تضاريس الفقد .. وتشكيل جذور الانتماء 1 - 2


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أولاً: مدخل إلى تخوم التجربة (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة):

إنَّ الشاعر الدكتور حسين علي محمد يطمح دائماً إلى التجاوز ، ويوغل في تتبع الجديد في عالم الفتوحات الشعرية ، ونتاجه المتعدد مفعم بثراء التجربة ، وبكارة الرؤية ، وعزاية الصور ، وهذا النتاج يظل شاهداً فنياً يؤكد أن صوت هذا الشاعر من أنقى الأصوات الشعرية في جيل السبعينيات في مصر..والعالم العربي.. وهو الجيل الذي يمكن أن نطلق عليه \"جيل المقاومة\" أو \"جيل الصدمة\" ، والشاعر حسين علي محمَّد صوت بارز في هذا الجيل الذي أدمت رؤاه ، واغتالت أحلامه (نكسة 1967م) ، وما زال مسلسل الاغتيالات مستمراً ، ولكن سلاح المقاومة ، لا يصدأ إيقاعه ، ولا يخبو وهجه ، ولا تنطفئ إشعاعاته.

 

ويقول د. حلمي القاعود في كتابه: الورد والهالوك: \"حسين علي محمد ، واحد من أهم شعراء السبعينيات الذين حملوا رؤية صافية نقية ، تنبع من فهم واعٍ, لهوية الأمة وشخصيتها ، وتحركوا من خلال تصور واثق يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة ، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي ، قارئاً أو مستمعاً ، شريكاً في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل ، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال\".

 

ويقدم الشاعر حسين علي محمد في دائرة هذه التضاريس المائجة بالتناقضات والصدمات على كل المستويات شهادته الصامدة ، ورؤيته المقاومة في دواوينه المتعددة ، ومنها: \"شجرة الحلم ، والحلم والأسوار ، والرحيل على جواد النار ، وحدائق الصوت ، وغناء الأشياء ، والنائي ينفجر بوحاً\".

 

وتبوح دلالات هذه الكائنات الشعرية التي قدمها الشاعر إلى الوجود الشعري المعاصر بأنفاس المقاومة.. والبحث عن تشكيل جذور الانتماء عبر ثلاثية (الحب ، الحرية ، الوجود). وقصيدة \"تضاريس الفقد\" تتصدر أولى تجارب الشاعر في تجسيد هذا الانتماء الذي يبحث عنه ويحاول تشكيله في هذه التجربة التي اتخذ لها وسيلة من وسائل الأداء الشعري وهي الرمز ، من خلال العنوان الآخر الذي فسّر التجربة أو حدد إطارها الفني ، وهو \"خمسة مقاطع من ملحمة عنترة\" ، والرمز ـ كما يقول د. علي عشري زايد ـ وسيلة إيحائية من أبرز وسائل التصوير الشعرية التي ابتدعها الشاعر المعاصر عبر سعيه الدائب وراء اكتشاف وسائل تعبير لغوية ، يثري بها لغته الشعرية ، ويجعلها قادرة على الإيحاء بما يستعصي على التحديد والوصف من مشاعره وأحاسيسه وأبعاد رؤيته الشعرية\".

 

والقصيدة في بنائها تتكئ على توظيف أصداء نفسية عنترة وموقفه من الوجود من خلال قضيته وعالمه الخاص ، الذي صارت عبلة \"محوراً له\". والشاعر هنا لا يجعل من عنترة ضوءاً خارج التجربة ، ولكنه تقمَّص هذه الشخصية التراثية ، واتحد بها ، ونزع عنها ملامحها التراثية وألبسها سمات العصر سلوكاً.. ورؤية ولغة وصوراً ، ولم يبق من عنترة الفارس البدوي القديم إلا الصدى الملتهب بالحب ، والحلم الفارس الباحث عن الحرية والانعتاق ومعانقة الوجود الحقيقي ، والقصيدة في إطار هذه المفارقة تقترب من عنصر \"الحكي\" ، والبناء الروائي ، والشاعر جسَّد هذه الدلالة الفنية حين ثبَّت بعض الإشارات الدالة أمام مدخل هذه التضاريس ، وقال في إيحاء وإشارة منبئة عن هذا المعمار الفني (خمسة مقاطع من ملحمة عنترة).

 

ولأن شخصية عنترة وأخبارها أشبه بالكائن الأسطوري ، وأكثر إثارة للخيال الشعبي ، فقد آثر الشاعر أن تكون تجربته بعض مقاطع من هذه الملحمة ، ولكنه أعاد الشخصية \"عنترة ، أو عبلة\" للواقع المعاصر.. وأدخل كلاً منهما في بنائه السردي ، ونزعته الروائية في تجربته الشعرية.

 

وهو هنا يؤكد: أن القصيدة الحديثة ازدادت علاقتها قوة بالاتجاهات الحديثة في الرواية ، وبخاصة تلك الاتجاهات التي تركز على العالم الداخلي للأبطال أكثر مما تركز على الأحداث الخارجية ، كما يرى ذلك د. صلاح فضل ، وبعض النقاد المحدثين في الربط بين فنون التعبير القولية ، والفنون الجميلة.

 

والقصيدة تبدأ مشاهدها بثلاثة مناظر واقعية تجسِّد سحر الطفولة ومصاحباتها لدورة الزمن في مراحلة المكونة له (صباحاً ـ نهاراً ـ مساءً).

 

وهذا المشهد يصوِّر كل معالم الانتماء ، وأشواق البحث عن الجذور ، ومن المفارقات اللغوية المخادعة أنَّ الشاعر يتجول في تضاريس فقده ، ولكنه يجسد نفسيته وحالته الشعرية ويدين واقعه ، في محاولة لإزالة كابوس الفقد ، وحين يجعل هذه التضاريس مضافة إلى الفقد ، فهو يصوِّر حلماً مفزعاً يخشى تحققه ، أو واقعاً صادماً لا يتوقع زواله!!

 

ولنتأمل الجزء الأول من هذا المشهد:

 

كانت \"عبلة\" في غبش الصبح تطاردني

 

تتمنى لو تغلبني

 

تحلم.. أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر

 

كانت في الصمت الوداع..

 

تسقيني سهدي

 

بغناء حلو يتقطر فيه العطر

 

ويتجوَّل الشاعر في هذه التضاريس مع محبوبته \"عبلة\" التي تجاوزت بعدها التاريخي ، وتحولت إلى رمز لكل جميل فقدناه ، وما زلنا نبحث عنه في سراديب الرؤى ، ومدار الانكسارات ، وصدمات الهزائم ، هذا الرمز تتصدر بؤرته التأويلية دلالة \"الوطن\" وإشعاعات الحرية ، وأشواق العودة إلى عصر الفروسية وشموخ القوة.

 

فهل يحقق \"عنترة العصري\" وعوده لعبلة.. ويعود إليها ، وقد قهر المستحيل وقدَّم شهادة حريته وميلاده؟.. أم سيظل غارقاً في أحاديثه المستطردة ومساوماته واستسلاماته ومحاوراته وحزن الداجن؟

 

والشاعر لا يترك لهذه الإسقاطات الواهمة مجالاً تتحرك فيه أشباحها ، ولكنه يلقي في قلب الريح والمواجهة بأحزان الفارس ، ويعود للمقاومة ، ويعلن تحديه للصحف السوداء ، وأبواق العسكر ، ويصرخ:

 

سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر..

 

وأجاهد.. وأقاتل.. حتى أُقتل دون الفجر الأخضر

 

وجولة الشاعر في هذه التضاريس تقهر كابوس الفقد ، حيث ينطلق الفارس من جديد.. وكأن الرواية \"الملحمية\" ما زالت تمور بالأحداث والصراعات.. يحكي الشاعر في أسلوب سردي:

 

كنت أخب على ظهر الفرس.. ويلسعني البرد وأرمح..

 

أدفق في غابات الجوز.. فترشح بالعطر وباللهفة.. تدفئني..

 

عبلة لم تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً

 

أو تتركني كي يصرعني يأس

 

ظلت كالتفاحة تقطر عطراً.. تقطر ضوءاً وبهاء..

 

ولكن لم تنته الرواية: فهذه تموجات داخل النفس ترفض الواقع المنكسر ، وفي النهاية يلجأ الشاعر إلى الحوار الداخلي ليجسد كيان التجربة ويطلق هذه الصيحة التي تشبه دوي الإنذار وأجراس الخطر ، فعبلة ما زالت في مهب الريح.. تحرقها أنوار الصَّهر.

 

وهي.. كما يصور الشاعر ـ لن تستسلم.. ولكن

 

\"تغني كهديل حمام.. ينقر ذاكرتي في أول صحراء الرعب\"

 

وفجأة يشتعل هذا السؤال الثاقب الذي حرَّك المشاهد كلها من جديد

 

\"هل يخلعني في الليل القادم.. جنرالات الحرب\"؟؟!!

 

ثانياً: من ظاهر التشكيل الفني:

يموج هذا النص بكثير من ظواهر التشكيل الفني.. وفي مقدمتها التشكيل اللغوي ، والتشكيل بالصورة ، والتشكيل الإيقاعي.

 

والتشكيل اللغوي له عدة مداخل ، منها: اختيار المفردة الشعرية ، وخصوصية تركيب الجملة ، وارتباطها بمناخ التجربة ، وتجسيدها لأجواء الحس الشعبي أحياناً..

 

ومنها: دلالة الأفعال الحركية وارتباطها بالزمن الذي توحي به التجربة إيحاءً نفسياً وليس خارجياً ، وكأن كلّ ما يقدمه الشاعر في هذا النص من مفردات وبُنى لغوية ، ما هو إلا إشارات وإيحاءات بما يموج في داخل النفس ومسارب الشعور ، والمعنى كما قال النقاد القدامى \"في بطن الشاعر\" أي في وجدانه وضميره.. ويقول أبو تمام مؤكداً هذا المنحى \"عليَّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا ، ولا يبتعد المتنبي كثيراً عن هذا الأفق التأويلي حين يقول متحدياً:

 

أنام ملء جفوني عن شواردها   ويسهر الخلق جراها ويختصم

 

ويقول \"فاليري\" نحن نفكر بالألفاظ ، ويقول \"عبد القاهر\" مؤكداً قيمة النسق في تجلية المعنى ، ودور النظم الفني في تجلية الشعور الصادق الصحيح.

 

والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف ، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب ، وكان أبو العلاء يشعر بالرنين والصدى الذي ينطلق كدوائر صوتية كبيرة أو صغيرة من داخل الكلمات ، وكان في الوقت نفسه يحس بمواقع الارتطام ويركز عليها وكأنها وقع عصاه ، ويتحسس بها الأشياء ثم يسير.. ومن شعر أبي العلاء - كما يرى د. عبده بدوي- يتحقق ما ذهب إليه اللغويون من أن التقارب بين المعاني كثيراً ما يكون وسيلة وعلة للتقارب بين الألفاظ الدالة عليها ، ولنتأمل بعض مفردات هذا المقطع وتراكيبه اللغوية ، في ضوء هذا المنظور:

 

\"في غبش الصبح.. تطاردني\" ألا يعلن هذا التعبير جمادته اللغوية \"غبش الصبح\".. عن طبيعة مناخ وزمان التجربة ، وهو كذلك يفصح عن نية الشاعر وحيرته ، وضبابية الرؤية وهو ما زال في أول الطريق؟

 

والشاعر يستعذب الصراع ، وتحمل المعاناة ، في سبيل إنجاز ما يريد ، وجملته الشعرية في صياغتها ومادتها اللغوية (تسقيني سهدي) تصور هذا الإحساس ، فالسهد دائماً قرين العذاب والحرمان ، ولكنه هنا يروي المحب الولهان الذي تتمنى منه محبوبته أن تبصر نخلاً يثمر في الأرض القفر بعد الفوز بذلك المحبوب الفارس والتوحد بجذور الانتماء.

والصور المتخيلة التي يرسمها الشاعر لهذه المحبوبة في ممارساتها الطفولية لا تنفصل عن كيان التجربة ولا عن ملامح الفروسية التي تسيطر عليها ، يقول: مصوراً ذلك:

 

تتسلل كي تتفقد كهفي

 

وحدائقها الفضية تزدان نهاراً.. بقلاع وقباب

 

ومساءً: بالصور الزيتية:.. للأحصنة المنطلقة

 

بين تلال وسهول.. للنهر..

 

ولنتأمل: ماذا وراء هذه المفردات التي يتشكل من تناسقها وتجاورها وتنافرها أحياناً كائن التجربة الشعرية؟! وما هو شكل الإحساس الكامن وراء اختبار القلاع والقباب والأحصنة المنطلقة بين التلال والسهول ، والتي لا تصهل في البيداء ولا الطلول.. ولكنها تركض صوب النهر باحثة عن الخصب.. ومصدر الحياة.

 

والمشهد الأخير من هذه اللوحة ينقلنا فجأة من تضاريس الفروسية إلى تضاريس الفقد ، ومن إيقاع الطفولة الحالم الواثب إلى واقعية يقاوم جهامتها الشاعر حين يصوِّر ما آل إليه أمر هذا الفارس الذي تمور مخيلته بالأحصنة المنطلقة ، وبالقلاع والقباب: وها هو ذا فجأة لا يملك إلا (\"منضدة تعلوها أتربة.. وعليها عشب الصبر\")!

 

وداره كما يحكي (\"في الركن الأقصى.. من داري المنزوية.. في أطراف الغابة\")!

 

وإن هذا الإيغال في رسم الحدود المكانية من خلال هذه الألفاظ التي تشبه الأسوار المحكمة ، يجسد المفارقة النفسية والمكانية التي تضع الشاعر.. في منطقة التوتر.. والقلق ، والصراع ، ولنحدِّق في هذه الأوصاف.. وموادها اللغوية التي تكشف عن رفض الشاعر لهذا الواقع الذي تتشكل من قسماته تضاريس الفقد.

 

فالركن أقصى.. أي أبعد ، والدار منزوية.. والانزواء بعدٌ وعزلة وغربة ، والمكان غابة.. ولفظ الغابة يبوح بدلالات متعددة تتآزر كلها في إحكام الحصار حول حلم هذا الفارس الذي يحلم بالحب والحرية والوجود.. والانتماء ، ولتكن المقاومة مجسدة في الصبر ، وحديقته المثمرة التي تمدّ جفاف هذا الواقع بالرواء.. والأمل ـ حتى لو كان من \"عشب الصبر\".

 

ولنتأمل من جديد كيف شكل الزمن اللغوي جذور الانتماء ، وكيف أفصح عن رؤية الشاعر وعن إصراره على المجابهة ورفض التسلط الزاحف عليه من الموروث الذي يلقي عليه بشباكه ورموزه متمثلاً في الركون إلى السائد والمألوف ، والحذر الداجن ، وغضب الأم وتحكمها ، ومحاولاتها التفريق بينه وبين معشوقته ، الحقيقة والرمز ، وسخرية الأب حيث الغضب يزمجر ، ويواجه الابن هذا الفارس العصري.. ويقول في لهجة شعبية ساخرة:

 

ماذا ـ يا فالح قالوا ـ في الصحف السوداء؟!!

وتتجلى المقاومة في هذا الموقف المجابه الواعي

 

\"سأدافع عن وطني.. لا وطن العسكر\"..

 

والمشهد الأول في بنائه التكويني يتكون من أربعة جمل شعرية اتبع فيها الشاعر نظام \"التدوير الشعري\" وتنتهي كل جملة شعرية بقافية متوافقة مع الأخريات (القفر- العطر- النَّهر- الصبر)

 

والجمل الثلاث الأولى.. تبدأ بالفعل كانت ، وفعل الكينونة هنا يبوح بزمن التجربة ، ويعلن عن الخاصية السردية في هذا النص ، ولكن هذه الكينونة على الرغم من ماضويتها فهي ليست حركة هاربة من الواقع ، وإنما في دائرتها تتحرك الأحداث عبر الأفعال التي تتشكل من مفرداتها جذور الانتماء ، وديمومة الصراع ، ومشروعية حلم البقاء.

 

فالفعل \"كانت\" في الجملة الشعرية الأولى تتحرك دلالته في شعاب الزمن الآني والمستقبلي من خلال ستة أفعال مضارعة تتوالى راصدة حركة الشخصية المحورية في هذه التجربة ، وهي \"عبلة\" على النسق السردي الآتي الذي يمكن أن يكون جملة شعرية مختزلة أو قصيدة إشارية.. على هذا النحو:

(كانت عبلة.. تطاردني.. تتمنَّى.. تغلبني.. تحلم.. تبصر نخلاً يثمر).

 

والجملة الثانية تبدأ بالفعل كانت.. ويتحرك في دائرتها فعلان مضارعان مرتبطان بالكينونة المتمسكة بجذور الانتماء.. وحقل الحرية (تسقيني بهدي.. بغناء.. يتقطر فيه العطر).

 

ومن الجملة الثالثة تتوالى خمسة أفعال آنية ومستقبلية تتحرك وترصد ما يدور من محاولات الوصول إلى الآخر بغية تحقيق الحلم ، فهي (تلهث.. تقرص.. تتسلل.. تتفقَّد.. تزدان).

 

والجملة الشعرية الرابعة لا تبدأ بالفعل كانت ، ولا تحصر داخل الزمن ، وإنما يظل الحدث فيها واقعاً مجرداً من الزمن ، ولأنه واقع مرفوض جاء تشكيله اللغوي في إطار الجملة الاسمية الممتدة من خلال الأوصاف المتوالية ، وخلو هذه الجملة من الأفعال ما عدا الفعل ـ تعلوها ـ يوحي برفض الشاعر لإيقاع هذا الواقع الجامد ، ورفضه لثباته الخارجي وسكونيته ، ولذلك لا يقدمه الشاعر في سياق \"الحكي\" وإنما يجيء في قالب الوصف ، والدلالة الوظيفية لتنكير \"منضدة\" ، وكذلك تنكير \"أتربة\" تفصح عن تصادم الشاعر مع هذا الواقع.. ولكنه يصمد ويقاوم.

 

وأما اللوحة الثانية.. في هذا النص ، وهي كما عنون لها الشاعر \"جملة معترضة\" فإنها تمثل نقلة مفاجئة ، ومواقفاً رافضاً لموقف الاسترخاء الذي يخيم على كل ما يحيط بالشاعر.. وعبلة جزء من تكوينات هذا الجو المحيط والمخبط ، والعنوان يجسد اعتراض الشاعر حيث يقدم رؤيته في جملتين شعريتين.. تشكلهما المفارقة الساخرة..

 

دوَّت في الأفق طبول الحرب

 

وعبلةُ تغفو في نومتها الرعناء..

 

والشاعر يستعيد من فن السرد بعض ملامحه الإيقاعية ، فهو يحذف كثيراً من التفاصيل ، وهو يختصر أحداثاً كثيرة في سطور قليلة ، ويقوم بعمليات استبطان لدخائل شخوصه ، ويغرق في وصف خواطرها النفسية ، وهذه السمات هي بعض مكونات سلم الإيقاع الروائي ، وهي (الحذف والاختصار والمشهد والتباطؤ والتوقف) ، التي وضحها د. صلاح فضل ، ويؤكد كذلك على أن المفارقة لها أهميتها في شعرية السرد ، وتعادل في أهميتها وخطورتها الوظيفية نفس الدور الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيد ، وذلك لاعتمادها على خاصية جوهرية تتفق مع المجاز ، وهي أنها تقول شيئاً وتقصد شيئاً آخر.

 

وكلما كانت المفارقة مرهفة ودقيقة كانت أبلغ وأحفل بالشعرية ، فالسخرية المباشرة والتهكم الصريح لا يثيران من انتباه المتلقي وحساسيته ما تثيره روح الفكاهة الجميلة العذبة.

 

والأفعال في هذه اللوحة \"الاعتراضية\" تتأرجح بين الماضوية والمضارعية والآنية والمستقبلية ، ولكن \"الماضوية\" ضئيلة.. وهي تتصدر هذه اللوحة (دوَّت في الأفق طبول الحرب)..

 

وفي ظل هذا الدوي تتحرك هذه الدلالات الواهمة الفارقة ، ويعد ذلك رفضاً من الشاعر لهذا الإغفاء الأرعن الذي أصاب الوطن في كل قطاعاته وشرايينه حتى كانت الهزيمة والاستسلام.

 

ولنتأمل مسيرة هذه الأفعال في المشهد الأول من هذه اللوحة \"المعترضة\":

 

\"عبلةُ\".. تغفو.. تكشف.. تنادي.. تشرق.. تملأ.. تتلألأ.. \"في صحراء سمائي السوداء\"..

 

وفي المشهد الثاني يقاوم الشاعر هذا الإغفاء.. حين يستعد للفعل عبر الحلم الناجز ، وعبر تيار الوعي ، والارتداد ، مستعيراً من تقنيات الرواية بعض آلياتها السردية ، ويضع \"المونولوج الداخلي\" بين قوسين في صيغة استفهامية مفعمة بالشجن والبوح.. محاوراً نفسه (كنت أدبِّج في الليل حداء القافلة.. وأحلم يا عبلة؟؟!)

 

وبعد مشهد السماء السوداء يدخل منطقة الحلم المقاوم ، فيرسم هذه الصور التعبيرية الحركية (تطارحني الحب.. تشاطرني الحلم.. وعيناها الخضراوان يضيئان دهاليز الدرب)..

 

ثم يرتد إلى ذاته.. وفي حوار داخلي ، ومناجاة ذاتية يطلق استفهامه الساخر!!

 

ثمَّ يصور الشاعر حلمه عبر مشاهد تعبيرية تتكئ على العلاقات اللغوية الجديدة الموحية والمؤثرة ، حيث تجسد الهم الجمعي ، والإحساس الكلي ، وهو يضع إشارات لغوية ، وكائنات لفظية ، تمثل شفرات تقودنا إلى بؤرة التجربة حيث تتجاوز حدود الذات الفردية وتقتحم آفاق الرؤية الجماعية السابحة في مدارات الوطن ، والمقتحمة حلبات الصراع الحضاري ، في محاولة فاصلة للخروج من تضاريس الفقد ، والتمسك بجذور الانتماء ، وعناق لإيقاع الحرية ، ولنتأمَّل هذا المشهد الذي تتوالى صوره في إيقاع نفسي داخلي لا يأبه بالتقفية الشكلية مجسداً شكل الحياة في إطارها الحضاري ، ودائرة وجودها المنتصر..

 

\"أحلم يا عبلة.. تشرق شمسك

 

يرحل جيش دفاع الأعداء

 

وتسطع في أفقي أقمار الشعر/ بريق العشب/ أحاديث الليل/ حنين النسوة/ أوراق الحناء/ زلازل قلبي/ أعناب اليمن/ طيور النورس/ تمر الشام ،..

 

تضج الذاكرة بأقدام العبرانيات ، وأحلام الكنعانيات ، وملح المتوسط.. يُغرق سرب فراشات.. عاشق يغني ، مثل عصافير الجنَّة للحب!!

 

والشفرات اللغوية في التكوين الشعري السابق تقودنا إلى اكتشاف ملامح القضية التي يواصل الشاعر البحث عن معالمها وهو يتجول في تضاريسه.. وهي تكمن في الصراع حول الوجود في عصر لا يعترف إلا بوجود الأقوى.. ومن هذه الشفرات المتناثرة في الفضاء الشعري (حسن دفاع الأعداء- زلازل القلب- أعناب اليمن ـ تمر الشام ـ أقدام العبرانيات ـ أحلام الكنعانيات ـ ملح المتوسط).

 

وفي هذه التكوينات اللغوية تطلّ كثير من قضايا العصر برؤوسها.. وهي تتكاثر وتتماوج في وجدان الشاعر ، وفي عقله الباطن ، وهي دائرة متشابكة الأطراف ، متداخلة الرؤى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply