مصطلحات جديدة للأدب الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

المصطلحات الكثيرة التي يكتظ بها النقد الأدبي وتاريخ الأدب العالمية، والمدارس الفنية المختلفة مصطلحات اضطربت واختلطت، وفقد أغلبها معناه، وهذه المصطلحات ولدت في ظروف خاصة، أو ارتبط بمناسبات وأيديولوجيات ولغات معينة، بدأ ذلك منذ الإغريق بتصوراتهم الدينية والأسطورية والفلسفية، وظل توليد المصطلحات سارياً عبر العصور المختلفة، ولما جاءت النهضة العلمية الأوروبية، وبرزت إلى الساحة علوم جديدة كالفيزياء والجيولوجيا والرياضيات وعلم النفس والاجتماع والمدارس التاريخية المستحدثة، استطاعت هذه كلها أن تمد الأدب بتصورات وتفسيرات ومصطلحات جديدة، فسمعنا التأريخ النفسي أو البيولوي أو الاجتماعي للأدب، وفي إطار المذهب الواحد كما قلنا حدثت تفرعات واختلافات وتناقضات، حتى أصبح الأمر مثيراً للدهشة والحيرة.

 

فتعلوا معنا لنرى مذهباً مثل الرومانسية.. ماذا يقول العلماء الموسوعيون عنه:

الرومانتيكي مصطلح له تاريخ بالغ التعقيد، كما أن له ـ دون مبالغة ـ ما لا يحصى من الدلالات والمعاني، لقد لاحظ الباحث الأمريكي (لا فسجوي) ذات مرة أن لكلمة رومانتيكي من المعاني ما جعلها لا تكاد تعني شيئاً بالتحديد، وفي كتاب (تدهور وسقوط المثال الرومانتيكي) للوكاسن (1948) إحصاء لنحو 11396 تعريفاً لهذا المصطلح، كما أن

 

(بارزوني) لا حظ هذا المصطلح قادر على أن يدل على كل ما يريده أي كاتب من المعاني، وهو يشير إلى استخدامات له تدل على معاني: جذاب ـ متحفظ ـ عاطفي ـ خيالي ـ بلا شكل ـ استهوائي ـ خصب ـ لاعقلي ـ مادي ـ غامض ـ بدري ـ بدائي ـ زخرفي ـ واقعي ـ غبي ـ غير حقيقي ـ غيري ـ انفعالي ـ متظاهر ـ ذاتي ـ انعزالي ـ جمالي ـ شكلي ـ معنوي ـ \'نساني ـ طبيعي.. الخ حتى يصل إلى معاني جسور ـ اجتماعي ـ وحشي..

 

ولقد بدأ استخدام أصل المصطلح في (روما) بكلمة (رومانسي) التي كانت صفة تطلق على العاميات الإيطالية المتباعدة عن اللاتينية، التي كانت لغة العلم والمعرفة، أي رومانسي كانت تعني المتكلم الروماني بلا تنينية شعبية.

 

ثم كانت القصص والحكايات الخيالية هي أول ما عرف من المؤلفات بهذه اللغة، وأطلق عليها لهذا السبب ربما اسم (روماني) أو (رومانسي)، وبهذا الاسم عُرف أيضاً أي كتاب شعبي مليء بالمغامرات الخيالية، والشطحات العاطفية، والانفعالات، والأعمال الغربية التي لا ترقى إلى مستوى الأساطير القديمة، ولا تعبر عما عبرت عنه الأساطير من علاقات بالأديان الوثنية القديمة وأربابها وأبطالها.

 

وفي القرن السابع عشر أصبحت الحكاية أو الرواية من هذا النوع، أي الرومانسي، صفة لكل عمل أدبي، غريب المكان والموضوع، مثير للخيال، مسرف في مبالغته عن مشاعر أبطاله، وسلوك شخصياته وسحري، السابقة، وكلمة رومانتيكي Romantique التي أصبحت تعني: الرقيق ـ الحنون ـ المشتاق ـ الشاعري ـ العاطفي ـ الحزين، واستخدمها الإنجليز بهذه المعاني منذ القرن الثامن عشر.. ثم تبعهم الألمان.

 

ذلك مثل من أمثلة المذاهب الأدبية الشائعة، التي احتلت حيزاً ضخماً في دراسات الباحثين والنقاد، وفي كتابات المبدعين، ويبدو واضحاً من هذا (المثل) كيف تنشأ المصطلحات الأدبية، ومدى ارتباطها باللغة والعقائد والمفاهيم الفلسفية أو الاجتماعية السائدة، في مكان من الأمكنة، أو في عصر من العصور، أو في عقيدة من العقائد، هل يمكن الاعتماد على مثل هذه المذاهب والالتزام بها؟؟ إننا لا نمانع في قراءتها وفهمها، لكننا نقف بصلابة في وجه من يلتزمون بها، وبأي شيء يلتزمون وسط هذا الركام الهائل من المعاني والأفكار؟؟

 

وإذا ما تركنا (الرومانسية) واتجهنا إلى (الواقعية) وهي من أشهر المذاهب الأدبية أيضاً، وجدنا عشرات المعاني المتناقضة المتعنتة أحياناً لهذا المصطلح، فنجد الواقعية السوداء، والواقعية الاشتراكية، والواقعية المثالية، والواقعية العلمية.. الخ من الأنواع العديدة والتي أشار إليها النقاد المتخصصون في دراساتهم المختلفة، وقس على ذلك النماذج الوجودية التي ذكرنا فيما سبق اختلاف مفاهيمها وتطبيقاتها عند كتاب تلك الفلسفة، بل إن العلماء اختلفوا أيضاً في تفسير معنى كلمة الواقع بل والحقيقة أيضاً، يقول قاسم حداد: (لأن الواقع لا يمثل كياناً ثابتاً بنية ذا بنية متماسكة ـ وإنما هو مفهوم في غاية التعقيد والتشابك ـ تتعدد أبعاده واتجاهاته وتضاريسه، المرئية وغير المرئيةـ وفق التصورات والرؤى المتعددة المتناقضة) والواقع ـ كما يعلق عبد الله خليفة ـ مفهوم ذات ي، وليس وجوداً وكياناً موضوعياً، إنه مجرد تصور وليس (مجتمعا ً)، وبهذا تنتفي إمكانية فهمه بشكل علمي موضوعي، يستطيع كل منا أن يشكل مفهومه عن الواقع حسب الرؤى المتناقضة كافة، لقد تم إزالة الحقيقة الموضوعية هنا، ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع، بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً، أي أنه حتى العلم يصبح وجهة نظر ذاتية، ويمكن لأية وجهات نظر متناقضة أن تكون عملية، وبهذا يمكننا مثلاً أن نقول: إن الصراع الاجتماعي موجود، ويمكننا أيضاً أن نقول، وعلى الحالة نفسها: إنه غير موجود، ويعتبر كلا القولين علمياً، وهكذا تتم إزالة العلم باسم العلم.

 

وفي مكان آخر يقدم قاسم حداد رأياً آخر عن الواقع فيقول: (وكلما أوغلنا في أعماق الواقع، كلما اكتشفنا أعماقاً أكثر غوراً، وما المنجزات الفنية في التقنية والأسلوب والرؤية سوى محاولة ـ قابلة للنجاح والإخفاق ـ للإنسان بهذا الواقع وفهمه وتحليل جوهره) ويعود عبد الله خليفة للتعليق مرة أخرى فيقول: أي أن للواقع هنا جوهراً، يمكن الوصول إليه وتحليله، وليس مفهوماً (يتمطط) ويتشكل حسب التصورات الخاصة، أي أن للواقع وحركته قوانين مستقلة عن مزاجنا ورغاباتنا وتصوراتنا الذاتية، وحين نكتشف تلك القوانين يكون هذا هو العلم.. ومن هنا نجد ـ مما سبق ـ رأيين متناقضين: الأول، عدم قدرتنا على اكتشاف الواقع لأنه ذاتي، والثاني، يمكننا ذلك لأنه جوهر، ولكن الرأي الثاني لا يستمر طويلاً، فسرعان ما يصل إلى تعدد العلم، فبعد تلك العبارات يأتي ليقول: (ومن الطبيعي أن يظل هذا الواقع بحاجة دائمة لوجهات نظر عديدة مختلفة، تسهم في اكتشافه علمياً) فإننا نعود من جديد إلى العلم الذاتي، لأنه من المستحيل أن تكون هناك أكثر من نظرة علمية للعالم، وتكون كلها صحيحة وعلمية.. إنه تلاعب لغوي.. ومع إزالة مفهوم العلم والرؤية الموضوعية للعالم، أزيل الأساس المعرفي (للواقعية)، حيث لم يعد أمامها شيء حقيقي تكتشفه، وهنا يفتح الباب (للنزعة الشكلية) (1).

 

لقد وقع كثير من الأدباء أسرى (الشكل) من هذا المنطلق، وأخذوا يلعبون باللغة، وسقطوا في هوة البهارج والتقديس للألفاظ وتراكيبها، وكان ذلك على حساب المضامين الفكرية والعلمية والعقائدية، كما أن ذلك فتح الباب أمام الترويج للنزوات والانفعالات والغرائز باعتبارها ـ في إطار مدرسة التحليل النفسي ـ هي الباعث الأول والأهم للسلوك، وانغمس الأدباء في عبادة اللاوعي، حتى جنى ذلك لا على المضمون وحده، بل تخطى ذلك إلى رو اسخ وأسس الشكل الفني الأصيل..

 

يمكننا أن ننتقل من الرومانسية والواقعية إلى الرمزية إلى اللامعقول وإلى الطبيعة والبرنانسية والعلمية وغيرها من المدارس الأدبية المختلفة لنتأكد من مدى العبث الذي يحيط بالمصطلحات، والذي لا يخلف وراءه غير مزيد من الحيرة والضياع والتخبط والإفلاس، ويمكننا ـ اختصاراً للوقت والصفحات ـ أن نحيل القارئ إلى الموسوعات النقدية سوف يتأكد له ما أشرنا إيجازاً مع ضرب المثلين السابقين، من أن موضوع المصطلحات الأدبية أو النقدية من المؤمنين بأهمية الأدب الإسلامي وقفة موضوعية..

 

إنني أريد أن أقول إن علينا أن نبحث عن مصطلحات جديدة

 

مصطلحات لها ارتباط وثيق بتراثنا، وبالتجاوب الأدبية والتاريخية التي مرت بنا، وبالعقيدة التي نؤمن بها، بدلاً من العيش في ظل المصطلحات الأجنبية المستوردة التي كان لها أعمق وأخطر الأثر في انحراف مسيرتنا الأدبية الإسلامية.. نعم كان لها أخطر الأثر، ويكفي أن نقول: إننا جميعاً نردد المصطلحات ونحاول أن نلبسها الزي العربي أو الإسلامي، وإذا كان هذا اضطراراً في بداية النهضة الأدبية، فإنه اليوم بات حراماً إن صح التعبير، وعلينا أن نجد في البحث عن مصطلحات جديدة بدلاً من الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو غيرها، أرجو ألا يستفز هذا القول الأخوة الكتاب من الإسلاميين أو غير الإسلاميين، لأن البحث عن شخصية مستقلة ليس أمراً هيناً، وإن لم نستطعه اليوم، فلا بد أن نحققه غداً بإذن الله.

 

وأواجه ندائي على وجه الخصوص إلى النقاد الإسلاميين، وإلى أساتذة الجامعات في العالم الإسلامي، وهذا بالتبعية يقتضي أن نعيد النظر في تراث أدٍ,بائنا القدامى والمحدثين الذين ارتبطوا بقيم الإسلام وتقاليد مجتمعاته السامية، واستوعبوا ثقافته وكتابه وسنة نبيه وفقهائه وأدبائه وقادة الفكر فيه..ولن تتضح ملامح الأدب الإسلامي أو تستكمل إلا بالاهتمام بهذا الجانب الحيوي..جانب المصطلحات الخاصة بأدبنا الإسلامي.

 

والله أسأل أن يفتح أمامنا أبواب التوفيق والنجاح، وأن يلهمنا الرشد إنه على ما يشاء قدير..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply