أسرار النظم عند الجرجاني


  

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت أمني نفسي وأنا في بدايات دراستي الجامعية أن ننظر إلى البلاغة والنحو بعقلية تذوقية أكثر مما نحن فيه من السّرد غير المقنع للتعليلات اللغوية، و أن ننظر نظرة تذوقيّة تمكننا من ربط التعليلات بالفن، وتمكننا من الغوص في النصوص والامتزاج معها واكتشاف أسرارها، ولم يتسنّ لي في ذلك الوقت أن أنظر إلى الدراسات المهتمة في هذا المجال، والتي من أبرزها: دراسات عبد القاهر الجرجاني، وبالتحديد نظرية النظم.

ونما عندي هذا الاهتمام حتى كونت مكتبة صغيرة تحوي ما قيل عنها وحرصي بها دفعني أيضاً إلى أن أنقل القارئ الكريم إلى شيء من أسرارها، ولم تكن دراستي لها حصريّة لعلمي أن الموضوع متشعب وطويل، ولكن ما كتبته يمثل مقالاً تطبيقياً ونقاطاً حاولت أن أنقل ما يريد الجرجاني بها، ولأنها تمثل حاجة في نفسي وحبي للتعليل الفني، فلقد حاولت أن استحضر أمثلة من الواقع ومبسطة لغير المتخصص.

ما أريد هو النظم بذاته عند عبقري البلاغة الجرجاني فقط، ونظريته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وسبقت عصرها، وأحببت أن أوسع مداركي أولاً لأني أهوى الغوص في الدلالات النحوية وهي صلب هذه النظرية.

ومما زاد الطين بلة أنني لم أجد دراسات متخصصة ضافية لما أردت بل القوائم التي استطعت أن أجمعها خليط مقالات سابقة، وما علق في الذهن أثناء دراستي في كلية اللغة العربية، ولا أنسى كتابي الجرجاني الدلائل والأسرار.

أولاً: النظم تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض (1) قال شوقي ضيف - رحمه الله - أنها توخي المعاني النحوية في الكلام، وربط العربية بعضها ببعض(2)

ثانياً: أول من تكلم بها ربما يكون أرسطو في كتابه فن الشعر(3) كما تحدث عنها الجاحظ وابن المقفع بعد ذلك ولم يتفطن إليها بأبعادها وأسرارها الواسعة آنذاك سوى الجرجاني.

ثالثاً: منشؤها: جاءت لمتطلبات إعجاز القرآن العظيم حتى إن بعض العلماء ربط إعجاز القرآن بالنظم كما فعل الجرجاني.

رابعاً: إنها تتصل اتصالاً وثيقاً بالتقديم والتأخير ودلالاته، وهذا سرّ تميزها، فمثلاً إن جاء زيد من الناس لا يهمك مجيئه فتقول: جاء زيد وإن كان يهمك كالقادم من السفر مثلاً فتبدأ به وتقول: زيد قادم هذا من حيث الأهمية، وربما يُقدم لأغراض أخرى المهم أنه لا يجعل التقديم والتأخير اعتباطياً بل له دلالاته.

خامساً: أنها تهتم بالتصريف فكل تصريف له دلالته فـ (انطلق) غير (منطلق) فالأولى تفيد الاستمرار والثانية تفيد الثبات.

سادساً: لا ينتهي الجرجاني عند هذه النقطة، بل يبحث في المفهوم الدلالي الذي تقتضيه فصاحة المخاطب سابقه أو لاحقه رفعاً ونصباً وجراً فالرفع بعد الفعل يدل على الفاعل، والفاعل يدل على من عمل الفعل، ومن ذلك تستطيع أن تقرّب هذه القواعد إلى أذهاننا(4).

بعد ذلك أتعجب كلما قرأت له وهو يغوص في الآية القرآنية أو البيت من الشعر ثم تحس أنك أمام شخص يدرك لغته، ويدرك ما يقرأ وأبعاد ما يقرأ، ولعلي أقف على مثال واحد وهو قراءته لبيت أبي تمام (5)

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري(6)الجنى اشتارته(7) أيد عواسل

يقول - رحمه الله -: (إن لعاب الأفاعي مبتدأ ولعابه خبر كما يوهمه الظاهر، أفسدت عليه كلامه وأبطلت الصورة التي أرادها فيه، وذلك أن الغرض أن يشبه مداده بأري الجنى على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقه عندها، وأدخل السرور واللذة عليها، وهذا المعنى إنما يكون إذا كان لعابه مبتدأ ولعاب الأفاعي خبراً(8)

هذه الدقة المتناهية في التدقيق الدلالي في القراءة السابقة يوضح عمقاً،

وتقصياً عجيباً، يجعلنا نحترم هذه اللغة من جهة، وهذا العالم من جهة أخرى.

ينتج من كلامي السابق أن النظرية تتعلق تعلقاً وثيقاً بالنحو، بل هي النحو ببعده الأعمق، فعندما يحدّد النحوي الفعل والفاعل يأتي دور البليغ ليحدد الرتبة ودورها في المعاني والسفر وراء الدلالات النحوية والأغراض.

أخيراً لم أكن لأضيف شيئاً في مقالي هذا، بل أردت أن أنقل هذا العمق الدلالي بأسلوب مبسط وأمثلة قريبة من الواقع الحي، ثم لتدرك أخي أن الجرجاني أراد في (النظم) أن ندقق في البنية اللغوية، وأن ندرك أسرارها، ونعي كل حركاتها لندرك سر إعجاز القرآن، و سر عربيتنا وهذا الكلام ثريº لأنه سينقلنا إلى لغتنا بأسلوب مبسط نتفهمه ونفهمه أجيالنا، وهذا الكلام أيضاً كما قلت قد سبق عصره لدقته وشموله وثرائه.

 

----------------------------------------

1- عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده للدكتور: أحمد مطلوب

2- البلاغة تطور وتأريخ للدكتور شوقي ضيف

3- أرسطو شاعر وناقد يوناني قبل الميلاد وفن الشعر كتابه الذي جمع فيه آراءه

4-مقالات في الشبكة

5 حبيب بن أوس الطائي شاعر عباسي يهتم بالمعنى وهذا سر اهتمام الجرجاني به.

6- الأرى العسل

7- أي لزق فيها

8- دلائل الأعجاز لعبد القاهر الجرجاني

وأيضاً استفد من:

البحث البلاغي للدكتورة عائشة فريد

أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply