ثرثرة جانحة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

حملق بعينين شاردتين ثم خرج عن صمتهº بدأ يتكلم مع كل من يسمعه أو لا يسمعه بالشكوى:

ـ آه من أشقائي وشقيقاتي: حرموني..سبقوني..خاصموني!

كانت تدبر له الأفانين بعدد السنين كي يتمايز في قطع الصلات مع أرحامه.. آه من كيدهن العظيم.. ثلث قرن وهى تدس وتتفنن في إشعال النيران.. اللسعات الغائرة بدأت تطال الجميع، بينما هو وهى يستمرآن اللعبة!

توسع في تعميق التوهم بالشكوى.. استعذب الخصومة وصدق التأويل المريض بأنه مظلوم ومحروم ومسبوق ومعزول.. نسي عدالة الرزاق الرحيم، لم يرحم أحداً من ذوي رحمه.. مضى يثرثر: حرموني.. سبقوني..

أسلم ذاته إلى انعزال عجيب عن إخوانه وأخواتهº وقبع في انطواء أحادي ممل، دوائر الانطواء تحكم حلقاتها على باب داره، الثرثرة الكذوب تزداد، راح يصنع على وهمه مفردات من الماضي البعيد.. بدأت النساء قبل الرجال تتلقف ثرثراته المتدفقة بحجم مياه المحيط.. نساء الحي ينسجن من أوهامه الأقاصيص والحكايات..

 

ـ آه من ظلم أرحامه له..

النساء في بحث دائم معه عن سر التفاف شقيقاته الإناث حول الرجال من أخواته دونه.. يخرج ثانية عن صمته:

ـ عصبة ظالمة اجتمعت عليَّ.. إنني الأعزل لكنني الأفضل!

لابد من مجابهة لتكف الثرثرة. اختلف إلى داره غير مرة من قاطعهم ولاحقهم في غيابهم بالثرثرة.. زاره الأرحام الذكور، الثرثرة الواهمة تزداد، والنساء في الحي يسبقن رجاله في نقل الوهم:

ـ حرموني.. سبقوني.. عزلوني..

طالت التهم بعضهم وسخر منها بعضهم الآخر، أفاض في الوهم، وتسللت إلى مسامع أرحامه تفسيرات أوهامه القائلة:

ـ أجل، حرموني من ميراثي! أين نصيبي في منقولات بيت الوالدين الذي كان؟ بل أين الذهب والأوراق النقدية والماكينات و… لقد ابتلعها الأخ الأكبر يباركه من حرموني معه..

 

كان النصيب هو الخميرة التي جعلته يرتفع ويرتفع في الشأن والعمران.

ـ الحزم المتماسكة أقوى، لا ينال منها إلا بتفرقتها إلى عيدان.

حكمة باقية استهلها أحدهم في مبادرة مع صاحبنا المتوهمº ليكف عن الثرثرة، ويخرج من شرنقة العزلة.. يا للبؤس!.. الكيد أقوى.. أتبعت الحكمة بإيقاظه من الواقع الماثل:

ـ لقد قسم الميراث من زمن وبالعدل، بل كما تحب وعن تراض.. لم تظلم.. لعلك تذكر أنني كنت أحد الشهود وقتذاك..

رد في عصبية غير مألوفة لا تعكس طيبة قلبه:

ـ حرموني.. سبقوني..

قلت في محاولة أخيرة أستعطفه:

تأمل أحوالك فأنت المميز!! كن راضياً بقسمة العباد، ومن قبل ومن بعد بأرزاق الله!.. أفِق.. أفِق.

لم ينبس بحرف، غادرت داره ولساني يلهج بالدعاء.

ـ الله يهدى من شاء.. الله يهدى من يشاء.

لا تزال شائعات القرية تنسج خيوط الوهم، وتعيد وتزيد في الثرثرة..

ـ حرموه.. سبقوه..

 

تجمع أمام مسجد القرية جمع من المصلين بعد صلاة الجمعة يتحلقون حول عالم الاجتماع، فخر قريتهم، وهو يعقب على الشائعات والثرثرة في منطق لا يخلو من نبرة حزن:

ـ يا ناس.. كفوا عن العبث، ما حرموه وما سبقوه، سبحان الباسط الرزاق.. ارفعوا عنه دوائر النساء، واخلعوا عنه خيوط الوهم، ستلوح في الأفق من بعد صدق الدعاء فيوضات الرضا التي تمحو حجب الحرمان.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply