هذه اللوحة، وهو من أقوى المشاهد تجسيداً للصراع.. والمقاومة..

 

أنا يا عبلة من طرح النهر..

 

وقريتنا العاشقة بأطراف الدلتا تنتظرك..

 

وتختلط الرومانسية بالواقعية في مزيج من التشكيل المجازي للرؤية الشعرية في هذا المشهد الواعد بالخصوبة والعطاء في ظل احتدام الصراع، ورفض القهر والاستكانةº ولنصغ.. ولنتأمل هذا النداء:

 

يا مثمرة الوعد.. تعالي: لتفكَّ قيود صبانا.. نسكن في حضن الريح..

 

فصولك تثمر باللوز وبالرمان..

 

وفي وهج هذا النداء الرومانسي يرتد الشاعر مرة أخرى إلى بوح النفس مازجاً بين الذات والموضوع.. والخاص والعام في إشارات خاطفة كالبرق، ويتعانق حلم الشاعر هنا مع الحلم الأكبر للشاعر \"الفيتوري\".. فيقول مصوراً ذلك:

 

\"تستيقظ أفريقيا في أشعار الفيتوري، أسمع وقع خطاها في الأرض المبتلة والشعب.. وعبلةُ تخرج وردتها من شرنقة الحرمان.

 

والصراع هنا ينتقل إلى ساحة أخرى بين الابن الفارس والأم الخائفة الحذرة.. ويمتد الصراع إلى طرف ثالث.. وهو \"عبلة\".. فالأم تصف عبلة بأنها:

 

\"غانية تعبث في ساحتنا..

 

تلك الغابة ليست من قريتنا\"..

 

وتواجه \"عبلة\" هذه الاتهامات، ويحتد الصراع فتقول:

 

أمك.. تبذر في الجرح الملح

 

تخشى من عاصفة أخرى

 

وتصرخ الأم: هذي وردة نار فابعد عنها بالحذر الداجن يا ولدي..

 

ويصرخ الفارس: الابن

 

وحريقٌ يصهل في أعماقي

 

عيناها الخضراوان.. بحلم الفجر يموران..

 

والشاعر في هذا الحوار وغيره من الأسس الفنية التي كوَّن منها تجربته مثل \"العنصر التصويري\" يقترب في تصويره لمشاهد القصيدة من عالم \"الكاميرا\"، فهو حين ينقل المشاهد ويصورها يقوم بمثل ما يقوم به المصور حين يختار الزاوية، وكمية الضوء، ودلالة ما يصوره على ما يمور في وجدانه، ومما يميز الصورة في مثل هذه اللقطات هو التقاطها في حالة الحركة، أو بعبارة أخرى، كما يقول د. عبده بدوي في رصده لهذه القضية في حالة: الفعل المضارع، المهم ألا تكون الصورة راكدة، وإنما تكون في حالة اشتعال بحيث يتوثب الشرر من حولها.

 

وفي المشهد الآتي يصوِّر الشاعر وجهاً آخر للصراع، من خلال الحوار ورسم المشاهد الناطقة بكلّ ما يموج به عالم الشعر، وتعدد الأصوات، ورحيل الماضي متمثلاً في الأم، ولكنه يظلّ جاثماً على رؤاه، متحكماً في صورة \"الأب\"، والصورة الحركية ينطق بها هذا المقطع السردي \"من أحزان الفارس\"

 

عبلة تنظر شوقاً من خلف زجاج يتداخل..

 

وتجالس قطتها

 

الغضب يزمجر في وجه أبيك وأنت تناور.. !!

 

ويرتد الشاعر مرة أخرى إلى الزمن النفسي، فعلى الرغم من رحيل أمه فإنَّه يقرّ في حذر وخوف في \"مونولوج داخلي\".. ويحاور نفسه.. امتداداً لخطابه نفسه.. في مواجهة الأب..

 

\"ستجيئك في الحلم.. فكيف ستنسى نظرتها\"!!

 

ثم بعد هذه المحاورة الذاتية التي تعكس موقفه الخارجي.. يكتب بخط أكبر بين قوسين هذا الإعلان الكاشف عن مخاوفه \"تغضب أمي\".

 

وهنا تبرز خاصية جديدة في هذا النص: وهي القراءة البصرية \"من خلال التشكيل الكتابي\"، وهو ما يقودنا إلى البحث عن الأسرار الكامنة خلف توزيع الكلمات الشعرية على السطور، والتساؤل عن سرّ علامات التعجب، وعلامات التنصيص، ووضع بعض الجمل التي تنبئ عن الحوار الداخلي واسترجاع الأحداث بين قوسين.

 

فجملة \"تغضب أمي\" كتبت بخط أسود أكبر من باقي الخطوط، ووضعت بين قوسين، وذلك التشكيل الكتابي يجسِّد حالة الشاعر.. وموقفه تجاه موقف الأم الرافض، وكأن هذا الرفض في مضمونه يظل محاصراً.. مثل نصّه الشكلي، ووضع بعض الجمل بين الأقواس قد يتجاوز هذا الرفض إلى دلالة أخرى.. مثل العبارات التي تنبع دلالتها من الامتزاج بالحس الشعبي.. ومنها عبارة الأم \"يفرجها ربك\".

 

ومثل إحساس الشاعر بالسكونية والتوقف في كلّ ما حوله من مرائي.. ومواقف: فيقول في مناجاة يغفلها الأسى، ويضع هذه العبارة النموذجية بين قوسين \"صمت يملأ أقطار الميدان، ويغتال الأحلام\".

 

وفي المشهد الثاني يضع إدانته لعبلة بين قوسين، وكأنها إدانة مؤقتة ومحاصرة وليست منطلقة ولا مستمدةº لأنَّ الشاعر يطمح إلى الخلاص من هذا الواقع المهادن المخدَّر بوهم الأمان..

 

\"تكشف عن ساقيها.. عن ثغر في الظلماء يضيء\".

 

والصور في هذه التجربة ليست صوراً تشبيهية جزئية، ولا صوراً استعارية محدودة، وإنما هي صور \"تكوينية.. تركيبية\" أقرب إلى \"فن اللوحة\"، فكل مقطع هو لوحة تصويرية تتكون من عدة مشاهد تتجمع في النهاية لتقدم رؤية فنية تآزر في إنجازها فن التعبير بالقول، وفن التعبير بالفرشاة.. وفن التعبير بالكاميرا.. وغير ذلك من وسائل وأدوات الفنون الجميلة.

 

وإذا اجتمع أكثر من نوع واحد من الفنون كان تأثيره أقوى وأكثر تكاملاً، وهذا النهج يكسر الحاجز التقليدي القائم بين الفنون من رسم وتصوير ونحت وموسيقى، وتصوير بالكلمات في التجارب الشعرية.

 

ويقسم \"ليسنج\" الفنون إلى فنون زمانية كالشعر والموسيقى، وفنون مكانية كالنحت والتصوير، لأنَّ التصوير يكوِّن صورة ثابتة، في حين يرسم الشعر سياقاً متحركاً، ولم يثبت فن التصوير والرسم على مكانيته، بل تطور فيما بعد على أثر اختراع الكاميرا السينمائية، وعرف الفن التصويري الصورة المتحركة، وأحب الشعراء منازلة فن التصوير، ورسموا الصورة الشعرية المتحركة، أو أضافوا إلى الصورة الثابتة عنصر الديناميكية، كما يقول د. نعيم حسن اليافي، في كتابه (الشعر والفنون الجميلة)، وميخائيل نعيمة يؤكد هذا المنحى في \"تعانق الفنون\" وتبادل عناصر التكوين والتشكيل فيما بينها.

 

ومن الصور المتحركة في هذه التجربة كذلك هذا المشهد من \"أحزان الفارس\".. وهو يحاور نفسه.. ويستدعي الصور المتداخلة.. ويجمع أكثر من لقطة في هذا المشهد البائح.. النائح!!

 

\"أصبحت أخيراً يا فارسها في منتصف الدهشة..

 

عند تضاريس الفقد تغني للريح الصَّرصر

 

وتسدّ الباب.. كأنك لا تسمع..

 

عبلة تنظر شوقاً من خلف زجاج يتداخل..

 

وتجالس قطتها

 

الغضبُ يزمجر في وجه أبيك.. وأنت تناور..

 

والقصيدة مشحونة بصور جزئية غير مألوفة، تعتمد في مجازاتها على الإضافات، والأوصاف، وتراسل الحواس، والاستعارات والكنايات..

 

ومنها هذه الصورة: \"تسقين سهدي\"، فهنا تجسيد للسهد هو نقله من خاصيته المعنوية النفسية إلى تصوّره كائناً محسوساً اكتسب خاصية الذوق والريّ، واكتسب لدى الشاعر دلالة تنأى عن رفضه.. وتدخل في مجال المحبة، وأفق الإرواء، والغناء لم يعد مسموعاً فقط.. ولكنه تجاوز هذه الدلالة المألوفة، وتخلَّق من جديد في لغة الشاعر وطقس تجربته إلى عطر نفاذ، وإلى نغم حلو المذاق، وهنا يمزج الشاعر بين المسموعات والمشمومات والطعوم في سطر شعري واحد مزجاً لا تحسّ فيه بتكلف الصورة، أو تعمد الإغراب في تقديم الجديد

 

(تسقيني سهدي.. بغناء حلو.. يتقطَّر فيه العطر)

 

وهذا المزج بين المحسوسات وراءه عاطفة ملتهبة أحالت السهد إلى سقيا، والغناء إلى عطر، ومذاق جميل، ومثل هذا النهج الفني في صياغة الصورة التعبيرية عن طريق \"تراسل الحواس\" هو استجابة لعناصر التكوين الطبيعي، فالطبيعة أم لكل الفنون، تتكامل فيها الحركة المرئية والحركة السمعية اللون والصوت، وكل الظواهر الأخرى، وعندما يتحد الإنسان بالطبيعة، وتتكامل فيه عناصر الحياة بثقافاتها البصرية والسمعية، وارتباطها بالتجاوب العصبي الإنساني، عندما يتم ذلك فإنَّ الإنسان يتمكَّن من الرؤية حتى وهو كفيف، ومن السمع حتى وهو أصم ـ كما كان يسمع \"بتهوفن\" وهو أصم، ما لا تتمكن أذن أن تسمعه أو تستشفه من جمال.

 

يقول \"كارلايل\" إذا تأملت الشيء ونظرت إليه بعمق وتفحصته فإنك حتماً ستستمتع بموسيقيته، لأن النغم يكمن في قلب طبيعة الأشياء.

 

ومن الصور المجازية التي توحي بكثير من الرؤى، وتفتح منافذ للتأويل كثيرة: قول \"عبلة\":

 

رماحك.. في قلبي.. \"تشرق في قلبي نافورة عشق\"

 

تملأ ليلي بنجوم تتلألأ في صحراء سمائي السوداء!!

 

ووصف السماء بالسوداء في هذه الصورة يجسد لون الشعور وطبيعة الإحساس.. فالجمع هنا بين الأطراف المتباعدة هو سرّ طرافة الصورة، فنافورة العشق.. صورة عجيبة، ثم كيف تطلع من هذه النافورة نجوم تملأ الليل، وتبدو حلكته، ثم تفاجأ بالصحراء مقترنة بالسماء.. وليس الأرض، وأي صحراء هذي؟؟ وإمعاناً في غرابة الصورة يصف الشاعر السماء بأنها سوداء!!

 

إنَّ طبيعة الإحساس، والشوق إلى الخروج من هذا التيه هو الذي أعطى لهذه الصورة جمالها وإيحاءها وتأويلها المتعدد.

 

ومن الصور التي تتكئ على الإيحاء والموقف النفسي، وتجميع عناصر المشهد مثل اللوحة المتكاملة هذا المشهد:

 

 يا مثمرة الوعد تعالي.. لنفك قيود صبانا.. نسكن في حضن الريح..

 

فصولك تثمر باللوز وبالرمان\".

 

والريح ليست مستقراً هادئاً، ولا سكناً آمناً، وإنما ترتبط في الحقيقة والخيال بالعواصف والتدمير، والتغيير، ولكن الشاعر يخالف هذا الإلف السائد ويقول: \"نسكن في حضن الريح\"، وتأمل دلالة السكن، ودلالة \"حضن\" وكأن الريح اكتسبت صفة الأمومة، أو صفة المحبوبة بكل أبعاد ملامحها، ويمكن أن ترفض هذه الصورة لو قطعناها من سياقها ومناخها اللغوي والشعوري، ولا بد أن نتأمل النداء بكل متعلقاته في هذه الجملة الشعرية المتلاحمة المكثفة والتي تمثل مراحل متعددة.. فالوعد المثمر لا يتكون إلا بعد فك قيود الصبا، والريح في دورة التكاثر تحمل بذور، وتقوم بدور فاعل في الإخصاب، والتكاثر كما قال - تعالى -: \"وأرسلنا الرياح لواقح\"، وإثمار الفصول باللوز ما هو إلا تتويج لهذه المرحلة التكوينية المتكررة.. من الخلق والإيجاد.. والعطاء ومقاومة كل عوامل الفناء والتلاشي.

 

ولنتأمل هذا الوصف الشعري للحريق.. ومرسل هذا الخطاب الشعري يصارع ويدافع عن المحبوبة.. وهي \"الهوية والوطن\".. يقول مصوراً كيانه وواقعه الغاضب:

 

\"وحريق يصهل في أعماقي\"..

 

إنَّ هذا التعبير لا يتوافق مع القاعدة المجازية القديمة التي تقول بملاءمة المستعار منه للمستعار له، والتي تؤكد على ضرورة الإصابة في الوصف، فالحريق في ظل الصورة التراثية يلائمه الاشتعال، ولا يلائمه الصهيل، ولكن الصورة الحديثة تجاوزت هذه الحدود الثابتة، وقفزت فوق الأسوار العالية، وتغيرت أو تطورت وظيفتها، فالصورة تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التي يريد الشاعر أن يعبِّر عنها، والصور في الشعر الجديد لا تقف عند مجرَّد التشابه الحسي الملموس، وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة في تشابه الوقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين، كما يقول د. علي عشري زايد.

 

وهنا في هذه الصورة لا تغني كلمة أخرى عن الفعل \"يصهل\" في وصف الحريق.. لأنَّ التجربة ملتحمة بأجواء الفروسية.. والصهيل أحد رموز، وملامح هذه الأجواء، وهي في تشكلها ورؤيتها \"بعض مقاطع من ملحمة عنترة\".. وهو القائل:

 

فازورَّ من وقع القنا بلبانه  وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم

 

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي

 

والصهيل.. في هذه التجربة، يعطي للحريق بعداً آخر، وهو اشتعال الغضب، وتأجج لهيب الفروسية وليس الدمار.. أو التلاشي.. والخراب الذي تخلفه الحرائق

 

ووصف الأم للمحبوبة \"عبلة\" بأنها \"وردة نار\" قد يرفضه الحس التقليدي الذي يتطلب التشبيه المألوف، فهي أولى في ظل الإلف اللغوي، أن تكون \"قطعة نار\"، ولكن نفسية المحب تأبى أن تضيع المحبوبة في هذا القالب، وحطم الشاعر الإلف السائد.. وجمع بين الضدين الورد والنار.. في مفارقة لغوية ونفسية تفسِّر موقفه، وتمسكه بقضيته، في صورة محبوبته التي تتعرض للتشويه والتشكيك في ملامحها.. فهو في نظر البعض.. تقود إلى الهلاك والضياع!!

 

ووصف الصحف بأنها سوداء قد يثير القلق، لأن الصحف المرفوضة ذات التوجهات \"التشكيكية\" توصف بالصفراء، ولكن لو قيل هذا الوصف لانطفأ الإحساس بوهج هذا التعبير، لأن السواد في دلالته يحمل كل تراكمات الظلام.. والهزيمة واليأس والإخفاق.. والاستعباد.

 

ولنتأمل هذه الأوصاف التي تنأى المباشرة والإلف في هذه الجملة الشعرية: \"حتى أقتل دون الفجر الأخضر\"، فالفجر يعلن عن اكتساح الليل، والخضرة تجسِّد ميلاد الحياة والنماء والتجددº وفي حوار داخلي يجسِّد الشاعر قلقه حين يرى وهو في حمأة الصراع والدفاع والاستعداد للشهادة، أنَّ عبلة \"ما عادت تصنع من جمر الشوق رماحاً حمراً\".

 

ويمكن أن نقول إنَّ الشاعر مغرم بالأوصاف ذات الدلالة اللونية، وبعضها له إيحاؤه النفسي، وبعضها يعدّ جسماً غريباً في كيان التجربة.. مثل وصفه للرماح \"بأنَّها حمراء\"، ولكن هذا الاعتراض لا يجد له مكاناً هنا لأنَّ الوصف مكمل لعناصر التجربة، فالشاعر يجاهد، ويقاتل، ودمه يعطر ساحة المجالدة.. ورماحه تصبغ بدماء أعدائه، وهو مثل فرس عنترة يتسربل بدماء المعتدين الغاصبين.

 

ولن يترك الفارس الميدان حتى يُقتل أو ينتصر.. ولكن \"عبلة\" كما صوَّرتها القصيدة في أحد مشاهد هذا النص \"تغفو في نومتها الرعناء\"!! وهنا يفصح الشاعر عن مخاوفه فيصرح بأنها استكانت وما عادت تصنع من جمر الشوق رماحاً حمراء.

 

والشوق هنا حين يضاف إلى الجمر في إسناد مجازي، فهو يتجاوز دائرة الرومانسية والعزلة والحزن الذاتي ليعانق الألم الغاضب في سبيل الحرية، وإثبات الوجود.. مثلما سجّل عنترة بطولته، وحقق حريته، وانتصر لوجوده وفروسيته، وعزته وكرامته.

 

وبعض الصفات يأتي في ختام الأسطر الشعرية.. من أجل القافية.. والصفة لا تؤدي دوراً في سياق التجربة.. ومن ذلك وصف السيف بالصارم.. وقد جاء ذلك الوصف من أجل ضبط إيقاع القافية.. فهي تتوالى هكذا.. في الأسطر الشعرية (العام القادم، الصوت الحازم، السيف الصارم)، وهي أوصاف مألوفة لا تضيف جديداً إلى عالم التجربة.

 

وما أجمل هذه اللوحة التصويرية التي تمزج بين مدركات \"العطور والطعوم، والمرئيات والأضواء، والبهاء.. الذي يغلف الصورة كلها.. في ضوء منظوره تراسل الحواس\"..

 

يقول الشاعر واصفاً عبلة (ظلت كالتفاحة تقطر عطراً.. تقطر ضوءاً.. وبهاء).

 

وتأمل دلالة الفعل \"تقطر\" مع دلالته الزمنية الاستمرارية، وهي تبوح بموحيات متعددة، أكثر نفاذاً وتأثيراً من الفعل \"تفوح\" المناسب للعطر في التعابير الجاهزة المألوفة.

 

وتأمل هذه الصورة التي أوحت بأجوائها المفردة الشعرية \"أنوار\" وليست \"نيران\" في هذه الجملة \"تحرقها أنوار الصهر\"، فالإحراق هنا تطهير وتمحيص وميلاد جديد مثل الذهب حين تخلصه النار من الشوائب، فالدلالة الإيحائية لكلمة \"أنوار\" في صيغتها الجمعية وفي مادتها اللغوية تفسِّر موقف الشاعر المرتبط بهذه المحبوبة التي غفلت حيناً، والتي استكانت ثم استيقظت وهي تكابد.. وتتطهر.. وتحرقها أنوار الصهر.. وكأنها تشكلت من جديد بعد أن \"صُهرت\".. وتخلصت من كل الشوائب والأوهام.. وما زالت تخوض هذه التجربة الجديدة، فالأنوار تحاصر موسيقاها.. ومعصمها.. وهي ما زالت ترتعش وتستعد خوفاً من الخطر القادم، وهذا الخطر يصوره الشاعر في لوحة تجمع بين المتناقضات:

 

(الأمن والخوف، العشب والصحراء، الغناء والرعب، الحصار والمسافات، هديل الحمام والحرب)..

 

إنها مكونات التضاريس التي تجول في شعابها الشاعر، ولم تغب عنه أصداء عنترة في سراديبها ومفاوزها، وكأن القصيدة كلها لوحة تكونها مفارقة تصويرية من بدايتها إلى نهايتها، فهي \"تبتدئ بالطفولة والصبح والنخل المثمر، وتنتهي بصحراء الرعب، والليل القادم، وجنرالات الحرب\".

 

ولغة المفارقة ـ كما يقول النقاد ـ وليدة موقف نفسي وعقلي وثقافي معيد، وهي إستراتيجية قول نقدي ساخر، وهي تعبر عن موقف رافض ولكنه تعبير غير مباشر يقوم على التورية كما تقول \"سيزا قاسم\" في دراستها لعنصر المفارقة في شعر أمل دنقل.

 

ويصوِّر الشاعر حسين علي محمد في نهاية تجواله في تضاريس الفقد واقع هذه المحبوبة/الوطن.. والهوية، وفي هذا التصوير تجسيد لحالة الاستنفار المشتعلة، ورصد فني لكل ما يحيط بهذه الأمة من مؤامرات عالمية، وتحركات استعمارية وأطماع صهيونية، وهيمنة استعلائية، وهواجس تغرقنا في سراب العولمة، وأوهام السلام!!

 

إنَّ الشاعر يشكل هذه الصورة في نهاية قصيدته تشكيلاً يشخص واقع أمتنا في مواجهة الطوفان القادم:

 

\"نخرقها أنوار الصهر.. تحاصر موسيقاها، معصمها

 

ترتعش على حافة ليل!!

 

أمطر في الفجر، واترك للعشب مسافات بيضاء..

 

تطرزها \"عبلة\" بالعشق مليا

 

وتغني كهديل حمام..

 

ينقر ذاكرتي في أول صحراء الرعب

 

(هل يخلعني في الليل القادم.. جنرالات الحرب)!!

 

 وبعد.. فهذه إحدى روائع الشاعر العربي د. حسين علي محمد.. وهو صوت شعري بارز في حركة الشعر العربي الحديث في مصر.. وأدعو من خلال هذه القراءة النقدية، النقاد إلى تقديم الأصوات الشعرية الجادة إلى جماهير القراء وإلى المشتغلين بالدرس النقدي في المجال الأكاديمي والساحة الإعلامية.. وألا يكتفي الدارسون برصد تجارب الأسماء المشهورة ذات الطغيان الإعلامي.. فبريق الشهرة يخدع الكثيرين.. وهو ظاهرة سرابية تقودنا إلى الضبابية والظمأ، والانكسار، والمجيدون في حقل الإبداع كثيرون.. ولكن إيقاع الحياة لا يعي أصواتهم الجادة.. ولكن صوت الإبداع الفائق باق.. ولا نزال نشارك الشاعر هذا النداء الحضاري الصادق:

 

يا مثمرة الوعد - تعالى -..

 

لنفك قيود صبانا، نسكن في حضن الريح..

 

فصولك تثمر باللوز وبالرمان..

 

تستيقظ أفريقيا في أشعار الفيتوري، أسمع وقع خطاها في الأرض المبتلة والعشب..

 

وعبلة تخرج وردتها من شرنقة الحرمان..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply