عصر نهاية الإقراض


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أسرع مرور الأيام، ها هي أيام بداية العام الدراسي تعود، قال في نفسه: حقًا ما أسرع مرور الأيام، ولكن ما أطول أيام بداية العام الدراسي! ها هي الضائقة المالية القصوى قد أتت، الرسوم الدراسية، الملابس الجديدة، الأحذية، فضلاً عن الأدوات المدرسية وغيرها، كل عام ترتفع رسوم المدارس ويشتد الغلاء، وراتبه لا يزيد والأولاد ثمانية.

ككل عام يتكرر نفس الحوار بينه وبين زملائه الموظفين الذين يمرون بنفس الظروف القاسية، جميعهم يغبطونه على ابن عمه الثري الذي يقرضه في مثل هذا الوقت من كل عام، في حين لا يجدون هم من يقرضهم فيلجؤون إلى البنك فتزيدهم الفائدة فقرًا على فقر، ثم يذكر كل منهم مبلغ الفائدة الذي ذهب من راتبه إلى البنك، وفي نهاية الحديث يشكر هو الله كثيرًا لأنه لم يذهب إلى البنك قط، ويدعو لابن عمه كثيرًا.

رن جرس الباب الخارجي، واستحضر ابتسامة ليقابل بها بشاشة ابن عمه المعهودة، وانتظر حتى يخرج ويجتاز الحديقة حتى يصل إليه، فتح الباب ولكنه لم يجد البشاشة، دعاه إلى الدخول ومشى أمامه صامتًا، ولم يتلفظ بأي عبارة من عبارات الترحيب التي كان يرددها كل عام طوال فترة عبور الحديقة حتى الوصول إلى غرفة الاستقبال الواسعة، دخل ابن عمه ليحضر الشاي وظل هو يفكر في سبب هذا الاستقبال غير المعتاد، إنه يعلم تمامًا أنه لم يحدث لقريبه أو لأحد بنيه أي مكروه، ويعلم أن ماله في زيادة دائمة، فماذا حدث! جاء ابن عمه بالشاي وجلس، بدأ الكلام بإبلاغ سلام زوجته وأولاده، ثم قال إنني بحاجة إلى خمسمائة جنيه على أن أردها بعد مرور ضائقة بداية العام الدراسي، فرد عليه سريعًا: معذرة لن أستطيع إقراضك.

- لماذا؟!

- لأنني وضعت ما معي من أموال نقدية في البنك بالفائدة.

- كيف هذا وقد كنت من أشد المعارضين للفائدة وكنت ملاذ المحتاجين؟!

- لقد تغيرت الظروف وتغير الحكم.

- كيف؟!

- لقد أفتى العالم بحل الفائدة وقال «إن الدين يسر».

- لقد فهمت الفتوى خطأ، إن العالم يقول: «إن الدين يسر» بمعنى أن يقرض الغني الفقير.

- بل فهمتها جيدًا، فالعالم يريد التيسير على الغني لكي تدر أمواله عليه ربحًا.

- أيعقل أن يكون هذا هو اليسر عند العالم؟! أرجوك راجع الفتوى جيدًا.

- أقول فهمتها جيدًا، إن العالم استدل باليسر في معرض تدليله على حل الفائدة.

- والفقير؟

- له الزكاة والصدقات.

- أسمع كثيرًا أننا في عصر النهايات، فهل صرنا في عصر نهاية الإقراض بين الناس؟ أم سيستمر الإقراض بينهم ولكن بنفس فائدة البنك؟!

سمع ابن عمه العبارة الأخيرة واحمر وجهه غضبًا، فاضطر إلى الانصراف من أمامه، ولكن لم يمكن خروجه هذه المرة مثل كل المرات السابقة، فقد وجد نفسه يقلب عينيه في كل شيء في المنزل، الأثاث الفاخر، السجاد الثمين، ما أوسع البيت، ما أجمل الحديقة، هذا الباب الخارجي كلفته تعادل راتبه لسنوات، ماذا حدث له؟! لقد كان في المرات السابقة يدخل ويخرج دون ملاحظة شيء من ذلك كله.

عاد إلى البيت حزينًا، ولكن أنّى للأطفال الانتباه إلى حال الآباء، فهم طوال الوقت يلحون على قضاء حوائجهم حالاً، ما جعله لا يطيق البقاء في البيت ولو قليلاً. لاحظت زوجته ذلك فسألته فأخبرها عما حدث، فحزنت وتمنت لو بقي من حليها شيء ولكن هيهات.

انسدت أمامه كل السبل إلا طريق البنك، تمنى لو لم يتزوج وينجب حتى لا يلجأ إلى هذا العمل، فليتجرع هذا السم مضطرًا، طلب من عدد من زملائه الذهاب معه إلى البنك لضمانه، ولكنهم رفضوا جميعًا وذكروه بأنه لم يمكن يضمنهم وكان يرفض دخول البنك نهائيًا، وأخيرًا اتفق مع أحدهم على ضمانه نظير مبلغ مالي.

أنهى إجراءات القرض ولم يبق إلا الاتجاه إلى الصراف ليأخذ المال، توجه إلى شباك الصراف فوجد زحامًا، ووجد العملاء يقفون في طابور متلاصقين أمام الصراف الذي يتعامل مع واحد من كل طابور بالتبادل، الطابور الأول هم المودعون يعطون الصراف المال ويعطيهم إيصالاً بالمبلغ، والطابون الثاني هم المقترضون يعطون الصراف ورقة القرض مستوفاة ويعطيهم المال. كانت حركة الصراف بطيئة جدًا، فالصراف يعد المال الذي يستلمه مرتين وكذلك المال الذي يسلمه مرتين!! صار أخيرًا أمام الصراف مباشرة، أخذ الصراف المال من المودع في الطابور الأول، عده مرتين، ثم أعطاه هو من هذا المبلغ قيمة القرض وطلب منه التأكد من العدد حتى يستخرج الإيصال للمودع، وجد العد صحيحًا ودار لليمين لينصرف، أعطى الصراف الإيصال للمودع ودار لليسار لينصرف، تلاقى وجه المودع والمقترض، نظر في وجه المودع فإذا هو ابن عمه!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply