لقد كان وراء كلّ مذهب أدبيّ عرفه الغرب قديماً وحديثاً مذهب فلسفيُّ يمدّه بالتصوّرات والأشكال والمعاني، ويرسم له مصادر الجمال وموازينه. فالمذهب الأدبيّ الكلاسيكي كان وراءه بعض المذاهب الفلسفية اليونانيّة والرومانيّة. فاعتمد هذا المذهب تقديس الأقدمين وسيادة العقل على العاطفة. والمذهب الرومانسي قام على أفكار جان جاك روسو وشاتوبريان وغيرهما. والمذهب الواقعي تأثّر بالفلسفة التجريبية وفلسفة إيمانويل كانت وغيرهما. ثمّ توالت المذاهب الأدبيّة ينقض بعضها بعضاً، كما توالت المذاهب الفلسفية معها. فجاء المذهب البرناسي والمذهب الرمزي ومذاهب الحداثة الأخرى، ثمّ البنيوية والتفكيكية وغير ذلك.
فإذا حقَّ لهذه المذاهب الفلسفيّة أن تدفع مذاهب أدبية وتصوغ لها تصوّراتها، فإن الإسلام له الحقّ الأول في أن يدفع للبشرية أدباً نابعاً منه تصوّراً وفكراً ولغةً وجمالاً. هذا الأدب هو الأدب الذي يلتزم الإسلام حقيقة لا شعاراً وزخارف. ولا يستطيع الأدب أن يلتزم الإسلام إلا إذا التزم الأديب نفسه الإسلام، ليكون الأدب صوراً حقيقية ملتزمة بفكر وعاطفة وسلوك، وبنهج وبذل وعطاء.
لقد مثّل هذا الأدبَ الملتزمَ بالإسلام شعراءُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخطباءُ المسلمين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين. وامتدت القافلة مع الزمن بعد ذلك بين قوة وضعف على قدر المواهب والظروف التي تمرّ بها الأمة.
وكان جميع هؤلاء ينهلون من منهل عذب واحد لا ينفد أبداً. كانوا ينهلون من الكتاب والسنة من خلال مصاحبة منهجيّة غنيّة ممتدّة في حياة المؤمن امتداد تدبّر ووعي، وامتداد ممارسة حيّة في الواقع.
لقد نقل الإسلام الأدب نُقلة واسعة جدّاً لم يحدث مثلها في التاريخ البشريّ. فقد نقل اللغة العربية من كونها لغة شعب واحد إلى كونها لغة الوحي المتنزّل من السماء ولغة القرآن الكريم، ولغة النبوة الخاتمة، ولغة العبادة لكل مسلم أبد الدهر. لقد أصبحت لغة الإنسان، الإنسان المسلم، لغة أمة واحدة امتدت أعظم امتداد عرفه التاريخ البشري. لقد أصبحت لغة رسالة ربّانيّة يحملها المؤمنون عبادة وطاعة لله على امتداد الأرض والزمان.
ونقل الإسلام الإنسان كذلك نُقلة واسعة جدّاً، حين أعطاه التصوّر الحقّ للكون والحياة، للدنيا والآخرة، للموت والبعث والحساب والجنة والنار. فدخلت هذه في صميم التصورات الأدبية ألفاظا وصياغةً ومعاني وظلالاً، فكراً وعاطفةً، بذلاً وأماني. ونقل الاقتصاد والسياسة والاجتماعَ ونظرياتها نقلة عظيمة كذلك.
ومع امتداد الرسالة نقل الإسلام المجتمع العربيّ كلّه هذه النُقلة الواسعة، ثمّ امتدّ لينقل الإنسانية كلّها، وما زال يمتدّ، على سنن ربّانيّة، وحكمة لله بالغة وقدر غالب وقضاء نافذ.
هذه النُقلة العظيمة للّغة والإنسان والمجتمع والأمة كلّها، وللفكر والتصور. هذه النُقلة العظيمة نقلت معها الأدب نقلة رائعة عظيمة، لا يكاد يدرك عظمتها إلا من يؤمن بالرسالة ويدرك الفرق الشاسع الهائل بين الجاهليّة وبين الإيمان والتوحيد.
إنّه الشرف العظيم للإنسان حين ينتقل هذه النقلة ويمتد معها، فَيُثري المجتمع البشري بالعطاء الحق والصلاح والخير، ويدفع عنه الشرّ والفتنة والفساد.
إن المصدر الحقّ للأدب الملتزم بالإسلام هو الكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية. إنه الأساس والمنطلق للفكر والتصوّر والممارسة والموقف. إن المنهاج الربانيّ ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ هو الحقّ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنه المنهج الكامل الشامل المترابط المتناسق. إنه النبع الغنيّ الصافي الذي لا ينقطع مدده أبداً، ماضياً مع الدهر، ليس للبشرية كلّها مصدر سواه يجمع لها الحقّ لتخضع له وتتبعه دون سواه. إنه النبع الذي ينهل منه الناس في مختلف ميادين الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبيّة وغيرها. إنه يجمع هذه الميادين كلّها في منهج واحد شامل، يبدو لك إن أردت التربية فكأنه كتاب خاص بالتربية، وإن أردت علم النفس فكأنه أعظم كتاب في علم النفس. وإن أردت السياسة أو الاجتماع أو الأدب أو غير ذلك فهو ما أردت. فكان من أهم مظاهر الإعجاز في كتاب الله جمعه هذه الميادين كلّها في منهج واحد، حتى ليبدو أن الإعجاز خاص وبارز بكلّ ميدان وحده، وفي الوقت نفسه يبدو الإعجاز في عظمة الجمع والتكامل، فجاء مع سائر نواحي الإعجاز في أسلوب معجز يتحدّى الله - سبحانه وتعالى - به الجنّ والإنس.
قدّمت الفلسفات المختلفة منذ القديم تصوّراتها في الفن والجمال. فجاءت هذه التصوّرات مضطربة متناقضة. فالجمال عند أفلاطون يُرَدٌّ إلى المثل الخالد وهو من بقايا ذكريات الروح، ويفسّر ذلك بنظرية المحاكاة. وأما أرسطو فنقض نظرية المحاكاة وعالم المثل واهتم بالواقع، وكان الجمال عنده تناسق التكوين.
وازداد الاضطراب مع الزمن. فربط \" بومجارتن \" في القرن الثامن عشر الجمال بالحسّ والشعور، ووضع مصطلح \" الاستطيقا Aesthetics \". والجمال عند \" ديدرو \" مبعثه إدراك العلاقات بين الأشياء وفرّق بين الجمال واللذّة. وجاء \" كانت \" ليدفع الفلسفة المثالية في الفنّ وفي الأدب والنقد دفعاً قوياً لتنتشر في أوروبا وأمريكا، وليعتبر الفنّ غاية في ذاته. فالعمل الفنيّ عنده له وجوده المستقل في ذاته. وتأثّر بهذه المدرسة كثيرون، منهم \" مدام دي ستايل \" و \" فكتور كوزان \" و \" تيوفيل جوتييه \". و \" جوتييه \" هو الذي يقول: \" لا وجود لشيء جميل حقاً إلا إذا كان لا فائدة له. وكلٌّ ما هو نافع قبيح \". ويرى \" فيخته\" الألماني، وهو تلميذ \" كانت \"، أن الفنّ هو تحرير الذات. ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: إِن الجمال هو في التأمل الخالص روحيَّـاً دون أن نمزج به إرادتنا، فألغى إرادة الإِنسان. ومضى هيجل في الفلسفة المثاليّة، وظنّ أن الفنّ مرَّ بمراحل ثلاث: الشرقي والمصري، اليوناني، النصراني، من خلال العلاقة بين الفكرة والمادة. ففي الفـنّ الشرقي والمصري طغت المادة على الفكرة فجاء الفنّ في أشياء ضخمة، وفي النصراني طغت الفكرة على المادة كما في الرومانسية، وأما في اليوناني فكان التوازن بين الفكرة والمادة فبلغ الفنّ أعظم درجاتِه، كما يظنّ ظناً باطلاً، وتجاهل في تَصَوٌّر الفنّ الشرقيّ رسالة الأنبياء الذين توالوا في التاريخ البشري وملؤوه. ورأى هيجل أن الجمال له وجوده المستقلّ، فيخالف الجمالُ بذلك الحقيقة. فالجمال له وجود حسِّي عنده، والحقيقة لها وجود ذهني. وجاء بعد ذلك \" بندتو كروتشيه \" الذي يرى أن الفنّ ليس محاكاة للطبيعة بل هو مستقل عنها، والعمـل الفنّي ليس ثمرة العاطفة والشعور، ولكنه نتيجة ذكاء وفكرة وإرادة. ثم جاء \" ت. إِس. إِليوت \" وغيره ممن زادوا تناقض الأفكار واضطرابها حول الفن والجمال.
فإذا كانت هذه الفلسفات المتناقضة المضطربة قدّمت هذه التصورات المتناقضة المضطربة للفنّ والجمال، فإِنَّ الإِسلام أحقٌّ وأولى أن يقدّم تصوره للفنّ والجمال، وأن يُقدم نظرياته وقوانينه. ذلك أن تلك التصورات العَلمانيّة الوثنيّة الغربيّة تسلّلت إلى العالم الإسلامي حين وجدت الساحة تكاد تكون خلواً من منافسة حقيقية: وتبنَّى كثير من المسلمين تلك التصورات الغربية، وأصبحت أساس المناهج في دراسات الفن والجمال، ومصدر العطاء. فالتصور اليوناني الوثنيّ الذي تُرجِمَ خطأ بالملحمة ما زال معتمداً، وما زال بعض المسلمين يغضبون لمخالفة هذا التصور اليونانيّ الوثنيّ الذي تتبناّه الحَدَاثة كذلك، ولا يغضبون حين يُلغَى الوزن والقافية من الشعر العربي.
وإِذا كان لدراسة الفن والجمال في الغرب هذه المسيرة التي أوجزناها، فقد كان لها مسيرة أُخرى مغايرة في تاريخ المسلمين، مسيرة يُوجِّهها التصوّر الإِيمانّي، ويدفعها منهاج الله، وتغَذِّيها قلوب المؤمنين، فلا يقع الانحراف عن ذلك إلا لحظات خاطفة.
وعلينا اليوم، امتداداً لتاريخ المسلمين، أن نطرح تصوّرات عن الفنّ والجمال نابعة من منهاج الله، لتقف أمام التصوّرات المنحرفة.
فكما ذكرنا، فإنا نؤمن أن المنهاج الربانيّ ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ هو أساس الفكر والتصور والموقف والممارسة في جميع ميادين الحياة. والفنّ والأدب ميدان هام من هذا الميادين في الواقع البشري. فكيف ينظر الإِسلام إِلى الفنّ، ومن ثمّ إِلى الأدب، وكيف يكون الالتزام بالإِسلام هنا وهناك؟!
\" الفنّ هو التعبير عن قضيّة أو موضوع بوسيلة طاهرة مباحة، وبأسلوب يرقى بالتعبير إلى درجة من الجمال المؤثر في نفس الإِنسان، ومن ثمّ في واقعه، في المجتمع والأمة والناس بعامة، ليساهم الفنّ في بناء حضارة إيمانيّة طاهرة نظيفة، وحياة إنسانيَّةٍ, كريمة تنعم بالعدل والحقِّ، وتحفظ للإنسان كرامته التي كرّمه الله بها، وتحفظ حقوقه التي منحها الله له، وتوفّر الحرّية المنضبطة بضوابط الإسلام، وتوفّر المتعة الحلال التي أحلها الله لعباده، وتوفّر الأمن والأمان، وليعين هذا كله الإِنسان على الوفاء بعهده مع الله - سبحانه وتعالى -: عبادةً وأمانةً وخلافةً وعمارةً للأرض بالإيمان والتوحيد وحضارتهما، وذلك كله من خلال ممارسة منهاج الله ممارسة إِيمانيّة شاملة في جميع ميادين الحياة \"
فالفن إِذن يقوم على عناصر واضحة وأسس جليّة نوجزها بما يلي:
التعبير، الوسيلة، الأُسلوب، الأهداف، ليكون له رِسالة واضِحة في الحياة تُحدِّد له أهدافاً واضحة ودوراً جَلياً، يبلغها عندما تحقِّق عناصره مجتمعة الدرجة المرجُوَّة من الجمال المؤَثِّر. الفنّ في نظر الإِسلام عمل يعبد المؤمن به ربّه كما يعبده في كلّ أَعماله. ليحمل الفنّ الجمال الحق الذي يحبّه الله - سبحانه وتعالى -. فالفنّ والجمال ينطلقان من روح الإِسلام ونهجه، من الكتاب والسنّة، ليرسما لنا حقيقة هذا وذاك نظريّاً وممارسةً.
فلننظر كيف يُعلّمنا الإِسلام حقيقة الجمال، نعرضه هنا بصورة موجزة سريعة، حيث نجد التفصيلات كل التفصيلات وافية في منهاج الله:
فعن عبد الله بن مسعود عن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله جميل يحبّ الجمال) [أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما] (1)
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله جميل يحبّ الجمال ويحبٌّ أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس) [أخرجه البيهقي] (2)
وعن جابر بن عبد الله عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله جميل يحبّ الجمال ويحبٌّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها) [أخرجه الطبرانيّ في الأوسط](3)
وعن طلحة بن عبيد الله أََيضاً: (إِن الله - تعالى - جواد يُحبٌّ الجودَ ويحبٌّ معاليَ الأَخلاق ويكره سفسافها)
[أخرجه البيهقي في شعب الإِيمان](4)
والروايات كلها صحيحة. وبتكاملها تضيء لنا سبيل الجمال في الإِسلام: إن الله - تعالى -جميل، يحب الجمال، يحبٌّ أن يرى أثر نعمته على عبده، يحبٌّ معالي الأخلاق، إن الله جواد، يحبٌّ الجود. وتمتدّ سبيل الجمال في الإِسلام مع الآيات والأحاديث، حتى يكون الجمال هو ما يُحبٌّه الله والقبح هو ما يبغضه الله.
ويمتدٌّّ الجمال حتى ينتشر في الكون كله مشهدِه وغيبه. ففي الغيب جمال الجنة الذي يصفه لنا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: فعن أبي هريـرة - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قـال: (قال الله - عز وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاقرؤوا إِن شئتم: فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) [رواه الشيخان] (5)
وتمتدٌّ الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تصف الجنة الوصف الرائع، وتصف جمالها الأخاذ.
ثم يمتد الجمال في التصور الإِسلامي إِلى عالم المشهد. فتصف الآيات والأحاديث آيات الله في الكون الذي خلقه الله - سبحانه وتعالى -، فأتقن كلّ شيء خلقه: ((وَتَرى الجِبَالَ تحسَبُهَا جَامِدَةً وَهِي تمُرٌّ مَرَّ السَّحَابِ صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفعَلُونَ)) [النمل: 88]
ويمتدّ الجمال آيات بَينات في كلّ ما خلق الله إتقاناً وإحساناً وإِعجازاً. ثمّ يمتدّ إِلى الإنسان: ((لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ,. ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِليِنَ. إِلاَّ الَّذيِنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالَحِاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ ممُنونٍ,)) [التين: 4ـ 6]
ويمتدٌّ الجمال في الإنسان المؤمن. فإذا مصدر الجمال فيه إِيمانه. فتراه في جمال الفطرة التي فطره الله عليها، ثمّ في نفس الإِنسان المؤمن وخُلُقه، ثم في عمله، ثم في كلمته وبيانه: صبر جميل، صفح جميل، سراح جميل، هجر جميل، وغير ذلك. هكذا يمتد الجمال في تصّور المؤمن حتى إنه يعيش الجمال الحقَّ في أمره كله، على قدر إيمانه واتصاله بالكون وخالق الكون رب العالمين، يعيشه حياته كلها.
ويمتد الجمال إلى الكلمة والبيان، ليكون الأدب في الإسلام هو الأدب الملتزم التزام صدق ويقين، والتزام لغة ودين، والتزام شكل ومضمون.
ويصبح الأدب الملتزم بالإِسلام ثمرة تفاعل بين نوعين من الخصائص: الخصائص الإيمانيّة والخصائص الفنية. فلا يمكن الاستغناء أو إيثار واحدة على الأخرى. فلا بد من الخصائص الفنيّة لتجعل من الكلمة أدباً، ولابد من الخصائص الإيمانيّة ليكون الأدب ملتزماً بالإِسلام. وإن كان لا بدّ من التضحية، ولا داعـي للتضحية هنا، فنضحِّي بكل شيء من أجل الإِسلام والإِيمان وطاعة الله. والكلمة التي لا نعبد الله بها لسنا بحاجة لها فإنّها زُخرف عارض أو فتنة مفسدة.
إنَّ أهم معنى من معاني الالتزام في الأدب أن يعرف الأديب حقيقة \" العبادة \" التي خلقه الله لها، و \" الأمانة \" التي حملها، و\" الخلافة \" التي جُعِلت له، و \" العِمارة \" التي أُمِر بها. وإِن محور ذلك كله هو ممارسة منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ في واقع الحياة ممارسة إِيمانيّة تستكمل شروط العبادة والأمانة. إنّها مسؤولية كلّ مسلم قدر وسعه وطاقته الصادقة.
فالأديب المؤمن الصادق في إيمانه لا يمكن أن يطلق كلمة لا يعبد الله بها، لا نثراً ولا شعراً، ليكون من سمات هذا الكلام أنه طيّب يحبه الله، ويهدي عباده المؤمنين إِليه.
(وَهُدُوا إِلى الطَّيِّبِ مِنَ القَولِ وَهُدُوا إِلى صِرَاطِ الحَمِيدِ) [الحج: 24]
فيصبح الأدب الملتزم بالإِسلام بالنسبة للأديب المسلم عبادة لله وأداء أمانةٍ, وقياماً بالخلافة التي أُنيطت به ليُسَاهِمَ من خلال ذلك كلِّه بعمارة الأَرض بحضارة الإِيمان، وليكون كلّه على صراط مستقيم يمضي به إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنة ـ.
شتَّان بين أَديب يَنظُر إِلى الدنيا وقلبه معلَّق بها، وهي هدفه الحقيقيّ سواءً أعلنه أم أخفاه، وبين أديب يطرق أبواب الجنة وقلبه معلّق بالآخرة يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه. هل يُعقَل أَن يكون الأدب الذي يخرج من ذاك الأديب هو نفس الذي يخرج من هذا؟ !
في العالم العَلماني والوثني يكاد الجمال أن يكون جمال الشهوة ومتعتها الحرام. جسد المرأة العاري يمثل منذ أيام اليونان مصدر الجمال، وأساطير عشق \" الآلهة \" وما يدور معه من غضب بينهم وبين البشر، يُمثِّل صراعاً وأحداثاً كلها نسيج الخيال. منذ ذلك الوقت عبَّر اليونانيون والرومان عن تصورهم للجمال بالتماثيل الحجرية للرجل والمرأة و\" الآلهة \"، تماثيل تكشف العورات كشفاً يزيدها قُبحاً وفساداً. وامتدّ هذا التصور في الفكر الغربي إِلى ميادين الأدب والرسم، وامتدّ كذلك إلى بقاع مختلفة من الأرض مع المنحرفين في أجواء الفتنة والعَلمانيّة وأمثالها.
نهجان مختلفان كل الاختلاف في تصوّر الجمال وتصّور الأَدب وممارسة ذلك في واقع الحياة. إنهما نهجان: نهج الإِسلام والإِيمان والتوحيد، ونهج الوثنيّة والشرك والانحراف تحت أي اسم من الأسماء والمصطلحات ورد ذلك.
نهجـان قـد ميّز الرحمن بينهـما *** نهـج الـضلالة ونهج الحقِّ والرشدِ
لا يجمع الله نـهج المؤمنـين على *** نـهج الـفساد ولا صـدقاً على فَنَدِ
لذلك تجد أن النهج الإِيماني له مصطلحاته الخاصة المتميّزة، واستعمالاته الخاصة المتميّزة كذلك. فبالنسبة لمصطلح \" الجمال \" وما يرتبط به نجد أن منهاج الله يَـرِد فيه أربع مصطلحات، لكل منها ظِلاله وإيحاءاته الخاصة واستعماله الخاص. فكلمة \" الجمال \" لا تَرِد في منهاج إلا لتدلَّ على الحسن الطاهر النظيف الذي يحبٌّه الله كما ورد معنا قبل قليل. وهنالك كلمة \" الفتنة \" تُعبِّر عما هو غير صَالح ولا طاهر ولا نظيف، وعمَّا يُغري بالفساد ويدفع إلى الشرِّ والضلال. فالمرأة التي منحها الله شكلاً محبّباً مؤثراً في النفس نقول عنها \" جميلة \" ما دامت زوجة أو أماً أو أختاً ملتزمة بالطهر والصلاح الذي يُحبٌّه الله، ذلك لأن الله جميل يحبٌّ الجمال. وأَمّا إن كانت امرأة غير صالحة، فنقول إنها \" فتنة \" لأنها وقعت في الشر ودفعت إليه. هذا هو التصوّر الإِيماني للجمال والفتنة. وهناك لفظة أُخرى عامة لكل ما يُعطي بهجة وسروراً. إنها كلمة \" الزينة \".
(إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبلُوَهُم أَيٌّهُم أَحسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7]
فالزينة تنقسم قسمين: إما \" جمال \" و إما \" فتنة \". وانظر في هذه الآية الكريمة: (المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالَحِاتُ خَيرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً) [الكهف: 46]
ثم انظر في هذه الآية الكريمة أيضاً: (إِنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَاللهُ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ) [التغابن: 15]
ثم انظر في الأحاديث السابقة التي ورد فيها: (إن الله جميل يحب الجمال...)
وانظر كذلك في الآية الكريمة:
(وَالأَنعَامَ خَلَقَهَا لَكُم فِيهَا دِفءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنهَا تأكُلُونَ.وَلَكُم فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحيِنَ تَسرَحُونَ) [النحل: 5، 6]
وكلمة \" الحُسن \" تنزل في معناها وظلالها منزلة \" الجمال \" وحتى لا يكون الحسن والجمال إلا في الخير والصلاح، سواءً أكان ذلك في الشكل والخلقة أم في الكلمة أم في العمل أم في اللباس وأيّ ميدان آخر. فانظر في هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:
(الحمدُ للهِ الذَّي أَنزلَ عَلَى عَبدهِ الكتَابَ وَلَم يَجعَل لَّهُ عِوَجاً. قَيّماً لّيِنُذر بَأساً شَدِيـداً مِن لَّدُنهُ وَيُبشّر المؤُمِنينَ الّذِيِنَ يَعمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُم أَجراً حَسنَاً) [الكهف: 1، 2]
(خَلَـقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ بِالحقِّ وَصَوَّرَكُم فَأحسَنَ صُوَرَكُم وَإلَيهِ المصِيرُ) [التغابن: 3]
(فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدٌّنيَا وَحُسنَ ثَوَابِ الآخِرَة وَاللهُ يُحِبٌّ المُحسِنِين) [آل عمران: 148]
وكذلك: (الَّذِي أحسَنَ كُلَّ شَيءٍ, خَلقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ,) [السجدة: 7]
وعن عائشة - رضي الله عنها - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلُق درجة القائم الصائم) [أخرجه أبو داود وابن ماجه](6)
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله - تعالى -كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته)
[أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة](8)
وعن عائشة - رضي الله عنها - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يُحبٌّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقنه) [أخرجه البيهقي في شعب الإِيمان](9)
وهكذا نرى أن \" الجمال \" و\"الحسن \" لفظتان اختصَّتا بما هو صالح طيّب يحبه الله - سبحانه وتعالى -، وأن الفتنة لفظة اختَّصت بما هو شرُّ خبيث، وأن \" الزينة \" لفظة عامة يبتلي الله بها عبـاده، فإن اتجهوا بها للخير فهي حُسن وجمال، وإن اتجهوا بها للشرِّ فهي \" فتنة \".
ونرى كذلك أنّ الجمال في الأدب لا ينفصل عن الجمال في الحياة كلّها، فالجمال في نظر الإسلام أمر يُحبّه الله، فمدَّه في الحياة نهجاً مترابطاً في: حديث النفس، في الكلمة، في الموقف، في العمل، وفي كلّ ميدان. وربّما يقول رجل فاسقٌ كلمة يَبدو لنا فيها جمال فنيّ حسب تصوّرنا، ولكنّها في ميزان الإسلام قد تكون باب فتنة وإفساد فَقَدَت عناصر الجمال الذي يُحبّه الله.
وهناك لفظة أخرى ترد في كتاب الله، هي كلمة \" الزٌّخرف \"، فهي قريبة الدلالة من كلمة \" الزينة \"، إِلا أنها تحمل إلإِيحاء بالتهوين والتقليل من شأن ذلك الزخرف، وترتبط بالدنيا ولا حظَّ لها في الآخرة: (وَلِبيُوتِهِم أَبوَاباً وَسُرُراً عَلَيهَـا يَتَّكِئِونَ. وَزُخرُفاً وإن كُلٌّ ذَلِكَ لمَّا مَتَاع الحَيَاةِ الدٌّنيَـا واَلآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلمُتَّقِينَ) [الزخرف: 34، 35]
(وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلَ نَبِيٍّ, عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ, زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً وَلَو شَاءَ رَبٌّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا يَفتَرُونَ) [الأنعام: 112]
فالأدب إذاً أعظم أبواب الفنّ وأشرفها، حتى يكاد يكون هو جوهر الفنّ، والفنّ هو جوهر الأدب. والأدب هو فنّ التعبير باللغة، بالكلمة، بالبيان، ليكون هذا البيان نعمة من الله على الإنسان وآية من آياته:
(الرَّحمَنُ. عَلَّمَ القُرآنَ. خَلَقَ الإِنسانَ. عَلَّمَهُ البَيَانَ) [الرحمن: 1ـ4]
فالأدب الملتزم بالإِسلام يتميّز بالجمال كما يعرضه الإِسلام. لا يتميز بالفتنة ولا بالزخرف. إنه زينة طاهرة اتجه بها الأديب المؤمن إلى ميدان الطهارة فكان حُسناً وكان جمالاً تحمله رسالة ربّانيّة إلى الناس كافّة.
وكيف يتولّد النص الأدبي من الأديب المؤمن ليحمل هذا الجمال. إنه ينطلق من قلب المؤمن ومن فطرته التي فطره الله عليها، دون أن تفسد أو تشوَّه بالآثام والمعاصي والفساد الممتد، حتى يَرِينَ عليها ما يكسب الإِنسان من إثم وفجور. الأدب وجماله ومضة تنطلق من تفاعـل القوى المختلفة في فطرة الإنسان، حيث نعتبر الفطرة هي مستودع هذه القوى المختلفة المتنوعة التي وهبها الله للإنسان. وأهم هذه القوى الإِيمان والتوحيد الذي يكوِّن النبعَ الغنيّ الصافي ليرويَ جميع القوى الأخُرى ريّاً عادلاً متوازناً حتى تؤدّي كلّ قوة دورها الذي خُلقت له. والنيّة الخالصة لله هي التي تفتح هذا النبع عند كل فكر وعمل لينطلق الريٌّ المتوازن العادل. فإن فسدت النيّة انقطع الريّ من هذا النبع الغنيّ، وانفتح نبع آخر من قوى الفتنة والفساد، حين تنمو إحدى القوى، كالشهوة مثلاً، نمواً زائداً طاغياً غير متوازن، فيؤثر فسادها على سائر القوى.
(وَنَفسٍ, وَمَا سَوَّاها. فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا. قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7 ـ 10]
إن هذه القوى في فطرة الإِنسان تعمل بطريقة ربّانيّة نعلم القليل عنها وعن القوى التي تعمل فيها، ونجهل الكثير. ولكننا نستطيع أن نقول إن هناك قوّتين رئيستين في الفطرة: قوة الفكر والتفكر والعقل، وقوة الشعور والعاطفة. وكلُّ منهما تتأثر بما يكتسبه الإِنسان من الواقع من تجارب وعلوم وأحداث. ويمكن أن نشبه هاتين القوتين بقطبين تتجمع عليهما شحنات الواقع من تجارب وأحداث وعلوم. وإذا صدقت النيّة، فهذه كلها تُروى بريّ الإِيمان وتصفّى بمصفاته.
ففي لحظة معيّنة محدّدة بقدر الله، تنمو هذه الشحنات في الأديب المؤمن إلى درجة تصبح معها قابلة للتفاعل، تفاعل الفكر وشحناته وتفاعل العاطفة وشحناتها. فتأتي قوة أُخرى إذا توافرت بنعمة من الله لدى الأديب المؤمن، وهي الموهبة المحدّدة بنوعها وطاقتها، تأتي في اللحظة المحدّدة فتثير التفاعل بين القوّتين وشحناتهما وتنطلق الومضة من هذا التفاعل، غنيّة على قدر غنى القوتين وشحناتهما وعلى غِنَى الموهبة ذاتها. هذه الومضة التي تنطلق من هذا التفاعل تحمل الإِحسان والإِبداع، هي الأدب الملتزم بالإِسلام. إن هذه الومضة هي ثمرة تفاعل جميع القوى العاملة في الإِنسان مما نعلم ومما لا نعلم، تفاعل يمضي بطريقة ربّانيّة. وذكرنا هنا القوى التي عرفنا وجودها في الفطرة والتي علَّمنا إياها الله - سبحانه وتعالى -.
إن هذه الومضة أو الشعلة تخرج وهي تحمل الجمال الذي يحبّه الله ويحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحبّه المؤمنون. إِنها تحمله في النصّ الأدبي الفني الذي تولَّد حسب ما أوجزناه.
ومن خلال هذا التفاعل يتم معه تفاعل آخر. إنه تفاعل الخصائص الإِيمانيَّة المستقرّة في الفطرة والخصائص الفنيّة العاملة في الفطرة مع القوى الأخرى. إن هذا التفاعل بين الخصائص الإِيمانيّة والفنيّة هو الذي يهب النصّ الأدبيّ الفنّي حظَّه من الجمال الذي يحسّ به المؤمن، الجمال الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنون.
لا يكون الأدب والفنّ والجمال ثمرة العاطفة وحدها، كما يرى بعضهم، ولا ثمرة الفكر وحده كما يرى آخرون. إنه ثمرة التفاعل بين الفكر والعاطفة وما يحمل كل منهما من زاد من الواقع وعلومه وخبراته، وما وضع الله في فطرة الإِنسان من قوى أخرى كالموهبة أو غيرها.
إن التصور يسهل إدراكه حين يستوعب ما أسميه \" قانون الفطرة \" (10)، القانون الذي نتعلمه من الكتاب والسنة، والذي يعمل في جميع ميادين نشاط الإنسان، والذي يمكن أن تنبثق عنه نظريات متعدِّدة في الأدب والنقد، والتربية وعلم النفس، وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع، وغير ذلك.
----------------------------------------
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته: (ط: 3): (رقم: 1741).
(2) المصدر السابق: (رقم: 1742).
(3) المصدر السابق (رقم: 1743).
(4) المصدر السابق (رقم: 1744.
(5) البخاري: 59/8/3244.
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته: (ط: 3): (رقم: 1932).
(8) المصدر السابق: (رقم: 1795).
(9) المصدر السابق: (رقم: 1800).
(10) تراجع الكتب التالية: \"الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته \"، \" التربية في الإسلام: النظرية والمنهج \"، \" النهج الإيماني للتفكير \" للدكتور عدنان علي رضا النحوي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد