اللعبة القذرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 لا تدري منذ متى بدأت تشعر بالتغير وبالخوف من هذا التغير الذي لم يأت فجأة.. لكنها الآن بدأت تشعر بحدته، لقد تغيرت حياتها كلها وتغير كل شيء حولها، لون السماء ورائحة الهواء، وجوه الناس والشعور بالأمان، وانعدام الثقة حتى بجدران بيتها.. منذ فوز جبهة الإنقاذ بالانتخابات، و قيام الجيش بالانقلاب عليها وإلغاء الانتخابات في عام(92) لم تكن تستطيع أن تفهم كيف شيء عام كهذا أن يؤثر على شيء خاص كعلاقتها بزوجها... كل هذا التأثير المتجذر الحاضر بقوة، لعل ذلك يعود لأنهم جزائريون.. وهم يختلفون عن أي شعب آخر بشعورهم بتفرد ذواتهم.. تربوا على حب الحرية.. لم يفسد الترف ذواتهم واعتزازهم بهذا التراث العظيم.. لا تنفصل أبدًا عنهم، لقد كانت شيئًا واحدًا.. جينات تتوارثها الأجيال منذ جاء بها عقبة بن نافع وجنده لهذه الجهة من العالم.. وهي تحمل ذلك من أسلافها في جيناتها كجزائرية تربت على ألا تعيش في عزلة عن قومها.. فكرت بكل هذا وهي تزيح ستائر النافذة لتفسح لضوء الصباح بالدخول.. أشعة الشمس تدخل مثيرة خيوطًا صغيرة.. أحضرت رزمة الجرائد ووضعتها على جانب الطاولة التي صفت عليها صحون الفطور.. عندما جاءت بالقهوة كان (عامر) لا يزال يتناول إفطاره.. تناولت إحدى الصحف وهي تسأل:

- منذ ترقيتك لم تداوم يومًا واحدًا بملابس رتبتك الجديدة؟!

رد وهو يرشف من فنجان الشاي:

- ليس هناك إلزام.. عدا المناسبات الرسمية.

عادت لقراءة الصحيفة.. وساد صمت طويل لا يقطعه سوى صوت مضغه ورميه لحبات نوى الزيتون في الصحن الفارغ... قطعته هي فجأة قائلة ووجهها مختف بين صفحتي الجريدة:

- لا أدري كيف يحدث هذا... قرية تبعد أقل من 500 م/ عن مركز حراسة وثكنة للجيش يعتدى عليهم وينحرون كالخراف.. من الساعة الرابعة فجرًا وإلى السابعة صباحًا ولا يدري بهم أحد ماذا تفعل هذه الحراسة.

قاطعها وفمه مليء بالطعام وقد توقف عن المضغ وبقى فمه منتفخًا من جهة واحدة:

- أهذا مكتوب هنا في الجريدة أم هو رأيك أنت؟

ردت بهدوء وهي تطوي الصحيفة على الخبر وتعتدل في جلستها:

- ها هو...

تناول الصحيفة، مرر عيونه سريعًا بين أسطر الخبر.. مسح فمه بمنديل.. قالت مستطردة بهدوء:

- كيف تُغير هذه الجماعات على أسرها، هذه القرى التي لا يوجد بها سوى العجائز والأطفال وأمهاتهم فالآباء هم من المقبوض عليهم أو المطاردين.. كيف يغيرون على قرى خالية من الرجال؟! ألا ترى أن هذا غير منطقي؟!.. لم يرد ولم يعجبه حديثها كما ظنت، رمى الصحيفة وتناول معطفه وخرج وهو يتمتم ببعض الكلمات التي لم تسمعها.. أغلق الباب بشدة خلفه.. تساءلت بذهول (هل هذا هو الرجل الذي اخترته؟!! ) ظلت جالسة في ذهولها تنظر إلى مكانه الفارغ وتتساءل بمرارة، ماذا بقي في ذاكرتها من ذلك الرجل الذي تزوجته، لقد تغير مثلما تغير كل شيء من حولها، كانت تقلب نظرها بأرجاء البيت عندما رأت نفسها خلال جولان بصرها في مرآة على أحد جدران الصالة نظرت لنفسها بالمرآة.. شعرت بالضيق لعدم تأكدها من مدى التغير الذي طالها من جراء كل ما يحدث. لعل هذا جعلها تشعر بمدى استلابها بعد انحدار الأمور بينهما للأسوأ خلال السنوات الثلاث الأخيرة.. فقبل ترقيته الأخيرة طلب منها التخلي عن غطاء رأسه لأن ذلك يؤثر على عمله بصورة ما.. وبرغم أنه تزوجها وهي محجبة، إلا أنه أفلح بإقناعها بأن هذا لفترة ما فقط، وأنه بإمكانها أن ترتديه بعد ذلك.. كان طلبًا كبيرًا وتنازلاً لم تدرك توابعهº إلا أنها رضخت له، لعل ذلك يسهم في تحسين الأوضاع بينهما، لكن شيئًا من ذلك لم يحدثº بل على العكس وجدت أوضاعه في العمل تتحسن و أصبح يمضي وقتًا أطول هناك، ووجدت نفسها (فجأة) شيئًا من الأشياء الأخرى في الشقة لا تختلف عن أي قطعة أثاث موجودة بها، حتى إنه قد يمر اليوم بأكمله بدون أن يتبادلا أية جملة كاملة ويكتفيان بنعم أو لا، هنا أو هناك.. تذكرت بحزن ذلك الظهر الذي عادت به من عند الطبيب لتخبره بأن فرصة أن تصبح أمًّا قد زادت وأن بإمكانها الآن تناول المخصبات.. تلقى الخبر ببرود وقال متسائلاً:

- مما تشكو حياتنا.. لِمَا نربكها بشخص آخر؟

ردت عليه بذهول غير مصدقة ما تسمع:

- هل تسمي إنجابنا لطفل إرباكاً!! هل هذا كل ما تشعر به!!

هذه المحادثة جعلتها تفكر بطريقة أكثر عمقًا.. فقد كانت تعتقد في البداية أن ذلك مجرد ضغوطات عمل وهي تعرف مدى طموحه وحبه الجامح لعمله الذي كان يخيفها أحيانًا.. حينما كان يحدثها عن طموحاته في تلك الأمسيات التي كانا يقضيانها معًا في منزلهما أو في الخارج قبل أن يستولي إدمان العمل عليه. خيل إليها أن الأمر واضح منذ البداية.. لكنها لم ترغب برؤية الحقيقة، وأن الأمر لا علاقة له بالعمل ولا بضغوطاته.. كيف بإمكانها أن تتغافل وتخدع نفسها إلى هذه الدرجة... لقد كانت هناك امرأة أخرى طوال الوقت بينهما.. لم ترها أولم ترغب برؤيتها.. لكنها بالفعل كانت موجودة ومنذ زمن بعيد.. لكنها لم تكن بمثل هذا الحضور القوي من قبل.. لطالما أكلتها الحيرة، كيف كان بإمكانه حينما كان ملازمًا و نقيبًا صغيرًا وكانت هي تعمل في شركة كان يذهب ليأخذ لها الأذن بالسفر معه إلى فرنسا في دوراته التدريبية.. و بعد أن استغنت الشركة عن خدماتها و تم تسريحها وبعد أن أصبحت بلا عمل أخذ يتملص من اصطحابها معه بحجة أن طبيعة عمله قد اختلفت، وأن الرحلة عمل محض وفي أماكن عسكرية بعيدة عن المدن، وأنها لن تكون سعيدة إذا أخذها معه.. فظروفها قاسية.. ولا راحة أو فسحة خلالها..

نظرت لنفسها.. ابتسمت ابتسامة صفراء(هل كان كل هذا غباء أم ماذا؟) لم تكن تعلم كيف وصلت حياتها لهذا الحد لكنها تعلم الآن أنها مسؤولة بشكل ما كبير عما حدث....

في المساء حينما أخذت مضجعها إلى جانبه كان يرد على بعض المكالمات بردود مقتضبة ويعود إلى تصفح جريدته بنفس الطريقة غير المبالية والخالية من أي تعبير، واكتشفت طوال هذا الوقت وهي تنظر إليه أنه لم يكن من السهل أبدًا عليها أن تعرف ما رأيه فيما يقرأ، وبصف من هو يقف... استيقظت من تأملاتها على صوته وهو ينظر إليها باستغراب:

- إلى أين وصلت؟

ردت بهدوء:

- لم أغادر هذه الغرفة..

واعتبرت هذا تمهيدًا لحوار كانت تتوق له منذ زمن.. لكنه ابتسم وأدار ظهره بسرعة متمنيًا لها ليلة طيبة... وبقيت هي وحدها في السرير مستيقظة تنظر للسقف.

استيقظت في الصباح ولم تجده.. بقيت طويلاً في السرير تحتضن لحافها. كان الملل من بداية يوم جديد يسيطر عليها لقد كانت تفضل أن تعرف ما فاتها معرفته في الأيام الماضية.. (آه) رددت ذلك... قبل أن تثب من فراشها كلبؤة، (إن كانت هناك امرأة فلابد أنه يحتفظ بشيء لها (كحال العشاق السريين) انقضت على غرفة الملابس فتشت في دولاب ملابسه، بين جيوبه، داخل جواربه.. بحقائب فرنسا التي يأخذها معه.. التي كانت نظيفة تمامًا حتى من وجود فواتير لفندق أومشتريات أومناديل أو أشياء لأماكن مميزة كان هناك فقط بعض المذكرات باللغة الفرنسية.. ولم تجد بين حقائبه عن حقيبة سوداء كان يأخذها معه هنا في مهماته الداخلية التي يأتيه الأمر بالخروج لها بعد منتصف الليل أو قبيل الفجر.. بحثت عنها في كل مكان لكنها لم تكن بين الحقائب.. أعادت بعناية كل شيء إلى مكانه.. محاولة ألا تحدث تغييرًا.. ثم خرجت للكراج حيث تقبع سيارته الخاصة التي لا يستعملها كثيرًا ويفضل عليها السيارة الرسمية لعملهº كانت مغبرة ومغلقة ولم تستطع رؤية ما بداخلها.. بحثت عن المفتاح بين الأرفف وتحت الكراتين الضخمة التي تملأ رفا كاملاً، صعدت سلمًا صغيرًا لتبحث تحت الكراتين، سقط أحد الكراتين محدثًا عاصفة من الغبار.. لم يكن هناك سوى الغبار.. نزلت لتلتقط ما وقع ودهشت لكميات من الجلابيب الصفراء والسراويل والعمائم المكدسة، قلبت ببطء وذهول ما بالكرتون.. كان هناك عدد من النعال بينها.. كانت تفوح منها رائحة قوية نفاذة تشبه رائحة الصبغ. انتابتها نوبة حادة من العطاس.. جعلتها تخرج بسرعة من المكان إلى المطبخ، تناولت كأس ماء دفعة واحدة.. نفضت ثيابها وشعرها واغتسلت... تساءلت وهي تغسل يديها (ما هذا؟. ما هذه القمامة!).. لم تجد شيئًا ذا قيمة مما كانت تبحث عنه، قالت لنفسها بأن هذا لا يمكن أن يكون كل شيء... وفطنت فجأة للحقيبة السوداء التي كانت تراها معه عندما يعود ليلا.. تساءلت (أين يمكن إخفاؤها).. تناولت الهاتف وأدارت رقم مكتبه.. سمعت صوته متسائلا.. بادرته.. بتحية قصيرة ثم قالت بصوت حاولت أن يكون عاديًّا:

- أريد مفاتيح السيارة؟ أريد الخروج بها..

رد سريعًا:

- لما لا أرسل لك سيارة بسائقها؟.. أفضل!

قاطعته بإصرار بشكل حاسم:

- لا.. أريد أن أفعل ذلك بنفسي.. تباطأت قبل أن تلحق ذلك بكلمة (شكرًا).

جاءها صوته غير المبالي:

- تجدين المفاتيح بالقدح التركي في دولاب الصالة.. لقد وضعته آخر مرة هناك...

شكرته وركضت تبحث عنه في جميع أركان الصالة ووجدته فعلا بالقدح التركي، لم تصدق أن يدلها على المفاتيح بنفسه... بهدوء فتحت السيارة وأدارت محركها، بحثت في درج صغير في مقدمتها.. فتحت حقيبة السيارة الخلفية... كانت مليئة بمختلف الأغراض الملقاة بفوضى.. بعض الفؤوس وبعض الأسلحة البدائية... ووجدت ما تبحث عنه، كانت الحقيبة السوداء متوارية هناك تحتها.. أدخلت يدها تبحث داخلها.. لم يكن هناك شيء مما توقعته.. لقد كان هناك ربطة من الشعر المستعار، وعبوة دهان ما وعدد من السكاكين وعمة وعبوة دواء مظلمة بلا ملصق ولا اسم عليها، و وجدت أوراق منسوخة باللغة الفرنسية تحذر من شرب الكحول و تناول العقار وتحدد بداية مفعوله، وكم ساعة يبقى بالجسم. أخذت عددًا من حباته ووضعتها بين طيات منديل وأخفتها. في جيب بنطالها.. أغلقت الحقيبة وأعادت كل شيء إلى مكانه.... فجأة شعرت بشعر رأسها يقف وجلدها يقشعر و ينتفض وكأنها نفضات حمى. وأحست بالشوك يملأ حلقها، واستولى عليها الرعب لسبب لم تستطع تحديده.. لم تستطع الجلوس أخذت تستدير في جوانب البيت بلا هدف معين. وهي لا تفكر بشيء معين.

في المساء عندما عاد.. تكلفت كثيرًا أن تبدو غير مرتبكة وعلى سجيتها. سألها:

- أين ذهبت اليوم بالسيارة؟

ترددت بحثًا عن إجابة.. ثم قالت:

- لم أخرج غيرت رأيي..

توقعته أن يسأل عن السبب الذي جعلها تغير رأيها، ولكنه لم يفعل... أمضى الليل في مكتبه.. ولم تدر متى نامت تلك الليلة... وفي الصباح.. استيقظت متأخرة ولم تجده.. ارتدت ملابسها وخرجت على عجل.. سارت كثيرا قبل أن تدلف إلى صيدلية وتناوله منديلًا مطويًا بعناية.. وعدها الرجل غدًا.. لتعرف النتيجة... وأنه ليس بالإمكان قبل مرور24ساعة... استسلمت ببؤس عائدة إلى بيتها. أمضت اليوم بهدوء محاولة أن تهتم بنباتات المنزل التي كانت قد ذبلت واصفرت أوراقها من الإهمال... وبقيت طوال اليوم في المنزل، في اليوم التالي ِِكان عليها أن تذهب للصيدلي لتتأكد مما تفكر به.. خرجت للصيدلية مشيًا على الأقدام، كانت أقدامها ثقيلة والطريق بدا لا نهاية له.. عندما دلفت داخلة لم يكن هناك غيرها لحسن الحظ... وعندما رآها الصيدلي داخلة بدت ملامحه حذرة بعض الشيء ومتوجسة، هب واقفًا من مقعده... تناول ورقة صغيرة من الدرج و اقترب منها منحنيا على الطاولة التي كانت بينهما وقال بصوت هامس:

- ذهبت بعقاقيرك للمختبر.. هذا النوع من المهيجات من المحرم دوليًا ويستعمل.... (شعر بالحرج وبدا كأنه يبحث عن الكلمات المناسبة) في الحروب.. لإحداث أكبر قدر من الترويع والأذى الذي قد يكون وحشيًّا لا يمكن لبشر عادي احتمال رؤيته عوضًا أن يقوم هو به...

توقف هو عند هذا الحد، لكن نظرة عينيها المتسائلة وإيماءة رأسها تحثانه على الاستزادة.

قال بحرج:

- أعتقد تستعمل لمن يقومون بالتعذيب. لكن كيف حصلت عليها؟!

تناولت الورقة من يده وتمتمت بكلمات وخرجت مسرعة... وعند خروجها السريع شعرت بالعار يجللها من رأسها حتى قدميها.. شعرت بأنها تخلت عن جزء منها.. وهذا ما زايد عليها شعورها الحاد بالعار والخزي.... أقفلت الباب خلفها ببطء. كانت تجتاز الردهة بتثاقل عندما فاجأها صوته يسأل:

- أين كنت؟؟ في هذه الساعة المبكرة من النهار؟

ارتجت لسؤاله.. رغم نبرة صوته الهادئة جدًّا... وعندما نظرت إليه خيل إليها أنه يبتسم.... بذلت مجهودًا عظيمًا للسيطرة على أعصابها لم تكن أبدًا مهيأة لملاقاته في هذه اللحظة بالذات. قالت بصوت مرتعد وهي تتأخر كثيرًا في خلع حجابها:

- كالعادة.. أين سأكون؟

هنا قالت بسرعة وكأنها تذكرت شيئًا مهمًّا..

- سيارتك بمنتهى القذارة لا أستطيع استخدامها وهي بهذه الحالة....

اتسعت ابتسامته وهو يقول:

- لقد أخذت إجازة..

تمهل وكأنه كان ينتظر ردة فعل ذلك.. ثم أكمل خمسة وعشرين يومًا سنقضيها معًا..

قال ذلك بنبرة احتفالية.. في حين شعرت هي بالحيرة والارتباك ولم تعرف بماذا ترد... خيم صمت بغيض تمنت لو كان لديها القدرة على الوقوف والابتعاد من هنا بدون أن تقع.. بدا هو متفهما لحالة الإحباط التي تعيشها وعارفًا بها.. عندما ذهبت السرير متأخرة.. وجدته لا يزال مستيقظًا... لكنه سارع بمجرد دخولها إلى إغلاق المصباح الذي في ناحيته... تنفست بعمق وحمدت الله... في الصباح استيقظت متأخرة كان هو قد سبقها... بقيت قليلاً في سريرها... مستمعة إلى ما يصل إليها من جلبة وصوت صرير باب الكراج وصوت السيارة وهي تخرج منه.. قالت بتأوه (كيف أتحدث معه؟)... تمهلت في خروجها الذي كان لابد أن يحدث... كانت القهوة معدة.. صبت فنجانًا.

ذهبت لترى، خرجت من باب الكراج، كانت الأرض تحت السيارة مستنقع من المياه جراء غسيلها.. شعرت بأنه تظاهر بعدم رؤيتها. نظرت للصناديق كانت قد اختفى معظمها... سارعت بالدخول.. لحظات قصيرة لحق بها طالبًا منها الإسراع. فهو يريد الوصول قبل الغروب.. في السيارة ترك المذياع يهدر بدون أن يتابع شيء ما بعينه.. وتظاهرت هي بالنوم بينما نعست حقا لفترة ليست قصيرة.. فوجئت عند وصولها الفندق بأنه قد رتب لذلك، شعرت بالغباء فجأة وتساءلت: (ماذا أفعل هنا؟).. ساعدته بحمل الحقائب وبإخراج الملابس ووضعها بالدولاب، لحقت به بعد أن أمرها بالنزول لتناول العشاء، كان مساءً مكلفًا، لقد كان من الصعب عليها التظاهر بأن كل شيء على ما يرام أو بأن الأمور قابلة للإصلاح.... كانت طوال الوقت تسأل نفسها (لماذا أتيت معه؟!.. ماذا يجب عليّ فعله؟).

صعدا بالسيارة الجبل... كما تعودا في أيام شهر العسل والأيام التي تلته.... صعدت السيارة المرتفع بصعوبة... كانت الإطارات تنزلق عندما تطأ الحصى والأحجار الصغيرة.... تحت شجرة سرو كبيرة ركن السيارة؟؟ قال بدون أن يلتفت إليها:

- هنا.. أفضل للسيارة.. نحن نستطيع الصعود وحدنا..

لم تسمع كلماته الأخيرة، لقد كانت تتساءل بينها وبين نفسها لماذا جاءت معه؟!

كان المنظر رائعًا من الأعلى والبحر الأبيض يمتد إلى حافة الأرض..

- هل تمشين؟

أومأت برأسها وسارت معه... صعدا الجبل.. كان يسير سيرًا حثيثا وكانت تجد مشقة في اللحاق به وهو يتأبط ذراعها.. عندما وصلا لأشجار الصنوبر السامقة أطلق يدها.. ودار حول نفسه.. قائلاً وهو يبتسم:

- انظري.. نستطيع رؤية فرنسا من هنا...

عندها قالت بصوت مكتوم وجاف:

- ولكننا جزائريان..

اختفت ابتسامته.. وضاعت نظرات عينيه للحظة قصيرة... بقيا صامتين... وللحظات قبل أن تقطعه قائلة: أريد الطلاق؟

ألقت بهذه الجملة... وكأنها تلقي بحمل ثقيل... لم يردّ ولم يبد عليه أنه سمعها... أمسك يدها بعصبية.. وسار باتجاه الحافة الشاهقة للجبل، كان يمشي بنفس سرعته في البداية متأبطا ذراعها... قالت بضيق وهي تحاول تخليص ذراعها.

- لنعد للسيارة..

لكنه لم يرد ولم يبد عليه أنه يسمع.. كان واجمًا، ووجه خالٍ, من أي تعبير.. حاولت تخليص يدها من قبضته لكن بلا جدوى لقد كان يمسك بها جيدا، وكفه باردة كقطعة ثلج.. تعلم هي أن الحافة تضيق بهما، كلما صعدا للأعلى وأنها ستسقط بعد خطوات معدودة.. ظل يسير بهدوء غريب مبرمج.. يدفعها إلى الحافة.. حاولت ألا تسير بخط مستقيم بمحاذاته وأن تتأخر عنه قليلًا.. لكن رغم الجمود الذي سيطر عليه بدا واعيًا لكل محاولاتها للتملص من قبضته.. يدرك ما سيحدث بعد قليل.... كان يعلم أنه سيسقط خلفها.. وإن تأخر قليلاً فستتشبث به وستسحبه معها.. قالت بيأس:

- من أجل مَن كل هذا؟

ثم صرخت به.. وهي تشعر بحشرجة الموت:

- انظر.. فرنسا... بعيدة... بعيدة.

ثم انحنت تحت قدميه بكل قوتها.. فيما تهاوى وهو ينظر حيث أشارت..

 

*****

 

في طريق العودة لبيتها قلبت نظرها بين الطرق المؤدية للقرى الصغيرة والمحروسة بالجوع والخوف.

ضحكت بألم لأنها فقط عائدة من أجل ملابسها... لاشيء بقي لها سوى ملابس

عندما عادت كان الرصيف الموازي لجدار لمنزلها مفروشا بالصحف اليومية وعلى الصفحات الأولى..

كانت الخطوط العريضة لها تتحدث عن مقتل 16 شخصًا ينتمون لمجموعة إرهابية في قرية تبعد 300كيلو عن الرياض... دخلت متثاقلة بيتها وبيدها الواهنة دفعت الباب.. دفعة لم تكن كافية لإغلاقه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply