طرائف من المدح في التراث


 

بسم الله الرحمن الرحيم

غصت كتب الأدب والتراث العربي بقصص كثيرة من المدح وطرائفه وفي السطور التالية نقتطف مجموعة من طرائف المدح التراثية ففيها إلى جانب المتعة الكثير من العبر والدروس المستفادة.

 

وفد شاعر على أحد الولاة وألقى بين يديه قصيدة مدح للوالي، ضمنها كل المعاني التي تسر سامعها وكان الوالي كلما سره الشاعر بمعنى جديد يزيد له جائزته حتى وصلت الجائزة إلى مئة ألف دينار.

وبات الشاعر ليلته يحلم بالجائزة ويمني النفس بأنه أصبح من أهل الثروات ولما أصبح الصبح أسرع لخازن بيت مال الوالي طالبا جائزته لكن الخازن رفض إعطاءه شيئا وأحاله للوالي الذي برر موقف الخازن قائلا:

- أنا لم آمر الخازن بإعطائك أي مال؟

- فقال الشاعر: ولكن يا مولاي أمرت لي بجائزة قدرها مئة ألف دينار بالأمس مكافأة لي على قصيدة المدح التي قلتها فيك.

- فقال الوالي: لقد سررتنا بكلام وهو الشعر فسررناك بكلام عن الجائزة، فأما أن يكون الكلام بفعال فهذا هو الجنون الصريح وصرفه.

 

العامرية: أمدحه بما ليس فيه لأنال منه ما أرتضيه

اشتكت زوجة أحد الشعراء لأمها من سوء طباع زوجها وسرعة غضبه إضافة إلى أنه إذا غضب منها يمنع عنها كل ما يعرف أنها تحبه أو تسر فيه، فسألتها أمها:

وماذا تفعلين في مثل هذه الحالة؟

فأجابت الزوجة: أحبس نفسي في مخدعي حتى يرضى عني ويشفق على حالي. لكنني بدأت أضيق ذرعا بهذا الأمر ولهذا طلبت منك المشورة.

 

فقالت لها أمها: لقد كان أبوك حاد الطباع شديد الغضب سيئ المعشر ومع ذلك فقد كنت أحسن التعامل معه وأحوز دائماً على رضاه، فاستغربت الابنة من كلامها وسألتها عن السبيل لذلك، فقالت الأم: كنت إذا أردت منه شيئاً ثمينا مثلا أمهد قبل أسبوع من طلبي بمدح كرمه وجوده، وأنه مثل الريح المرسلة، وكالبحر، وكحاتم الطائي، وأن العرب لم تعرف كريما مثله، حتى إذا طلبت غايتي كان أعجز عن أن يرد طلبي خجلا من الصفات التي أكثرت من ترديدها على مسامعه والتي تصب كلها في أنه الكريم المعطاء الجواد، وإذا قمت بما يغضبه عاجلته بكلمات عن هدوئه وتحمله وصبره وسعة أفقه، وأنه الوعاء الواسع الذي يحتويني، وأنه الملجأ الذي يحميني، وأني طفلته الخطاءة وهو الحليم كاظم الغيظ فيهدأ ويغفر لي خطئي.

وإذا حدث وغضب مني في تقصير أو أمر فعلته فإنني لا أتركه وأحبس نفسي في غرفتي كما تفعلين، وإنما أتطيب له وألبس أجمل ثيابي وأتزين كامل زينتي وأبادره بكلمات عن طيبة قلبه وغفرانه وأنه المسامح العطوف وذو القلب الكبير، وأقر له بخطئي وأعترف بتقصيري، فلا يلبث أن يصفو ويسامح وتعود الأمور بيننا إلى مجاريها.

فأنا يا بنتي كنت أمدحه بما ليس فيه لأنال منه ما أرتضيه، وعليك أن تفعلي مثلي إن كنت تريدين لحياتك مع زوجك أن تسير على خير حال.

 

مفهوم المدح:

المدح لغة هو نقيض الهجاء، وهو حسن الثناء، وتمدح الرجل أي تكلف أن يمدح، وتمدح الرجل بما ليس عنده: تشبع وافتخر.

ويقال: فلان يمتدح إذا كان يقرظ نفسه ويثني عليها. والمادح عكس المقابح.

والمدح في الشعر هو أن يقوم شاعر بذكر محاسن ممدوحه، ومدح الميت يسمى رثاء، ومدح صفات الحبيب الشكلية والمعنوية إذا خالط هذا المدح شعور الحب يسمى غزلا.

 

ويروي أن الشاعر على بن الجهم وفد إلى الخليفة العباسي المتوكل وأراد مدحه فقال له في مجلسه:

أنت كالكلب في حفاظك للود *** وكالتيس في قراع الخطوب

أنت كالدلو لا عدمناك دلوا *** من كبار الدلاء كثير الذنوب

 

فثارت ثائرة من في المجلس ونهضوا إليه يريدون الفتك به، لكن المتوكل فهم أن الشاعر ينطلق من المعاني المألوفة لديه في حياته القاسية، فأمر أن يسكن في أحد القصور على نهر دجلة وتقوم على خدمته الجواري، وبعد شهور من سكنه الجديد وقف بين يدي المتوكل يمدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها:

 

عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن *** سلوت ولكن زدن جمرا على جمر

ثم ينتقل بعد هذه المقدمة الرقيقة إلى مدح المتوكل بأبيات في غاية الروعة والجمال يقول فيها:

به سلم الإسلام من كل ملحد  *** وحل بأهل الزيغ قاصمة الظهر

إمام هدى جليّ عن الدين بعدما  *** تعادت على أشياعه شيع الكفر

وفرق شمل المال جود يمينه *** على أنه أبقى له أحسنَ الذكر

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply