سجن النقب الصحراوي:
في ليلة اليوم التاسع من الشهر الثاني عشر من العام المنصرم تم إبلاغ شاويش القسم بمن عنده محاكم استئناف ليوم غد الخميس، كي يكونوا على استعداد للخروج إلى تلك المحاكم في صباح اليوم التالي، وما أن عسعس الليل وصلى القوم الصبح ثم لأذكار ما بعد الصلاة فعلوا، وللنوم مرة أخرى عادوا، ثم على العدد الصباحي المزعج قاموا، ولما قاربت الساعة التاسعة بدأت المناداة على من لهم محاكم في هذا القسم، فكنت أحد أربعة، خرجنا وللتفتيش الشكلي الجسدي خضعنا، وللقيود في الأرجل امتثلنا، وإلى الباص الممتلئ بأمثالنا صعدنا، فإذا بكل من له محكمة من بقية أقسام السجن العشرة الأخرى سبقونا، فسلمنا على الجميع وعددهم يقارب العشرين، وفي أقل من دقيقة وصلنا لمجمع قاعات المحاكم الموجودة في سن النقب فأنزلونا إلى الكونتينرات المعدة لاحتجاز المعتقلين، وطلبنا من الجنود الموكل لهم حراستنا في هذه الرحلة الشكلية فرزنا إلى مدخنين وغير مدخنين، وكان نصيبنا نحن غير المدخنين الزنزانة الأكبر لكثرة عددنا فدخلناها فوجدناها محتوية على مقعدين قليلي العرض بطول متر تقريبا، وسرير حديدي نقال، والمحزن هو وضع هذا الكونتينر من ناحية النظافة، فرائحته تعبق برائحة الدخان وأرضيته تشير إلى المستوى الإيماني المتدني عند المدخنين، فلا نظافة عندهم في الأعم الأغلب ولا يحزنون، فكان أول عمل قام به الشباب تنظيف المكان وإخراج ما فيه من فضلات وأعقاب سجاير الدخان، فعادت الزنزانة سيرتها الأولى من النظافة والتخلص من روائح التتن النتن، وشجعت الجميع على صلاة الضحى طامعين أن نكون من أهل الحديث القدسي الذي يقول فيه المولى - عز وجل - مخاطبا عبده: \"عبدي صل لي في أول النهار أربع ركعات أكفك بهن هم آخره\"، وأخبرتهم بأن صلاة الضحى بمنزلة العصر بين الظهر والمغرب كما يقول أبو حامد الغزالي - رحمه الله - في كتابه إحياء علوم الدين، إلا أن الله رحمة بنا وتخفيفا عنا- لم يوجبها علينا بل ندبنا إليها، وهي المرادة بصلاة الأوابين المشار إليها في حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، \"صلاة الأوابين حين ترمض الفصال\". ورغّبتهم بصلتها جماعة، فاستجاب الأكثر وصليناها ركعتين ركعتين.
وبعد ساعة أو أكثر من وجودنا في هذا الفرن تحت أشعة شمس النقب اللاهب تم استدعاء خمسة دفعة واحدة كدلالة على مهنية هذا المحاكم! فانتقلنا بالجملة إلى كرافان لا يبعد سوى 20 مترا، وهناك وجدنا المحامي أنور أبو عمر محامي الجميع، وبعد دقائق دخل رجل فوق الخمسين من العمر، أجنبي الملامح، غريب السحنة، غربيها، ومع دخوله أُمر الجميع بالقيام وبعد أن يستوي القاضي العسكري هذا المُرصّع بالرتب العديدة جالسا ينطق كلمة أجلسوا بلغتهم \"تشفو\". فيجلس الجميع ويبدأ المترجم بالمناداة على أصحاب الملفات واحدا إثر آخر، ومن ينادى عليه يجب أن يقف فيذكر اسمه الرباعي كاملا ومن أي مدينة هو، ولما جاء دوري حيث كنت آخر الخمسة: نودي علي، فوقفت، ولاسمي الكامل نطقت، وإجابة على سؤال من أين أنت؟ قلت: من مدينة أبي الضيفان إبراهيم الخليل - عليه السلام -، فلم يفهم المترجم ما أعنيه، أو لم يعجبه هذه الفزلكة، وبدأ القاضي ينطق بلغته، والمترجم، يترجم بسرعة محاولا اللحاق بكلمات القاضي الذي يقول: إن فلانا قد صدر أمر اعتقال إداري بحقه من 14-10 ولمدة ستة أشهر، ذاكرا اسم القائد العسكري المصدر لهذا الحكم، ويكمل القاضي بأن المذكور تم عرضه على هيئة رقابة قضائية في العشرين من نفس الشهر في محكمة عسكرية في عوفر، ذاكرا اسم القاضي الذي ثبت الحكم الصادر عن القائد العسكري مُضفِيا عليه الصفة القانونية.
وبعد فراغ القاضي من كلامه دافع المحامي ما وسعه الدفاع لكن يصدق على هذا الدفاع المثل العامي: \"طبل عند أطرش\"، والمضحك المبكي أن المدعي العام في هذه المحكمة يبدو في العمر ولدا بل أولد من الولد، وكلما يُسأل سؤالا من قبل المحامي مثل: هل تعرف ما هو عمل الماثل بيت يديك في المحكمة؟ فتكون الإجابة: لا يوجد عندي في الملف ما يشير إلى ذلك، وعندما سأله المحامي: إذا بناء على ماذا اعتقلتموه؟ يقول: لا علم عندي ولا علم لي. ثم بعد فراغ المحامي يأذن القاضي للمحكوم بأن يضيف ما يحب، فبسملت وحمدت الله ودعوته بتسهيل الأمر، واستهللت كلامي طالبا توضيح الفرق بين الرقابة القضائية التي نظرت في حكم الاعتقال الإداري في معتقل عوفر وبين هذه المحكمة الآن، فبين لي المحامي بأن الأمر يماثل ما يسمى بمحكمة البداية ثم محكمة تعلوها بدرجة وهي الاستئناف التي نحن فيها الآن.
ثم سألت القاضي قائلا: أنا أطالب بإعطائي أنموذجا من المخالفات التي تزعمون أني ارتكبتها حتى لا أعود إلى الوقوع فيها بعد الإفراج إن شاء الله، فقلت له بأن حجب هذه المخالفات عني يخالف المعقول وقواعد العدل وها أنتم في دولتكم عندما يخالف شرطي المرور سائقا يبين له الحامل على تحرير هذا المخالفة كي لا يعود إلى فعلها أو فعل مثلها، لكن لم نكن نسمع جوابا من هيئة المحكمة: لا من القاضي ولا من المدعي العام.
فأكملت كلامي قائلا للقاضي إن المعتقلين الإداريين الذين يزيد عددهم على الألف يعلمون علم اليقين بعدم قدرة القاضي على تحريك ساكن، أو تسكين متحرك لا تريده المخابرات الصهيونية، وأنا أدعو دولة إسرائيل إلى إلغاء هذه المحاكم الهزلية البعيدة كل البعد عن المهنية، وأن توفر دولة إسرائيل على نفسها هذه المبالغ المالية الطائلة وتصريفها على تحسين أوضاع الأكل الرديء الذي يقدم للمعتقلين، وكذلك دعوته ليقرأ آيات سورة النساء من الترجمة الإنجليزية أو العبرية ليتعرف على نظام القضاء في الإسلام، وعدله مع المخالف قبل الموالف، وذلك من الآية الرابعة بعد المائة الأولى إلى الآية الثالثة عشرة بعد المائة.
وكذلك قلت له بأن الاعتقال الإداري سُبة في جبين أية دولة تلجأ إليه وهو لا يوجد إلا في دولتكم ودولة جنوب إفريقيا سابقا، وها هي تلحق بكم أميركا الآن، فزعم القاضي أن هذا اللون من الحكم يوجد في 35 دولة كانجلترا وفرنسا، فقلت له إن هذه الدول كانت تطبقه على مواطني مستعمراتها ظلما وعسفا وخسفا لا إنصافا وعدلا، وذكرته بأن مناحيم بيغن صاحب كتاب التمرد هو الذي ألغى الحكم الإداري لما كان رئيس وزراء في هذه الدولة إذ أطلق سراح المعتقل علي الجمال والذي كان متهما بقتل جندي من حرس الحدود ويوجد عليه اعتراف واحد، ولم يكن وقتها تقبل المحاكم الإسرائيلية شهادة الواحد للإدانة، فبقي هذا السجين في الاعتقال الإداري سبعا من السنين حتى جاء بيغن عام ثمانية وسبعين مغليا هذا النوع من الاعتقال متأثرا بكونه أي بيغن محاميا، وسبق أن اعتقل اعتقالا إداريا عند النازيين، ولا يزال ابنه بيني بيغن من أبرز الداعين لإلغاء هذا النوع من الاعتقال.
وبعد كل هذا خرجنا من محكمة قراقوش هذه مستيقنين بشكليتها، وفور رجوعنا، وجدنا قوة الحراسة جاهزة لإعادتنا من حيث جئنا فعدنا مشيا على الأقدام، وتم فتح باب السجن الرئيسي المفضي إلى الأقسام العشرة للإداريين فعدنا من حيث خرجنا لتلتقمنا هذه السجون في بطنها إلى الوقت المعلوم الذي قدره الله من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة مفوضين أمرنا إلى الله، محسنين الظن به، منتظرين الفرج منه، وحده مستذكرين قول المصطفى:انتظار الفرج عبادة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد