منذ ثلاثة شهور وأنا أعاني فقر الدم، عندما أمد يدي لأصافح أحدا، يراها تخفق بسبب الارتجاف ويصوّب نظرة شفقة إلي . كل الذين يروني يراهنون بأنني على وشك الموت بسبب هذا الصفار الطافح في وجهي، وتتراود إلى سمعي همساتهم: إنه صفار الموت . وعندما أمشي ساعة على قدمَي، أشعر بدوّار في رأسي وإنهاك في مفاصلي، فأغمض عينَي وأبرك حيثما ترميني قدماي مستسلما للموت، لكنني بعد نصف ساعة من الاستلقاء على الظهر أفتح عيني فأكتشف بأنني ما أزال حيا، أستعين بما في جسدي من بقايا قوة خائرة وأنهض ماشيا إلى أن ترميني قدماي بعد ساعة أخرى من المشي . هذا هو قدري، وهذا هو الأمل الوحيد الذي أتمسك به كل ساعة من ساعات عمري، فأنا لا أدور في الطرقات عبثا، بل أبحث عن عمل يمكن أن أقوم به لقاء مبلغ يمكّنني من شراء اللحم والبيض والحلويات والفاكهة واللوز، فقد قال لي الطبيب بأنني لا أحتاج إلى أدوية قدر حاجتي إلى التغذية الجيدة، إضافة إلى الاستحمام بصابون غار ممتاز ذو رائحة طيبة مرة كل يومين لأن لا مرض بي، وكل ما أعانيه هو فقر دم أتاني بسبب سوء التغذية . طبطب الحكيم على كتفي قائلا: أنت معافى يا بطل، ما عليك سوى أن تكثر من الطعام الذي وصفته لك . وكتب لي أنواع الطعام على وصفة طبية أحتفظ بها في جيبي حتى لا أنساها . مضت ثلاثة شهور على وجود هذه الوصفة الطبية في جيبي دون أن أتمكن من استخدام جزء منها، جبت شوارع المدينة عشرات المرات، ودخلت كل المحال سائلا عن عمل دون فائدة، عندما أمضي بجانب مطعم وأرى الناس في الداخل يأكلون اللحم المشوي أقف في المدخل لعل صاحب المطعم يكلفني بعمل فيعطيني لقاء ذلك قطعة لحم على خبز، وأتخيلني جالسا كالجلسين في الداخل وأشبع لحما ولو مرة واحدة بيد أن أجير المطعم يوقظني من الحلم بركلة ويدفع بي بعيدا عن حلمي . أعرف بأنهم لا يتضايقون من ثيابي الرثة، أو من الرائحة الكريهة التي تفوح مني، أو من شحوب وجهي، لأنني أرى في الداخل المرضى، وكذلك الذين يعملون في تغيير زيوت وشحوم السيارات، والذين يعملون في المنطقة الصناعية بثيابهم وروائحهم الغارقة في الشحوم والزيوت والأتربة، أراهم يُستقبلون ويوَدَعون بالترحاب من قِبل أصحاب المطاعم ومن جميع العاملين وحتى من الجالسين . وهذا ما يحدث لي عندما أقف أمام بائع صابون الغار وأشم الرائحة الطيبة وأتخيلني أستحم بقطعة تزيل عن جسدي الرائحة الكريهة وتستبدلها برائحة طيبة، أو عندما أقف أمام بائع الخضار والفاكهة، أو بائع المكسرات . وكأن الناس يتحاشون النظر إلي، يتحاشون الاقتراب مني، ولكنني أواظب على الخروج من بيتي عند طلوع الشمس ولا أعود إليه إلا مع الغروب .
دوما أقول بأن رحمة ربي وسعت كل شيء ولابد من الصبر على هذا الحرمان، إن أبواب الرزق واسعة وعليّ ألا أيأس وأنا ما أزال في مقتبل العمر بعد أن توفي والداي وتركاني وحيدا في هذا العالم .
لدى مروري أمام بائع السمك استوقفني منظر رجل يوقف دراجته الهوائية أمام المحل، ثم يفك من المقعد الخلفي كيسا من الخيش، ويناوله لصاحب المحل . دفعتني رغبة الاستطلاع لرؤية ما بداخل الكيس، فدنوت ورأيت صاحب المحل يفك الكيس ويُخرج منه سمكا، ثم يزنه ويمد يده إلى آلة حاسبة يدق عليها وينقده مبلغا من المال، يتناوله صاحب الدراجة ويعود راكبا دراجته . فعرفت بأنه صياد سمك و لا أدري ما الذي دفعني لأصيح به وقد ابتعد قليلا عن المحل: يا أخ .. يا أخ . فالتفت وقد تمهل بدراجته، قلت له: لو سمحت يا أخ انتظر . فوقف الرجل، وخطوت إليه، ألقيت عليه: السلام وسألته على الفور إن كان بحاجة إلى مساعد ليعينه في اصطياد السمك . فقال بأنه لا يحتاج إلى من يعينه لأن العملية لا تحتاج إلى أكثر من شخص . فقلت: كيف ..؟ ! .
قال: يا أخي أنا أصطاد السمك بواسطة صِّـنَّارة . قلت هل يمكن لي أن أعمل في ذلك؟ . قال بأن النهر واسع وفيه من رحمة الله ما يكفي كل صياد . ثم نظر إلي وقال: لكن لا تذهب إلى النهر في الليل، اذهب منذ الصباح، لأن النهار وضوح . عند ذاك رأيت على الدراجة خيطا فيه قطعة فلّين، وبرأسه صنارة وقد تم لفه على عصا من الزل . شكرته وخطرَت لي فكرة أن أعمل في الصيد بواسطة صنارة، فهي لن تكلفني شيئا . عدت إلى البيت قبل انتهاء فترة بحثي عن العمل وفكرت في الأمر مليا حتى وقت متأخر من الليل . سوف أجرب هذه المهنة، لن أخسر شيئا، قد يفتح لي الله- تبارك وتعالى -بابا للرزق، إنه هو الرزاق .، ربي الذي خلقني هو الذي يغنيني عن الحاجة والسؤال. في الصباح أحضرت خيطا وضعت في منتصفه قطعة فلين أخذتها من زجاجة قطّارة الأنف، وعلّـقت إبرة معقوفة برأسه ولففته على عصا، ثم خرجت من البيت في السادسة صباحا متجها صوب النهر الذي يبعد عن بيتي نحو خمسة كيلو مترات . مضيت على قدمي إلى أن وصلت النهر ..رأيت أشخاصا يصطادون، وأشخاصا يصلون للتو، وأشخاصا يعودون مع ما اصطادوا لأنهم أمضوا ليلتهم على النهر . وجدت لنفسي مكانا من النهر الفسيح ولكنني فوجئت بأنني لم أجلب الطِعم لأضعه في الصِّـنَّارة، اتجهت إلى أقرب صياد يبعد عني نحو خمسمائة خطوة وقلت له بأنني جئت إلى الصيد أول مرة وقد نسيت الطعم، وأن يقرضني قليلا حتى الغد . فقال بأنه يُخرج الديدان من أطراف النهر ويستخدمها كطعم . ولكنني لم أملك أن أرى هذه الحيوانات الصغيرة تنغرز في الإبرة المعقوفة لتكون طعما، قلت: لأيق جائعا ولن أفعل ذلك. وعندها خطر لي أن أترك الأمر كله بيد أن الصياد قال لي بأن الصياد المجاور يستخدم أمعاء الدجاج، فاتجهت إليه وسألته شيئا من الأمعاء على أن أعيده إليه في الغد . فناولني الرجل علبة صغيرة فيها بعض الأمعاء وقال بأنني أستطيع الحصول عليها من بائعي الفروج على ألا أنساهم بين حين وحين بشيء من السمك . شكرته على ذلك وعدت إلى موضعي .لم يكن الأمر يحتاج إلى خبرة حتى أكون صيادا، فمجرد غطس الفلّين إلى الأسفل وصعوده إلى السطح بشكل متقطع يعني أن ثمة سمكة بدأت بنقر الطعم وعليَّ أن أسحب الخيط قليلا لأتأكد إن كانت قد علقت بالصنارة أم ما تزال تنقر . مضت ساعة سحبت فيها الخيط ثلاث مرات وكانت السمكة قد أكلت الطعم دون أن تعلق . في المرة الرابعة اصطدت أول سمكة، رأيتها تتحرك في الخارج وقد علقت بالصنارة، أمسكت بها و اكتشفت مرة أخرى بأنني لم أجلب ما أضع فيه السمك . خلعتُ سترتي وعقدتها على السمكة الجيدة الحجم . عندها لمحت كيسا أسودا من النايلون على بعد نحو مائتي متر فرحت أحضره ووضعت سمكتي فيه . شعرت بالطمأنينة وكأنني عثرت على كنز، أجل سوف أتناول اللحم برحمة الله، ياه كم بي شهية لتناول اللحم الذي لم أذقه منذ ثلاثة شهور . بلغت الساعة الثالثة عصرا اصطدت فيها خمس سمكات . شعرت بأن الجوع أنهكني إلى حد أنني لم أعد قادرا على الإمساك بالخيط . حملتُ سمكاتي الخمس واتجهت على الفور بخطوات منهكة إلى بائع السمك في السوق، وما إن رآني أحمل كيسا وأدنو منه حتى نادى بي: تعال .. تعال .. نحن نشتري السمك من الصيادين . وتناول الكيس من يدي وقد أفرغه على أرض المحل . مددت ُ يدي إلى سمكة وقلت: هذه السمكة عشائي، وأعدتها إلى الكيس . فابتسم الرجل وهو يقول: صحة وعافية، ووضع السمكات الأربع في الميزان وقال: إنها سمكات كبيرة . ثم راح يدق على آلة حاسبة وأنقدني القيمة قائلا: كل مرة اجلب سمكك إلينا . وقبل أن أنصرف أعطاني كيسا من الخيش ووجهني بأن أضع الأسماك في الكيس، أربط فمه جيدا وأتركه بالقرب مني في الماء حتى تبقى الأسماك حية . لم يمض شهر واحد حتى رأيتني وقد خرجت من عالم وأدخل في عالم آخر، كل يوم أتناول اللحم والبيض والحلويات والفاكهة واللوز، وأحيانا أحمل معي بعض الطعام وأشوي السمك على النهر لأنني أمضي أغلب وقتي في الصيد وأصلي في مكاني الظهر والعصر، أما في المساء أمضي الوقت مستلقيا على ظهري فأشعر بمتعة الراحة وأنا أبقى مسترخيا عشر ساعات متواصلة في فراشي الدافئ، وبين الأمسية والثانية أدخل الحمام كما أوصاني الطبيب فأمضي ساعة كاملة أغتسل بصابون الغار الممتاز ذو الرائحة الطيبة، وأخرج لأنام حتى الصباح وأنا أشعر بقوة حصان تندفع إلى جسدي حتى أنني شعرت بزوال فقر الدم كاملا من بدني .وما زاد في ذهولي هو هذا الاحتفاء الذي ألقاه من أصحاب المطاعم التي كانت في السابق تركلني لمجرد وجودي بالقرب منها، فعندما علموا بأنني صياد سمك غدوا يتبارون لكسب رضائي حتى أبيعهم ما أصطاد ويقدّمون لي الشاي والقهوة فأجلس مع كبارهم وكأنني شريك عزيز لديهم، وأنا أعلم بأنني لا أملك في هذا العالم سوى صنارة، ومن طرف آخر فإن الجوار الذين كانوا يتحاشون الرد على سلامي بدءوا يتوافدون على بيتي ويوصونني بالسمك الطازج الذي أوصله إلى بيوتهم حيا بواسطة الدراجة الهوائية التي اشتريتها، وأحيانا يدخلونني بيوتهم حتى أقشّر السمك وأنظفه وأقطعه وأتبّله ليكون جاهزا، حتى أن أحد جواري ألمح لي بأنني لو تقدمت إليه لأتمم نصف ديني فسيوافق أن يزوجني ابنته وسوف أصبح مثل أحد أولاده . للتو أدركت قيمة أن يعمل الإنسان، أدركت أن الإنسان لا يحقق حضوره في المجتمع إلا بقدر ما يعمل ويتواصل مع مجتمعه من خلال العمل . أدركت أن العمل نعمة كبرى أنعمها الله على الناس حتى يتحابوا ويتواصلوا فيما بينهم . لقد أنقذني عملي بإذن الله من شعوري الدائم بالإهانة وأنا أخرج من بيتي، وأنا أمضي في الطرقات، كنت أشعر بأنني كائن مهان لأنني عاطل عن العمل، عاطل عن التواصل مع الناس، ليس من أحد يطلب حاجة مني، وأنا لا أستطيع أن أطلب حاجة من الآخرين لأنه سوف ينظر إلى أنني كائن متطفل وأنا ما أزال في بداية العمر .
بعد مرور سنة من اليوم الأول الذي ذهبت فيه إلى النهر، اليوم السادس من أيلول الذي لا أنساه أبدا قلتُ: عليك يا رجل أن تحتفل بهذه المناسبة وتجعل من هذا اليوم عيدا سنويا لأنه اليوم الذي فتح الله فيه عليك . أجل سوف أحتفل بهذا اليوم الذي لا أنساه ما حييت . لقد فتحت عينَي على العالم للتو، لكن رغم كل هذا فكان لابد لي بأن أمر بكل تلك التجارب القاسية حتى أنظر إلى النعمة التي أنعمها الله علي فأقدرها خير تقدير .
في أمسية هذا اليوم الذي جعلته لنفسي عطلة، وضعت ما طاب من الطعام على مائدة وجلست بين الخضرة في حديقة البيت أشعر بأنني في عيد وأحمد الله الذي أخرجني من الذل، ووضعني في هذا العز، أجل إنه الله العزيز الذي رحمني بأن أرشدني إلى هذا العمل . أشعر بأنني أصلّي بين يدَي ربي وأنا في هذا النعيم، وأنا أذكره وأشكره مع كل لقمة أضعها في فمي متذكرا أيام الجوع القاسية . عند الساعة الواحدة ليلا قررت أن أقلي السمك في الحديقة وأتمم به احتفالي، فأحضرت المقلاة، وضعتها على جرة الغاز الصغير ة وجلست في الوسط بين المائدة والمقلاة فأتمكن من مد يدي إلى أزاهير المائدة العامرة، ومن تحريك السمك الذي بدأ يُصدر رائحة طيبة في الحي كله، في أثناء ذلك تذكرت بأنني لم أحضر صحنا لأضع فيه السمك المقلي، فنهضت متجها إلى المطبخ وصوت الزيت ينذرني بقرب احتراق السمك، امتدت يدي بسرعة إلى صحن، عندئذ تناهى إلى سمعي صوت غريب مع صوت سقوط المقلاة على الأرض، هُرعتُ إلى الخارج بانتفاضة مباغتة وقد ارتطم كتفي بطرف البراد وأوقعه أرضا بقوة الاندفاع المباغتة، فرأيت قطة تئن تحت الزيت الذي سلخ عنها جلدها بقوة حرارته وشوهها تشويها مريعا، سارعتُ إلى المطبخ، حملت إناء من الماء البارد ورششته على جسد هذه الكائنة المستسلمة للألم، ويبدو أن برودة الماء أخذت تخفف من حرارة جسدها ومن وقع حرارة الزيت، فبدأت تصدر أنينا خافتا كأنه أنين طفل عمره ثلاثة أيام . وقفت أنظر إليها وهي كذلك تصوّب لي نظرة توسل بالمساعدة لتخفيف ألمها، وتروي لي من خلال تلك النظرات التوسلية الممزوجة بالأنين بأن الجوع هو الذي دفعها إلى هذه المجازفة كي لا تنام جائعة . في تلك اللحظات تذكرت جوعي ورميت المائدة بما تحتوي على الأرض . نظراتها الأليمة المتوسلة توبخ تفرجي على آلامها فتجيب نظراتي لعينيها الدامعتين: لكن ما الذي بيدي فعله يا أيتها الحيوانة المسكينة؟ !! . أجل فقد فقدتُ أي وسيلة للمساعدة في هذا الوقت المتأخر بين أنينها الموجع ونظراتها الدامعة، وهذا المنظر المريع لحيوان تم سلخه حيا، ولا أعرف إن كانت النظرات ذاتها قد أوحت لي فكرة الاتصال بمن يعينني في إنقاذ هذه المخلوقة، إذ لا يمكن لي أن أخلد في فراشي على أنين وجعها . تذكرت الهاتف، وخطر لي أن أتصل بالإسعاف، فهو الوحيد الذي يمكن له أن يساعدني في أمر هذه المخلوقة، ولكن ما الذي سأقوله، وهل سيأتي رجال الإسعاف بسيارتهم في وقت كهذا لإنقاذ قطة؟ . لابد أن أفعل شيئا حتى لو اضطررت إلى مواراة الحقيقة، إن كل أنين من هذه الكائنة المسكينة يمزق أحشائي . رفعتُ السماعة وأجريت اتصالا بالإسعاف، قلت بأن طفلي الصغير قد احترق بالزيت وهو في حالة خطرة . وعلى الفور أحضرت بطانية ولففت القطة بها حتى أخذت شكل طفل . في الساعة الثالثة صباحا دوى صوت سيارة الإسعاف الذي أزاح عن نفسي بعض الاضطراب ولكن بذات الوقت استبد بي قلق إن كانت خطتي ستنجح وأنا أحمل القطة على أنها طفلي ريثما أوصلها إلى المستشفى، وهناك سيضطرون لمعالجتها وليحدث لي بعد ذلك ما يحدث . دخلتُ بتفكيري في دوامة وصوت الإسعاف يدنو من منزلي . فتحتُ الباب، رأيت السيارة تزحف إلي، ولمحت رؤوس بعض الجوار تمتد من الأسطح المجاورة، والتف حول السيارة بعض مَن جاء يستطلع الأمر بدافع الفضول . الطامة أنهم جميعا يعرفون بأنني عازب وأقيم بمفردي في البيت، واقترب البعض يسألني عما بي حتى طلبتُ الإسعاف، فتهربت من الإجابة . نزل رجلان من الباب الخلفي للسيارة يحملان حمّالة إسعاف وسارعا إلى الداخل فرأيتها فرصة لأغلق الباب كي لا يدخل أحد الجوار، طلبا مني أن أرشدهما إلى الطفل المحروق . حملت البطانية الملفوفة بالقطة ومخيلتي ترتاع بالمنظر الرهيب وقلت: هذا هو، إنه لا يحتاج إلى نقالة . نظرا إلي بريب وقالا بصوت واحد: ماذا حدث له؟ .
احترق بالزيت . قذفت الإجابة بلا مبالاة . عند ذاك نظرا إلى المقلاة وإلى قطع السمك المرمية بجانبها، ثم إلى منظر المائدة المقلوبة وطلبا مني أن أريهما الطفل المحروق . فقلت: هناك .. هناك .. في المستشفى .
فقال أحدهما وهو يدنو من المائدة المقلوبة: وما الذي يضمن لنا أن هذه ليست إلا بطانية فارغة .
قلت: فارغة .. فارغة كيف، فيها مخلوق يحتاج إلى إسعاف .
فقالا: أرنا هذا المخلوق .
ومن سوء حظ القطة أنها أخذت تموء في تلك اللحظة بصوت كسير وتتحرك في حضني . عندئذ وضعا الحمالة على الأرض وقالا: ألا تعرف عاقبة من يزعج رجال الإسعاف دون سبب في هكذا وقت . وفتح أحدهما الباب مناديا السائق بينما اختطف الثاني البطانية وفضها على الأرض لتسقط القطة وهي تصدر بقايا نشيج خافت . فقال ذات الرجل موجها كلامه للسائق: صاحبنا يريد أن نسعف له / بسه / . جحظ السائق عينيه الناعستين قائلا باستياء: بسه .. بسه.
وتقدموا جميعا من المائدة المقلوبة ينظرون إلى الصحون والطعام الملقي، وإلى القطة التي انضمت إلى تلك الفوضى العارمة التي توحي للناظر بأن شجارا ما وقع للتو في هذه الحديقة المنزلية الصغيرة . ثم اتفقوا أن يأخذونني إلى مخفر المستشفى لمحاسبتي على هذا الإزعاج، فامتنعت إلاّ أن أصطحب القطة معي، لكنهم جروني من كتفي بقوة وقادوني إلى السيارة تاركين القطة تئن وقد أحكموا الباب . بوصولنا المستشفى أخذوني إلى شرطي وقالوا له: إليك هذا الذي أزعجنا من أجل / بسه/ . أمسكني الشرطي ودفعني إلى غرفة التوقيف الصغيرة وأقفل علي الباب . انزويت في ركن إلى أن حضر شرطي آخر في الصباح وأعلمته بقصتي فقال بأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يحضر رئيس المخفر صباح الغد . وعاد إلى قفل الباب من الخارج . انتظرت إلى أن حضر رئيس المخفر عند ظهيرة اليوم التالي، فجاء شرطي وقادني إليه . لم يدعني رئيس المخفر أفه بكلمة، قال بحسم: لا تقل لي بأنك أردت أن تسعف / بســه /، لقد أزعجت الإسعاف، لكن لأنها المرة الأولى فقد أمرت بإخلاء سبيلك، وإياك ثم إياك أن تعيدها .
قلت له: لم أقصد أي إزعاج، ولكن كانت الطريقة الوحيدة إنقاذ حياة هذه المسكينة.
ضحك الرجل قائلا: مسكينــة .. ثم تجلجل به الضحك إلى أن أطلق سراحي . شعرت بأنني ولدت للتو، وأنني أرى نور العالم للتو، ولا أدري لماذا انتابني شعور غريب بأنني كنت في حلم . لدى خروجي من باب المخفر، سارعت الخطا إلى أقرب صيدلية، ابتعت أدوية لمعالجة الحروق ومضيت نحو البيت .. فتحت الباب وكأنني لم أفتحه منذ سنة .. جريت إلى القطة، لم أسمع لها أنينا، ولم تلق إلي نظرات استغاثة، لقد تحولت إلى جثة متفسخة تحت فوج هائل من الذباب الأزرق الذي أراه لأول مرة في بيتي
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد