في الأدب الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الدلالة:

لعبارة الأدب الإسلامي معنيان اثنان يتبادران إلى الذهن هما:

 

1- الأدب الذي بدأ ظهوره منذ البعثة النبوية الشريفة، والذي استقام عوده في ظل الدولة والحضارة الإسلاميين، بغض النظر عن كون هذا الأدب معبراً في محتواه عن آفاق العقيدة الإسلامية، أو مشتملاً على بعض المعاني والقيم التي أفرزتـها حركة الحياة الجديدة، أو مدللاً على الالتزام بالأعراف المعنوية التي سادت في العصر الجاهلي وأقرها الإسلام.

 

ومن شأن هذا المعنى أن يقيد اصطلاح الأدب الإسلامي في قالب زمني يتسع لحقب زمنية متعاقبة ومديدة، ولكن مغزاه آل إلى الانحسار بمرور بعض الوقت وصار يختص بالمرحلة الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية التي تنتهي بانتهاء الخلافة الراشدة. وشاعت في كتابات الكاتبين تسميات زمنية أخرى حلت محل الأدب الإسلامي على عصور سياسية لاحقة من قبيل الأدب الأموي والأدب العباسي وغيرهما.

 

وإن اعتماد الدلالة الزمنية لتمييز الأدب الإسلامي جعل كل إنتاج أدبي يرتقي إلى الحقبة التاريخية الإسلامية الأولى \"أدباً إسلامياً\" من غير التفات إلى عقيدة المنشئ أو درجتها من جهة، ومن غير عناية كافية بمدى انعكاس الرؤية الإسلامية في محتوى النص من جهة أخرى. وإن استقراء ما تم انتاجه في العصور الإسلامية المختلفة سيبين أن قسطاً كبيراً منه ظل محتفظاً بالتقاليد المعنوية والتعبيرية التي أرساها الشعراء والأدباء السابقون، والجاهليون منهم خاصة. فلم يكن في مقدور تلك النتاجات التي توصف بالإسلامية تبعاً لزمن ظهورها أن تشي بالفهم الإسلامي للأدب إن لم تكن مسهمة في ترك انطباع غير دقيق عن الإسلام ومثله. إن ما كتب في العصور الإسلامية المختلفة لا يصبح كله بالضرورة مادة لاستنباط الخصائص المميزة للأدب الإسلامي أو تحديد الركائز التي يقوم عليها، أو يستهدي بـها، هذا الأدب في أزمنة أخرى.

 

ولعل قائلاً يقول إن النتاجات الأدبية المتقاطعة مع القيم الإسلامية كالقصائد التي تتغنى بالخمرة الحقيقية، أو الغزلية المتهتكة المكشوفة، أو الهجائية التي لا تخدم هدفا إسلامياً، وغيرها، تبقى دائرة في فلك الأدب الإسلامي طالما أنـها انتجت في ظل الحضارة الإسلامية الخاضعة لسنن الحضارات الأخرى في عدم خلوها من الخطأ والزيغ والانحراف. وقد يقبل مثل هذا الرأي ممن ينظر إلى الأدب الإسلامي من زاوية زمنية أو ممن يتعامل معه على أنه لعبة لغوية لا رسالة عقدية. ويسعى مثل هذا الناظر في هذه الحال إلى إيجاد تأويل أو تسويغ لأي نتاج أدبي يشذ عن روح الشخصية الإسلامية. وربما يكون غريباً أن يبدي أصحاب الرؤية الإسلامية رأياً كهذا[1]، لأن هؤلاء يدركون أكثر من سواهم خطورة الكلمة في الحياة العقائدية، ولئن كان رأيهم مبنياً على اعتبار هذا الضرب من التعبير مظهراً مرَضيا يبغون تشخيصه وعلاجه لكان له وجه من القبول، ولكن الغرابة كامنة في وضع هذه النتاجات تحت عنوان \"الأدب الإسلامي \" بدعوى أنـها نتاج مجتمع إسلامي يجمع أخلاطاً من الناس وأشتاتاً من الطبائع وألواناً من القول. وينجم عن مثل هذا الفهم، بلا أدنى ريب، إخلال بالقيم التي يسعى الإسلام إلى إشاعتها وترسيخها وذلك بتقديم نماذج في اطار \"الأدب الإسلامي\" يكون ما يستنبط منها متعاكساً مع الإسلام.

 

إن انتماء الإنسان إلى الإسلام يحتم عليه ألا يكون موارباً في القضية، وألا يختار رأيا يرعى من خلاله أولئك الذين لم يستقر في قلوبـهم الإيمان. كما يجب في الوقت عينه ألا تـهوله كثرة النصوص التي لا تنسجم مع الفهم السليم للأدب الإسلامي والتي ينبغي أن توضع جانباً في دراسة التاريخ الحقيقي للأدب الإسلامي أو في السعي لإرساء معالم واضحة لنظرية أدبية إسلامية. ويبدو أن المعنى الثاني للأدب الإسلامي يحسم هذه الوجهة في الفهم والمعاجلة.

 

ب- ويتمثل هذا المعنى الثاني بجعل عبارة الأدب الإسلامي مقتصراً على النماذج الإبداعية التي تمثلت الإسلام وتشبعت بروحه وصدرت عنه، فأصبحت بالتالي نماذج عقائدية تعكس الرؤيا الإسلامية للإنسان والكون والحياة [2]وما بينها من صلات وأواصر في حاضرها المحسوس وغائبها المعتقد فيه الذي يستشرفه المسلم بقلب مؤمن مطمئن.

 

معيار الأدب الإسلامي:

ولكي يكون الأدب إسلامياً حقاً وبمعناه العقائدي فإن من الضرورة أن يتأسس ابتداءً على معرفة وقع الكلمة في ميزان الله - سبحانه وتعالى- رضاً وغضباً، وعلى إدراك دورها وأثرها في تكوين الشعور الإسلامي وبلورته عند جمهور المتلقين، وإشاعته بينهم وصولاً إلى ما يترتب على هذا الشعور من خطوات البناء الإسلامي. وإن الأديب المسلم لا يغفل عن رسالته هذه في الحياة ولا عن دور الكلمة في تحقيقها، بل إنه يرى أن الكلمة في حد ذاتـها تشكل مسؤولية خطيرة وكبيرة على حد سواء وعليه أن يحسب لها حساباً دقيقاً. ويتأتى هذا الموقف من التنشئة الإسلامية التي ينشأ عليها والتي يحدد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة طبيعتها. فقد بين القرآن الكريم أن الإنسان مسؤول إزاء كل كلمة يلفظها وذلك في قوله - سبحانه وتعالى-: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))[3]، وفي قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: \"إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله - تعالى - لا يلقي لها بالاً يهوي بـها في جهنم[4] \" أو في قوله - عليه الصلاة والسلام -: \"رحم الله امرءاً قال حقاً أو سكت[5]\".

 

ولم ترد هذه النصوص بشأن الأديب حصراً، ولكن الأديب المسلم يأخذ بـها طوعاً في أدبه ومنهجاً في حياته. وتبعاً لهذا فإنه لا يصبح أسير نتاجه بل يكون قيّماً عليه ومتحكّماً فيه ومصفّيا إياه تصفيةً إيمانية محتمة، وتأتي سيطرته على كلامه من تقوية روح المراقبة في نفسه. ولئن لم ينـزع المنشئ هذا المنـزع فإنه لا يكون أديبا اسلاميا وإن كان يعد أديبا بدون أدنى ريب. ولعل هذا هو جوهر قوله - سبحانه وتعالى-: \"والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنـهم في كل واد يهيمون، وأنـهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون\". [6] وقد اعتاد الدارسون على استلهام هذه الآية في تحديد صنفين من الشعراء: صنفٍ, تتقلّبه الأهواء والأكاذيب والادعاءات، ويفتقر المنتمون إليه إلى رادعٍ, من إيمان يزجرهم عن الكذب ويرشدهم إلى الصواب. وصنف يتسم أفراده بالصدق والمبدئية والإلتزام فيسخّرون أشعارهم، ونتاجاتـهم الفنية عموماً، للدعوة إلى الإسلام ولإشاعة قيمه ومُثُله. غير أننا إذا تدبّرنا الآية الكريمة جيداً لخلصنا إلى أن إنتاج كل من هذين الصنفين مخصوص بزمن، أما الصنف الأول المأسور بالكذب والادعاء فنتاجه جزء من الماضي سواء أكتب في الماضي حقاً أم يكتب الآن أم سيكتب لاحقاً. ويكرّس الأديب المنضوي في هذا الصنف جهوده لكي يجعل نفسه جزءاً من الماضي باستشرافه رضا الناس في زمنه واعتبار إعجابـهم به غايته الاساسية وهدفه الأول، وبانصباب سعيه من ثم على إيجاد السبل التي تكفل له قبول أولئك الناس والتفات أعناقهم إليه، لأنه، بوجه عام وطالما كان بعيداً عن الانقياد للإسلام والإئتمار به، يبحث عن مجد عاجل سرعان ما يقترن - في حالة انقضاء اليوم الذي ينتج فيه أدبه أو في حالة وفاته - بالقول: كان أدبه يمتاز بكذا وكذا..! إن هؤلاء الأدباء يكتبون للحظة الآنفة فقط، وإن بدا لهم أو أوهموا أنفسهم أنـهم يستشرفون المستقبل الآتي، وأنـهم يمهدون لمعاصريهم والأجيال التي ستأتي بعدهم الطريق التي توصل إليه. ولهذا فإن كتاباتـهم ترتـهن بالأزمنة التي يحيون فيها، وما إن تدور العجلة ويهلّ زمن جديد حتى تبرز قيم جديدة لا يستجيب لها ما كتب من أجل الماضي، فيركن على الرف، ويدرس على أنه نتاج زمن مندثر، وتكون قيمته بمقدار دلالته على زمنه. على حين أن نتاج الصنف الثاني نتاج مستقبلي، بمعنى أن الأديب المسلم الذي يذكر الله - تعالى - كثيراً ويراقبه في نفسه ولفظه سينتج نصاً يناسب تلك المراقبة، وأن هذا النص سيستجيب لشعور المسلم القادم من رحم الغيب وسيحتفظ بفاعليته وأثره ما بقي مسلم على وجه الأرض. وفضلاً عن ذلك فإن المنشئ سيجد نصه في ميزان حسناته يوم القيامة: ذلك اليوم الذي يمثل المستقبل الحقيقي الذي نتوجه اليه \"يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه. فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا\". [7] ولهذا فإن نتاج الأديب المسلم ينبع من قيم الإسلام الخالدة التي لا تختص بزمن معين، ولئن توافرت فيه شروط الاكتمال الفني فإنه سيكون نتاجاً مطلوباً ومتفاعلاً مع الإنسان المسلم مهما تعاقبت السنون. إن الأديب المسلم يدرك بوضوح تام طبيعة عمله ومغزى قوله وعاقبة لفظه، ولهذا فإنه يشعر بطمأنينة عقله وقلبه حتى وإن لم يجد التقدير اللازم المنتظر من أبناء جيلهº لأنه ببساطة شديدة يجعل رضا الله - سبحانه -لا رضا الناس- غايته المثلى وهدفه الأساس، فلا يغمّه ثمة إعراض الناس عنه ولا تكسره رماحهم.

 

إن الأمثلة الدالة على \"أدب الماضي\" و\"أدب المستقبل\" كثيرة، ويكفي أن يستعرض المرء ما يعرف من نتاج الأدباء ليتبيّن له صدق الاستدلال، ولأجل الاعانة على هذا الاستعراض يمكن لنا أن نستأنس بـهجاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - لكفار قريش، فقد كان الأولان يعيران قريشاً بالمثالب وينالان منهم حسب الوقائع والأيام، وكان ابن رواحة، - رضي الله عنه -، يعيّرهم بالكفر \"فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحة.. فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة\" [8] مع أن شعر هؤلاء جميعاً في دفاعهم عن الإسلام يمثل شعراً إسلامياً دعوياً، وأنت ترى أن شعر عبد الله بن رواحة، - رضي الله عنه -، الذي كان فيما مضى لا يعني بالنسبة إلى قريش شيئاً قد صار فيما بعد، في المستقبل القريب، الشعر الموجع المؤلم محتفظاً بحيويته إن لم يصبح أكثر حيويةً وقوةً في الزمن الجديد، وصار شعر حسان وكعب، - رضي الله عنهما -، جزءاً من الماضي، مع أنـهما كانا ينافحان عن العقيدة الإسلامية استجابة لطلب النبي - عليه الصلاة والسلام -، وأنـهما سيريان بإذن الله جهادهما الكلامي في ميزان حسناتـهما، وما ذلك إلا لأن اختياراتـهما من النبال والسهام الكلامية كانت مرهونة بأوقاتـها ودائرة على ما هو آني وممكن الزوال. وكان من نتيجة ذلك أن انحسر تأثير شعرهما بتغير الزمن وتبدل الحال. لقد كان هذا حال شعر دعوي إسلامي، فكيف إذن ستكون حال النتاجات الأدبية التي تغمس نفسها في الماضي والتي يرمي أصحابـها منها إلى عرض دنيوي زائل؟

 

وقد يفهم من هذا الكلام أن محتوى الأدب الإسلامي سينحصر في الوعظ والإرشاد ما دمنا نريد له أن يكون وعاءً لقيم الإسلام ومثله وأن يصير ذا رسالة دعوية. بل قد يفهم منه أن الأدب الإسلامي سيتصف بالمباشرة والتقريرية اللتين تسمان أية دعوة فكرية أو دينية. وعلى الرغم من أن صفةً كهذه غدت سلبية في التثقيف الأدبي، وتطلق على أعمال شتّى من أجل إخراجها من دائرة الأدب والإبداع إلا أن علينا ألا نتعجل فننفي وجودها في الأدب الإسلامي بنية حسنة وهي الحرص على إبقاء هذا الأدب في دائرة الإبداع المقبول. وعدم التعجل مردود إلى أن الوعظ والمباشرة ليسا صفةً سلبية دائماً، وإن تـهويل تأثيراتـهما السلبية صادر عن أولئك الذين يفرغون الأدب، على وجه العموم، من رسالته في الحياة. وعلى هذا فإن التركيز على \" سلبية\" هذه الصفة يخدم رؤيةً للأدب ليس من الضرورة أن نتفق معها.

 

إن الأنواع التي يعالجها الأدباء، ومنهم الإسلاميون، تتوزع بين الشعر والقصة والمسرح وتفرعاتـها. ولكل من هذه الأنواع منطقه الخاص به أو طبيعته التي يحتمها النوع نفسه. ولابد للأدب الإسلامي أن يراعي ذلك المنطق وتلك الطبيعة إذا ما أُريد له أن يكون فاعلاً ومؤثراً وجديراً بالتقدير. ولابد أيضاً أن نستوحي ذلك المنطق وتلك الطبيعة من روح الإسلام نفسه، لا أن نستوردهما من عقليات غير إسلامية ونخضع نتاجنا الإسلامي لهما، ولئن أخذنا من \"الغير\" ما نظن أنه نافعٌ لأدبنا الإسلامي فلا بد من أن يوضع ذلك \"المأخوذ\" في القالب الإسلامي ليصبح جزءاً طبيعياً من فكرنا وثقافتنا ورؤانا. فلا يراد من الشعر، مثلا، أن يكون نثراً منظوماً، وإن طبيعته لا تتحمل الوعظ والإرشاد المباشرين، ولئن حصل أن صار كذلك فعلينا ألا نخشى من القول إنه نظم مفتقر إلى الفهم الفني السليمº ذلك أن المحتوى الإسلامي وحده لا يحقق نصاً فنيا إسلاميا. بينما نرى أن الوعظ قد يكون مستسرّاً في سياق القصة والمسرحية ومفهوماً من مجريات الحدث.

 

موضوعات شعرية برؤية إسلامية، المديح:

وبغية الإسهام في استجلاء منطق الأدب الإسلامي وطبيعته أرى أن نزن الشعر، القديم خاصة، الذي يكاد يشكل النوع الفني الوحيد في تراثنا الأدبي، بميزان الإسلام لنميز الإسلامي منه من غير الإسلامي. لقد أنتج الشعراء قصائدهم من خلال لوحات متعددة، كالمديح والهجاء والرثاء.. الخ، وبدوافع مختلفة. وأحسب أن هذا الدافع هو الذي يحقق الهدف المرجو بفرز القصائد بعضها من بعض وبيان دورانـها في فلك الإسلام أو ابتعادها عنه. ولعل من الأجدى أن نستبدل الدافع بـ\" النية\" التي جعلها النبي - عليه الصلاة والسلام - أساساً لتمييز الأعمال بقوله: \"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ, ما نوى \"[9]. ويشكل هذا المعيار فيصلاً حاسماً بين الأفعال والأقوال المختلفة التي تصدر عن الإنسان. وعلى الرغم من أن النية وازع قلبي، وقد لا يطّلع عليها غير الباري - عز وجل -º إلا أننا نستطيع أن نتبينها أو نتبين أثرها في قولٍ, ما من خلال الإحاطة أو الالتفات إلى ما يكتنف ذلك القول من ظروف وملابسات. ولعلنا نستهدي في هذا السياق بأن نضرب مثلاً قصيدة \" البردة\" لكعب بن زهير، فقد أنشدها الشاعر بعد أن أعلن إسلامه، وعدّها الدارسون قصيدة مديح نبوية وشرحها كثيرون. ولا تبدو لي هذه القصيدة قصيدة مديح نبوية وإن اشتملت على معانٍ, وإرشاداتٍ, نبيلة تليق بشخصية النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -º لأن كعباً عندما نظمها، لا عندما أنشدها، لم يكن قد أسلم بعد، ولربما كانت نظرته يومئذ إلى النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - تماثل نظرته إلى أي مَلِك في زمانه، ولهذا فإنه كان يبحث عن نوال هو العفو، ولم يرم إلى الحصول على المال الذي كان المداحون يترقبونه عادة من ممدوحيهم، ومردّ ذلك إلى أن كعباً هجا النبي - عليه الصلاة والسلام - قبل ذلك وتآمر على قتله، وحين علم أن دمه قد أهدر وأن دنياه قد ضاقت عليه رأى أن الأمان الذي يريده لا يتحقق إلا بالإسلام. وقد تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كعب وقصيدته بحكمته المعروفة في إدارة المواقف والنفوس، وقدم للشاعر بردته تطييباً لخاطره لا إقراراً بإسلامية قصيدته ومكافأة له عليها. وفضلا عن ذاك، ولكي يكون نصٌ ما إسلامياً فإن من الضرورة أن يكون صاحبه متشبعاً بروح الإسلام، حتى تمتزج تلك الروح بعقله وقلبه ولفظه، وهو ما لم يتهيأ لكعب بسبب قلقه على حياته ومحدودية المدة الزمنية الفاصلة بين إسلامه وإنشاده القصيدة، علاوة على عدم ارتشافه من نبع النبوة قبل ذلك كله. بينما نرى أن قصيدة أخرى تحمل الاسم نفسه وهي قصيدة \" البردة\" للبوصيري، ولقيت هي أيضاً ذيوعاً واسعاً، وحظيت بشروحات كثيرة لاشتهارها بأنـها في مديح النبي - عليه الصلاة والسلام -، يمكن أن تعد قصيدة إسلامية لأن النية الدافعة إلى نظمها تحتم لها هذه الصفة، وذلك أن البوصيري لم يكن معاصراً للنبي - عليه الصلاة والسلام - ولم يكن النوال العاجل أو أي دافع دنيوي آخر واقفاً وراء كتابته لقصيدته، والشيء الوحيد الملموس فيها هو نفثة الحب الصادق لشخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورغبة الشاعر في أن يعمّق في نفسه وفي نفوس الآخرين الإيمان بصاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - والارتباط به برباط تعبدي متين ومميز في العقيدة الإسلامية وهو حب النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -.

 

والأمر كذلك بالنسبة إلى ما ورد في كتب الأدب عن قصيدة الفرزدق في مدح علي بن الحسين - رضي الله عنهما -[10] أي باعتبارها قصيدة إسلامية على الرغم من أن الفرزدق كان يبتعد عن هذه الجادة في كثير من أغراضه الشعرية، وهذه القصيدة مشهورة ومنها:

 

   هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم

   يغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فما يكلم إلا حين يبتسـم

 

وإن هذا الممدوح، وكما هو معلوم، هو ابن الحسين سبط النبي - عليه الصلاة والسلام - وأحد سيدي شباب أهل الجنة، والمديح الموجّه إلى أهل بيت الرسالة، رضوان الله عليهم، يمثل مديحاً موجها إلى الرسالة المطهرة نفسها وصاحبها العظيم - عليه الصلاة والسلام -، من غير أن يكون مطمع دنيوي وراء هذا المديح، ومن غير أن يصور الممدوح على أنه جنس بشري مختلف عن الناس الآخرين

 

وأما عندما يوجه الشاعر مديحه إلى خليفة أو أمير أو عظيم من العظماء فإنه يستهدف الحصول على مكسب دنيوي من مال أو منصب أو جاه، فالدنيا، وليس الإيمان، هي التي تحرك اللسان وتوجد القول. ولكي يصل الشاعر إلى هدفه فإنه غالباً ما يتجاوز الحدود المعنوية المعقولة، ويتفنن في استخراج معانٍ, مبالغ فيها لاستدرار أريحية الممدوح مما يتسبب في وقوعه في محاذير التعظيم المزيف من حيث أن ما يقوله إنما يقوله بلسانه، وأن رصيده في قلبه أقل مما يتظاهر به من جهة بناء على اعتقاده أن الممدوح قادر على أن يحقق له مبتغاه وفي تأثير ذلك التعظيم ووقعه في نفس الممدوح واعتقاده من ثم بأنه في الحقيقة على ذلك النحو الذي يظهره الشاعر فيه، من جهة أخرى. وفي كلتا الحالتين يغدو هذا الضرب من المديح هادماً لشخصيتي الشاعر والممدوح معاً من الناحية النفسية والعقائدية. ولهذا فقد ورد في الأدب المفرد للإمام البخاري عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنـهم قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احثوا التراب في وجوه المداحين\"([11]). وينبغي ألا يفهم من هذا أن الأدب الإسلامي يرفض أن يضم إليه المديح الذي يعكس جانباً من الإحساس الإنساني، ولكن الفهم الإسلامي يقيد هذا الغرض بحدود الإسلام وبضرورة ألا تكون كيفيته مسهمة في إذلال إنسان وتأليه إنسان. من ذلك قول الحسين بن مطير الأسدي في مدح المهدي [12]:

 

  لو يعبد الناس يا مهدي أفضلهم

    ما كان في الناس إلا أنت معبود

 

  أضحت يمينك من جود مصورة

    لا بل يمينك منها صوّر الجود

 

  لو أن من نوره مثقال خردلةٍ,

في السود طراً إذن لابيضت السود

 

وكقول مروان بن أبي حفصة في الهادي الخليفة العباسي [13]

 

  وجدناك في كتب الأوليـ

   ن محيي النفوس وقتّالها

 

  لقد جعل الله في راحتيك

    حياة النفوس وآجالها

 

----------------------------------------

[1] - أحمد محمد علي: الأدب الإسلامي ضرورة ص 122.

[2] - سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج ص 28، محمد قطب: منهج الفن الإسلامي ص 6، د. أحمد محمد علي: الأدب الإسلامي ضرورة ص 63.

[3] - سورة ق آية (18).

[4] - رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ينظر النووي: رياض الصالحين ص428.

[5] - رواه الهندي في كنـز العمال 3/352، وفي 3/353 روى \"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت\". ط1، 1970، مكتبة التراث الإسلامي، حلب.

[6] - سورة الشعراء الآية (224-227).

[7] - سورة الانشقاق، الآية 6-12.

[8] - جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 1/149.

[9] - من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومتفق عليه، ينظر النووي: رياض الصالحين ص29.

[10] - تراجع القصيدة في شرح ديوان الفرزدق (لايليا حاوي) 2/353-356.

[11] - البخاري: الأدب المفرد 103-104، المطبعة النموذجية 1979م.

[12] - الاصفهاني: الاغاني 16/23 ط دار الكتب.

[13] - نفسه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply