لأعوادِ النِّعناع النَّديَّةِ في ليالي الصَّيف ، أشذاءُ مُنعشة، تتهادى بها نسائمُ المساءِ الدَّافئة، فتغدو رائحةُ المكان لا تُوصَف ، وسلسلةُ التَّأمٌّلات لا تنتهي ..
حشدٌ من النٌّجوم يتألَّقُ عبر الأجواء الرَّطبة ، في جلالٍ, وروعةٍ, فائِقة ..
رحت أتأمَّلُها وأنا أتَّكئ بوجهي على يديَّ في صمت ..
نجومٌ تومضُ في تلاحق ، أخرى تسري بسرعةٍ, خاطفة ، بعضها يغيبُ حتى يختفي من وراء الأفق ، وبعضها يقدمُ على استحياء ..
شعرتُ فجأةً بشيءٍ, من المرارة ..
تذكرتُ نجمةً .. ضلَّت عن سمائنا لتبزغ من وراء البحار ..
وما أن بَدَت هناك .. حتى جلجلَت أصداءُ الحطام ، والرؤوس تنتشي بسحرِ الشَّرق وعبقِ البخور وأصالةِ الصَّحراء ..
ثم التهبَت الأكفٌّ بالتَّصفيق .. حتى تردَّدَت له بعض مضاربنا وخيامنا !!
هززتُ رأسي برثاء …
لقد ظنٌّوا ذلك الصوتَ .. حطامَ القيود البالية والحجب العتيقة ..!
ولو علموا أيَّ شيءٍ, كان هذا الَّذي هوى من عليائه وتردَّى من عرشه !!
زفرتُ بأسى .. وأجلتُ ناظريَّ في السماء بضيق ..
وهناك .. تسطَعُ الثٌّريَّا ..
وتظلٌّ عيناي تنهلُ من ذلك النورِ الدفَّاق فلا ترتوي ..
أستغرقُ في الضِّياء بانبهار .. ورؤى حميمة تجرجرُ أذيالها في ذاكرتي ..
شيئاً فشيئاً ، تنبثق لي من بين أجنحة النور ، ملامحُ عذبة دافئة .. فيجرفني الحنين ..
إنَّه وجه أمي ..
أثارَت ذكرياته العزيزة ، هذه النجمةُ بكبريائها الشَّامخ وعزَّتِها المهيبة ونقائها الطاهر ..
تترقرق عيناي بالدٌّموع المشتاقة ، وأنا أذوبُ في ملامح ذلك الوجه المتغضِّنة ، وأجدِّفُ في بحيرتي عينيه الطيبتين،وأجولُ بين حدائق ابتسامته الرَّحيمة ..
وأمي لمن لا يعرفها ، ليسَت سيِّدةً مثقَّفةً ، تتأبَّطُ دوماً كتاباً مترجماً ، وتتكئ على أنفها عويناتٌ دقيقةٌ ، ودالٌ مهيبةٌ تتصدَّرُ اسمها القرويَّ الحميم .. كلا ..
بل هي لا تقرأُ .. ولا تكتبُ ..
لكنَّها معلمةٌ ، وصانعةٌ ، ومربيَّةٌ ، وزارعةٌ ، ومديرة ناجحة ..
أمي تعلِّمُ الجبالَ كيف هو الكبرياء ، لما تتلفَّعُ بحجابٍ, أسودَ ثقيل ، يتألَّقُ كإكليل غارٍ, من فوق رأسها ، مهيباً رائعاً ، فينسدل ويلفٌّ جسدها النحيل ، ثم تمسكُ بيديها المعروقتين بأطرافه ، فلا يبدو منها ظفر ..
وأمي تعلِّمُ الشَّمسَ كيف هي الفضيلة ، لما يتورَّدُ خدَّاها الذاويان حياءً ، وتغضي ببصرها عفَّةً ، وترفض بإصرارٍ, أن يفحصَ قلبَها التعب رجلٌ أجنبي ، بينما نحن نتعلق بخيوط الهزيمة ، ونحدثها عن الضرورة والرخصة ، لكن إباءها لا يزيد إلا صموداً ..
وأمي صانعة …
لا زالت أصداءُ نداءاتها الحنونة ، تشنِّف مسمعي وهي تربِّت على كتفي بمودة ، تحثني للنهوض لصلاة الوتر في ليالي الشتاء الباردة ، فتلهبُ في أعماقي العزيمةَ الجبَّارة ، وتحلِّقُ بهمَّتي إلى العلياء البعيد ..
وأمي مربيَّة ..
أشعلَت في جوانحي بنصائحها المباركة ، مناراً ساطعاً ، يستمدٌّ نورَه من نور السماوات والأرض ، فيهزأ بالفتن الحالكة ، ويسخر من الظَّلام ..
وأمي زارعة ..
غرست في نفسي أشواكَ الصبر ، وحنظلَ المقاومة ، لأغدو صخرةً راسخةً في بنيان الأمة ، وجناحاً قوياً في عروجها إلى العزَّة والسمو ..
هذه أمي ..
تعملُ وتبني ، وتكدحُ وتكافحُ ، فتصنع شعباً وتعلم جيلاً وتسطِّر أمجاداً .. من وراءِ حجاب ..
غفر الله لكم !
لا تحدِّثُوها عن توسٌّعِ فُرَصِ العمل وتمديدِ فترة الخدمة ، ولا ترهقوها بحقوق العمَّال ومجالات المرأة ، ولا تثيروا حيرتها بأرقام السكان ومؤتمرات الأُمَم .. إنَّها لا تعرف أين نيويورك أصلاً !!
وليس ثَمَّ غيرَ نظرتِها الساذجة .. وبسمتها البريئة ..
فإليكم عنها ، دعوها ، إنَّها تعملُ بصمت ..
ولما نعود جميعاً من أعمالنا المرهقة ، نلتمسُ في فُرُشِنا الدافئةِ راحةً موهومةً وقوَّةً مزعومةً ، تسري أشذاءُ صوتها المتهدِّجُ وسطَ قوافِلِ السٌّكون ، وتتألَّقُ عيناها المخضَّلتان بالدٌّموع ، كظلالِ القَمَر من تحت سعف النَّخيل ..
وهي ترفعُ كفَّيها النحيلتين إلى مقامِ ربِّ العالمين ، بدعاءٍ, يملأُ الأكوانَ طيباً ، بأن يعزَّ الله الإسلام والمسلمين ويذلَّ الشرك والمشركين ، وينصرَ عباده الموحِّدين ، ويديرَ دائرةَ السَّوء على الكائدين والمفسدين ..
ثُمَّ ترفرفُ نسمةُ مساءٍ, عَطِرة ، ويفوحُ عبيرُ ذكرياتٍ, لا يقاوم ، فأغمضُ عينيَّ باستمتاعٍ, شديد ..
أعرفتمُ الآن ، لِمَ التهبَ السموٌّ في نفسي ، ومزَّقَت الرهبةُ صدري، وأنَّ الحنينُ في دمي، وأنا أشرب من نور الثٌّريَّا ؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد