المرأة في طريق الهداية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يقف كتاب القصة الإسلامية عند الجانب المعتم من واقع المرأة، فهي وإن كانت قد تأثرت بالدعوات التغريبية في الفكر والسلوك بحسب البيئة، وقوة الضغط الاجتماعي، إلا أن حالة التردي لم تكن قدراً محتوماً لا فكاك منه.

 

استطاع كاتب القصة الإسلامية أن يصور حالة الصراع التي تعيشها المرأة المعاصرة بين فطرتها، وبين واقعها المصطنع، دون أن يفتعل هذا الصراع، ومن ثم فهو يبشّر بانتصار الخير على الشر، والإرادة على الهوى، والفطرة على الزيف. ففي أقصوصة \"شاطئ الرؤى الخضر\" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه يصور الكاتب محمد السيد رحلة العذاب والضياع في حياة امرأة تصل إلى شاطئ الأمان في آخر العمر، وقبل فوات الأوان:

(وتعالت الأمواج، واشتدت، وأخذ الشراع يتمايل ويرتطم، السواعد القوية تعمل دون كلل لإنقاذه..والسواعد الناعمة كلّت، والريح الغريبة تضرب..

 

تعبت من الحياة.. العمل والرجل.. والرجل والعمل.. الزينة واللباس والموضة، والتسكع، والحفلات، والسهرات.. اللهاث والسعير ما هذا؟!).

 

وتخاطب نفسها: \"تعبتُ وتعبت الأيام مني.. الدوار يلاحقني، والسأم يخيم على لحظات عمري، وشيء يشدني إلى هناك إلى الشاطئ حيث كنت أزرع وردة متبرعمة).

 

إن هذا الذي يشدها إلى هناك حيث الشاطئ والأمان لم يكن سوى الفطرة التي فطر الله عليها المرأة.. تريد طفلاً تظهر من خلال تربيته أمومتها، ويتوضح ما خصه الله - تعالى -به من الحنان! تريد بيتاً يضمها مع زوج يظللها من هجير الضياع ولم تكن تلك الوردة المتبرعمة المزروعة على الشاطئ سوى الحلم - الأمل - في حياة سعيدة يظللها الحب الصادق والأمان الحقيقي، والطموح الواقعي.

أطبق السبات عينيها على رؤيا جميلة.. الشاطئ تغفو فوقه الأحلام الوردية حيث الرمال تسبح بين جدائل الشمس الذهبية، والناس ينامون ملء جفونهم، ويستيقظون على صلوات الملائكة، حيث الطيور لا تهاجر، والنساء تلد العمالقة والأفراح دائمة الخضرة، وأفاقت تتمتم: لقد وجدته، وجدت الشراع المنقذ، إنه الموصل إلى شاطئ الرؤى الخضر.

 

وأما أقصوصة \"ونامت على قرار\" من المجموعة ذاتها، فلا تبعد كثيراً عن سابقتها، وإن كانت بطلتها قد اختصرت الطريق، فعادت إلى جادة الصواب بتأثير زميلتها الملتزمة بالإسلام، ووالدتها الصالحة، وكانت من قبل تعيش كما يحلو لها دون أي رادع!!

 

(ولكنها كانت مع ذلك تشعر في أعماقها بنوع من عدم الرضا المصحوب بشيء من القلق فكانت تتدفق بزيادة من النشاط والحركة. و إنها لتذكر يوم ذهبت مع والدتها تحضر موعظة فبكت بكاءً شديداً، كانت كثيراً ما تقف بعدها مع نفسها تتساءل عن معنى الحياة وهدفها وما وراءها، فتغلب عليها خفتها وحركتها وضعف التوجيه فتنطلق على سجيتها دون ضابط ).

 

وفي الليلة التي سبقت موعد الرحلة \"التي ستحملها مع زميلاتها إلى الساحل\" أوت هند إلى فراشها، وتقلبت كثيراً وكثيراً وأرقت أكثر، ولكنها أخيراً نامت على قرار ضمته بين جوانحها وفي الصباح الباكر، ومع النداء الإلهي العطر ينساب من المئذنة القريبة كانت هند تتوضأ، وتستعد للصلاة، وفجأة شعرت بيد تمسح على شعرها برفق وحنان، وصوت نديّ رخيم يملأ كل جوانحها بالخشوع.

 

(من البداية يا بنتي كنت أتوقع لك هذه النتيجة، فأنا أمك، وأعرف الناس بك وبفطرتك السليمة ونفسك الصافية).

 

وعندما حان موعد إقلاع سيارة الرحلة كانت هند هي الطالبة الثانية من الصف التي لم تحضر بعد نعيمة...

 

و يوضح القاص أحمد بدوي هذه الصورة أكثر في قصته الطويلة \"أختاه أيتها الأمل\" حيث يعالج قضية من أخطر القضايا الاجتماعية وهي قضية الصحبة، والتأثير المتبادل بين الأصدقاء، فيعرض نماذج من واقع الحياة لهذا التأثر والتأثير.

 

فها هي \"نور\" الطالبة في كلية الطب، والتي ترك لها أهلها الحرية الكاملة في خروجها بالمظهر الذي تريدº تجمعها ظروف الدراسة بعدد من الفتيات المسلمات الملتزمات، فتتأثر بهن، وتنقل هذا التأثير إلى أهلها!!

 

وهذه \"رولا \" زميلتها تُسدٌّ أذنيها عن كل نصيحة، حتى تفاجأ بفقد أغلى ما تملكه الفتاة، فلا تجد بعد التخبط غير باب التوبة تلجه ليفاجئها الموت، وهي تدخل إلى المسجد لتستمع إلى درس تقيمه إحدى الداعيات، حيث تدهسها سيارة الشقي \"فريد\" الذي غرر بها من قبل.. ومع ذلك فلم يكن قد فاته الأوان، فقد وصلت إلى بر النجاة، والله غفور رحيم.

 

وتلك \"ماجدة\" تسلك طريق الهداية على الرغم من معارضة أبيها، فتكسب بإصرارها أمها إلى جانبها، وتقنعان الأب بأحقية الإسلام في حكم الحياة.

 

وأما \"مي\" الفتاة المؤمنة فإنها تتحرك بحرقة لإنقاذ من تستطيع من زميلاتها، والعودة بهن إلى حظيرة الإسلام.

 

 وأخيراً \"مها\" طالبة الثانوية التي كادت تسقط لولا أن تدراكتها رحمة ربها، فتصحو وتكتشف كذب \"سامر\" الطالب المتخلف!!

 

ويخرج المؤلف بعد عرضه لهذه النماذج إلى أن الكثيرات يحتجن إلى من يأخذ بأيديهن، فليس الانحراف في حياتهن عن السلوك السوي ضرب لازب، وإنما هو أمر عارض، وغشاوة زيف تنزاح عندما تمتد اليد الحانية، وقد ارتسمت هذه المعاني في ذهن إحدى شخصيات القصة \"نور\" وتمثلت بشكل رمزي عن طريق الحلم.. فبعد أن ودعت صديقاتها اللاتي اتفقن على الاستمرار في تبادل النصح، وألا تدّخر إحداهنّ جهداً في البذل لصديقاتها مما عندها، وعلى ألا تتحرج بأخذ ما ينقصها من فقه ووعي من أخواتها المؤمنات.. في تلك الليلة تراءى لنور في أحلامها فتيات ناشرات شعورهنّ، يضحكن مولولات وهنّ يلقين بأنفسهنّ في مستنقع آسن، ولما رأينها لمعت عيونهن بضجيج حاقد، ولكن نور تبينت خلف قناع الحقد الهش رجاءً متوسلاً.. يغبطنها ويلتمسن العون منها.. فنادتهن محذرة.. ولكن أفاعي مرقطة في القاع عزفت ألحاناً مجنونة زادت هستيرية الفتيات البائسات... وفجأت ظهرت صديقاتها المؤمنات، وأخذن يحجزن أولئك التعيسات المقنعات بمرح مزيف، فهجمت الأفاعي المتوحشة على الطاهرات.. محاولة غرس أصابعها القذرة المطلية ببريق خادع في رؤوس المؤمنات.. !! تململت نور في فراشها وأيقظت صرخاتها المكبوتة أمها التي أمسكت قلقة بيد ابنتها النائمة، ومست بيدها الأخرى جبينها بحنان.. تشنجت يد نور عاصرة كف أمها.. وتعابير وجهها المتقلصة تنبئ باضطراب شديد.. ثم عادت قبضتها فاسترخت.. وأزهرت على وجهها ابتسامة هانئة.. وكأنها اطمأنت لنتيجة معركة شغلتها.. فانسحبت الأم بهدوء دون أن توقظها.. وقبل أن تغلق باب الغرفة تهادى إلى سمعها صوت ابنتها وهي تزفر مرتاحة.. الحمد لله..

 

وفي قصة \"ثورة النساء\" لعبد الودود يوسف تتجلى إرادة المرأة عندما تعرف الحق، وتؤمن به.. بل وتُضحي من أجله! وليس ذلك عجيباً، ألم تختر \"سمية\" الموت على الكفر؟

 

في هذه القصة الطويلة أظهر الكاتب فظاعة ما تعاني منه المرأة الغربية في ظل المجتمعات المادية.

 

فبطلة القصة \" سامورا \" الفتاة الفرنسية يتخلى أبواها عنها، بل إن أمها تحاول استغلالها! فتخرج إلى الحياة لتفاجأ بالأفاعي والذئاب البشرية، فالكل يطلبها عشيقة وصديقة فراش؟! فتتألم للحياة التي تعيشها بنات جنسها، وتعزم على تخليصهن من هذه المأساة..

 

يستجيب لها بعضهن.. ويزداد العدد بحيث أصبح يشكل ظاهرة غير مريحة في المجتمع الفرنسي، فيصيح منها ومن مطالبتها لكرامة المرأة، وارتدائها مع السائرات على خطها لباساً أقرب إلى الحشمة، فتقاد إلى السجن بتهمة تخريب اقتصاد البلاد.. ويأتي شقيقها الذي يدرس في قسم الأديان بالجامعة لزيارتها، فيقدم لها كتاباً عنوانه \"حياة محمد\" فتفاجأ \"سامورا\" حين تجد أن ما كانت تحلم به من حرية المرأة موجود في دين محمد بصورة تفوق كل ما تسعى إليه، فتؤمن به مع عدد من السجينات..، وعند إعادة محاكمتها تهجم النساء على السجن، ويخرجنها منه، وتعود الصحافة والبرلمان لينشغلا بها، وتعود الشرطة للبحث عنها، وينتشر الخبر بين الناس \"فامتلأت الشوارع بالدعوة إلى الثورة ضد مَن يضطهدون المرأة، ويريدونها عشيقة لا زوجة ولا أماً، ويريدون الولد لقيطاً أو يتيماً لا إبناً يعرف حنان الأم والأب.. وارتجت فرنسا كلها حيث أعلنت دوائر البوليس مقتل \"سامورا\" واشتعلت في البلاد ثورة لاهبة في سبيل تحرير النساء..

 

وإذا كان المؤلف قد أدار أحداث هذه القصة من خلال رؤية مستقبلية لما سيؤول إليه حال المرأة، وأنها ستصل إلى وضع لا تحتمل فيه المزيد من التضييع والامتهان، فإنه يُبشّر بأن يوم تحريرها قادم: \"لا بد أن تنتصر ثورة النساء في العالم كله.. لا بد أن يحققن ما أعطاهنّ الله، لا بد أن يصبحن - كما أراد الإسلام- مكرمات محررات زوجات لا عشيقات... أمهات لا خادمات\".

 

ومن هذا المنطلق، وهو أن المرأة خلقت لتكون أماً صور القاص إبراهيم عاصي في أقصوصته \"القرار الحازم\" حالة المرأة حين تخرج من بيتها فها هي ذي \"يسرى\" موظفة تتجاذبها مختلف الدوافع ؟ فإحساسها الفطري يدفعها إلى الالتزام بواجبها الذي يتلاءم مع فطرتها، والواقع الاجتماعي يشدها إلى الخروج من المنزل، ومزاحمة الرجال، لينضاف عبء جديد إلى أعبائها.

 

وقد عبّر الكاتب عن هذا الصراع بالمشاعر الصادقة التي تنبع من الفطرة، وهو ما نسمعه اليوم ينبعث بشكل واضح وصريح من كثير من المثقفات في أوروبا وغيرها وحتى في بلداننا: أن ارفعوا أيديكم عن المرأة لتختار ما يناسبها فهي أدرى بشؤونها (رباه لمن أشكو حالي؟ لماذا لم تجعلنا مثل الرجال؟ مسؤوليتهم محدودة: كسب وإنفاق وحسب! وأي ظلم نتحمله نحن الموظفات؟ عمل حتى الإرهاق خارج البيت، ثم أشغال لا تنتهي داخل البيت، ثم تربية للأطفال، ثم بعد هذا كله تحكّم الخوادم بنا، وأخذهن بخناقنا دون رحمة؟ ألا تكفينا مسؤولية واحدة.

 

فماذا تفعل المسكينة؟ لم تحضر الخادمة هذا اليوم لأنها طلبت رفع أجرتها، وهو ما يعادل نصف مرتب \"يسرى\"؟ ثم إن هذه الخادمة تسببت بموت طفل \"يسرى\" البكر، حين قفز من النافذة، وهي عنه لاهية، وعادت بها الذكرى إلى الحوار الذي دار بينها وبين زوجها منذ أربع سنوات حين طلب منها أن تبقى في البيت تتفرغ لشؤونه ولتربية الأولاد، أصرت على الوظيفة.. اتهمته بالرجعية.. هاجمته بأن عهد الحريم قد ولى.. قال لها: سترهقين نفسك، وتذيبين عافيتك؟ فقالت: هذا كلام مبعثه غرور الرجال.. مضى اليوم بأكمله والخادمة لم تحضر.. في اليوم التالي احتارت ماذا تفعل؟ أتترك طفلها وتمضي إلى الوظيفة.

 

قدمت رِجلاً وأخرّت أخرى عند مدخل الدائرة!! وقرب دفتر توقيع الحضور فوجئت باستفسار من المدير عن سبب غيابها غير المبرر.. إنه لا يقنعه شيء، ولا بدّ من اتخاذ ما يلزم!

 

لم تسترسل كثيراً في تساؤلاتها تلك، فمزقت الكتاب بكبرياء، وأمسكت بمفتاح سجنها الرهيب، وقد انطوت نفسها على قرار حازم لا رجعة فيه، مرجحة صوت الفطرة بالدعوة إلى العودة للبيت على الضغوط الاجتماعية ومزاحمة الرجال.. وقد أحسنت الاختيار... ولكن بعد مرارة التجربة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply