الخطاب الأدبي في القرآن الكريم والسؤال الغائب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

جاءت معجزة الإسلام (القرآن الكريم) تتحدى العقل البشــري بالإعجـاز: العلمي والثقافي واللغـــوي والفـكـري والتشـريعـي والمنـهجي، وكـل أنـواع الإعجـاز للعقــل البشـري فـــي أقصـى درجـات رقيـه المفتوح إلى يوم الديــن. قال - تعالى -: {سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الـحَقٌّ} [فصلت: 53].

ولكن هذا الإعجاز بمختلف أنواعه وفروعه ورد بصورة واحدة من أساليب الخطاب هي صورة الخطاب الأدبي. وهنا تقفز إلى الذهن مجموعة من التساؤلات المتصلة بهذا الخطاب. فمن هذه الأسئلة التي تدور في الذهن مثلاً: ما الحكمة من مجيء القرآن في خطابه للعرب وللبشرية بجميع أجيالها وبيئاتها معتمداً الخطاب الأدبي أسلوباً؟ ولماذا لم يأت الخطاب الرباني للبشرية بأساليب أخرى من الخطاب: كالخطاب العلمي أو الخطاب الفلسفي أو الجدلي أو خطاب الحقائق والأرقام؟ وبصياغة أخرى: لماذا اختار الله - سبحانه وتعالى - أن تكون رسالته الخاتمة لخاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ البشرية كافة على صورة الخطاب الأدبي في أعلى مراتب البيان وأرقى أساليب الإعجاز؟

هل هو التحدي والإعجاز للعرب البلغاء الذين خوطبوا به في زمانهم؟ مع العلم أن المعجزة قائمة ودائمة، لا تخص العرب أو البشرية في جيل محدد، ولأن الخطاب القرآني دائم للبشر في جميع الأجيال، والإعجاز دائمٌ ومستمر إلى يوم الدين.

لا بد أن هناك حِكَماً أخرى غير تحدي العرب البلغاء في ذلك الزمان، وأن تحدي أولئك العرب هو جزء من ذلك الإعجاز. ولكن إعجاز القرآن أكبر من ذلكº لأنه إعجاز ممتد في تحدي البشرية إلى نهاية أجيالها على وجه الأرض.

 

الآن وفي هذا العصر بالذات أصبح بإمكاننا أن نتعرف على حِكَمٍ, أخرى مكنونة وراء هذا الاختيار الرباني لذلك الخطاب الأدبي، وخاصة بعد أن ارتقت الأمم بفنونها الأدبية، وتعمقت في تحليل هذا الخطاب، وأدركت عظمته وخطره على أذواق الأمة، والرقي بها نحو أهدافها المنشودة، وسوف يتأكد لنا ذلك أكثر عندما نتعرف على السمات التالية التي يمتاز بها الخطاب الأدبي على غيره من أنواع الخطاب:

1 ـ قدرة الخطاب الأدبي على التأثير في أذواق المخاطبين، والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة.

2 ـ هو أقرب أنواع الخطاب للتربية وتعديل السلوك وتعليم الناسº حيث إنه يرقى بالتفكير والقلب والسلوك من خلال أساليبه المختلفةº كالأساليب النوعية (القصة، والحوار، والشعر، والخطابة، والمثل..) أو الأساليب البيانية (كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز، والمشهد، والرمز... ) أو الأساليب التي تخص علم المعنى (كالدعاء، والاستفهام، والتسوية، والنداء، والتمني، والمقارنة، والأمر، والنهي.. ) أو الأساليب البديعية (المحسنات، المطابقة، المقابلة، التورية، المبالغة... ) وهي أساليب تنبه الحس الجمالي والمتعة في النفوس، وتحمل الفائدة المرجوة في ثنايا الخطاب الممتع، فتوصلها بطريقة محببة بعيداً عن أساليب الجدل الجاف الذي لا تصبر له النفوس، ولا ترغب فيه.

3 ـ الخطاب الأدبي لا يؤثر عليه تقلب الزمان ولا تغير المكانº ولذلك هو أدوم تأثيراً وخلوداً من أساليب (العلم، الجدل، الخبر) المتقلبة لتطورها وتغيرها المستمر وجفافهاº فربما تقرأ الخبر لمرة واحدة، ولا ترغب في العودة إليه، بينما يبقى الخطاب الأدبي متميزاً بالجمال والمتعة والحيوية والفائدة، وكذلك بالبقاء والثبات والخلود، ولا يؤثر على قيمته أو دلالته أو جاذبيته تقادم الزمان والمكان وتقلب الأجيالº لأنه لا يؤدي إلى الملل الذي تقع فيه الأساليب الأخرىº فالنفس لا تملّ من تكرار السماع له مرات ومراتº لأنه معجون بالجمال الجذاب للنفوس.

4 ـ يمتاز الخطاب الأدبي بقدرته على إيصال محتواه إلى طبقات المجتمع على اختلاف شرائحهاº ليُسر أداته (اللغة) التي يملكها الغني والفقير والمقيم والمرتحل والبدوي والمتحضر والجاهل والحكيمº فهو لا يكلفهم جهداً ولا مالاً، وإذا احتاج إلى شيء من ذلك فقد يحتاج إلى اليسير.

5 ـ وأخيراً، أليس في اختيار الله - سبحانه وتعالى - للخطاب الأدبي تعليم للبشر، وشهادة منه على أنه أفضل أساليبهم لخطابهم والتأثير فيهمº مما يدلل على أهميته وعظمته وفضله وخطره؟

وهنا نسأل أنفسنا: لماذا أهملت الأمة بحث قضايا الأدب في منجزها الفقهي الضخم، ولم تفرد له أبواباً خاصة كما فعلت لغيرهº مع أن الله خاطبها بأدواته وأساليبه؟

في ظني أن سبب ذلك الإهمال يرجع إلى غياب السؤال عن حكمة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم عند فقهائناº مما أدى إلى إهمال قضية الأدب في فقههمº فأوجد ذلك فراغاً فقهياً استغله تلاميذ الفلسفة اليونانية في العصر العباسي، وعندها قاموا بتعبئة هذا الفراغº وذلك بترجمة نظريات الشعر عند أفلاطون وأرسطو وهوراسº مما أوجد نقداً عربياً على قواعد الذوق الإغريقي، ينحرف بذوق الأمة عن الاستقلال والتميزº فكان هذا السبب في إجهاض الميلاد الحقيقي لنقد عربي إسلامي يخرج من مرجعية الأمة ومن إنتاجها الإبداعي.

أليس في طرح هذا السؤال الغائب إثارة جديدة في موضوع مهم ينبه دعاة الأدب الإسلامي إلى أهمية دراسة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم من جديدº لأنهم سوف يجدون فيه خيراً كثيراً لنظرية الأدب الإسلامي، بدلاً من تسكعهم على أبواب النظريات الأدبية العلمانية التي لم تفدهم شيئاً سوى الحيرة والشتات؟ وأظن القرآن الكريم يكفي ويكفي ويكفي، حتى يجدوا ضالتهم فيهº فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {مَّا فَرَّطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ,} [الأنعام: 38] ليعلموا أن كتاب الله ما فرط في حاجة نحتاجها في دنيانا، ومنها حاجتنا إلى نظرية الأدب، وسوف يجدون التفاصيل في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي أدب الصحابة والنتاج الإبداعي للأمة، شريطة أن تصل العقول بمرجعيتها وهي واثقة بها، وتبذل الجهود الكافية لذلك.

ولا يسعني في هذا المجال إلا أن أذكر بجهد رائد قدمه لنا الناقد الإسلامي الكبير محمد الحسناوي في كتابه الرائع: (الفاصلة في القرآن)º حيث كشف أموراً كثيرةً تخص تطور الشعر والنثر، وكيف تغلغل التأثير القرآني في أساليب الأدباء، كما أنه ناقش فرضيات كثيرة حول تطور الشعر الحديث والموشحات، وربط ذلك بتأثير لغة النبأ العظيم عليهاº ولذلك نحن بحاجة إلى استمرار جهد الحسناوي وجهد غيره في هذا المجال لاستخراج نظريتنا الأدبية من داخل مرجعيتنا وذاتنا الحضارية المستقلة عن حضارة العقل الشرقي (الصوفي) والعقل الغربي (الفلسفي).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply