تحدثنا في العدد السابق أنهم قليلون هم أولئك الذين سمعوا باسم أديب العربية والإسلام العملاق \"مصطفى صادق الرافعي\" من الجيل الجديد من أبناء هذه الأمة. وأن أقلٌّ منهم بكثير أولئك الذين قرؤوا له أو تعرَّفوا على إبداعه الأدبي والفكري والفلسفي. إلى درجة أن المرء يكاد يوقن أن طبقاتٍ, كثيفة من التعتيم غطَّت على عطاء هذا الإنسان المُبدع حتى عند الأجيال السابقة، وحتى عند من سمعَ به أو قرأ له فيها.
وذكرنا أننا نهدف إلى أن نقرأ إنتاجهُ قراءةً نبحثُ فيها عن بعض الجوانب الفلسفية العميقة التي تحتوي على إشاراتٍ, فكريةٍ, وتربوية يندر أن نجدها في الكتابات المعاصرة بهذا العُمق وهذه الكثافة وهذا الأسلوب. وذلك عبر عرضِ وتحليل بعض الفقرات الواردة في كتابه الأخير \"وحي القلم\"، عسى أن يكون هذا العرض خير شاهدٍ, على نوعية العطاء، وأن يكون دعوةً إلى قراءته ودراسته بشكلٍ, أكثر شمولاً وإحاطةً من قبل المهتمين.
وإضافةً إلى المواضيع التي تحدثنا عنها في المقالة السابقة، نرى في ذلك الكتاب كيف كان التفكر في الطبيعة والتأمل في آلاء الله المبثوثة في الكون موضوعاً من المواضيع التي كانت تشغل الرافعي على الدوام. وحتى في هذه المواضيع نلمح قدرته الخارقة على النفاذ إلى أعماق سحيقة من التأملات الفلسفية ربما لا يتجاوز أحسن الأدباء عند الحديث عنها مقام الوصف الجميل والعرض المتأنّق.. أما عند الرافعي فالحديث شيءٌ آخر.. وانظر إليه كيف يبدأ الحديث عن الربيع في مقالةٍ, تحمل نفس هذا العنوان \"الربيع\":
\"خرجتُ أشهدُ الطبيعة كيف تصبحُ كالمعشوق الجميل، لا يُقدّم لعاشقه إلا أسباب حبّه! وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسّة لمس المعاني الجميلة! … وكنتُ كالقلب المهجور الحزين، وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضه. ألا كم آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أُخرج آدم من الجنة! ومع ذلك فالتاريخ يعيد نفسه في القلب، لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طُرِدَ من الجنة لساعته.. \"1
ثم يمضي بعد برهة للتفكر في رموز الطبيعة، محاولاً فهم لغتها وإدراك كنه رسائلها التي ترسلها إلى كل من فتح الله قلبه وأنار عقله بأنوار الحكمة واليقين، ليقول: \"وماذا يفهم العُشّاق من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟ أتُشير لهم بالزهر إلى أن عمر اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟ أتُعلمهم أن الفرق بين جميلٍ, وجميل، كالفرق بين اللون واللون، وبين الرائحة والرائحة؟ أتُناجيهم بأن أيام الحب صورُ أيام لا حقائق لها؟ أم تقول الطبيعة: إن كل هذا لأنك أيتها الحشرات لا تنخدعين إلا بكل هذا…؟ \"
وبمثل هذه الكلمات يأخذنا الرافعي في رحلةٍ, رائعةٍ, تصل ما بين عالم الطبيعة والإنسان من مسافاتٍ, يظنها البعض شاسعة، رحلةٍ, تُظهر حقيقة الارتباط بين مختلف العناصر، وحقيقة التناسق الجميل في المشهد الكوني الباهر الكبير.. وأهم من ذلك كله، حقيقة التوحيد التي يصدر عنها هذا الكون المترابط المتناسق الجميل، ذلك التوحيد الذي تتجلى آثاره في قوانين الوجود وسننه الثابتة، و التي تضطرد في عوالم الإنسان والحيوان والنبات بتشابهٍ, معجزٍ, لا يوحي إلا بالإشارة إلى المصدر الواحد..
ثم ينتقل كاتبنا في آخر مقالته معقباً على الآية الكريمة {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} ومعلقاً على مشاعر الراحة والطمأنينة والسرور التي يمكن أن تملأ كل مهموم أو حزين يحاول الخروج من أسر همه وحزنه بالخروج إلى أحضان الطبيعة، بقوله: \"وانظر كيف يخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تُبهج كل حيّ، بالطريقة التي يفهمها كل حيّ. وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة. وانظر إلى الحشرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملؤها وتطمئن. انظر انظر! أليس كل ذلك رداً على اليأس بكلمة: لا..؟ \"2
ومن أجمل مقالاته تلك التي تأتي تعبيراً عن مشاعره في موقفٍ, شديد الخصوصية مثل تلك المقالة التي سطّرها في مناسبة زفاف ابنته الأولى بعنوان \"عرش الورد\".. وهاهنا نرى قدرة الرافعي على التحليل الفلسفي العميق للمعاني الكامنة خلف المشاعر الإنسانية بشكلٍ, ربما يزري بمحاولات علماء النفس والاجتماع الذين يلهثون بحثاً عن تلك المعاني في إطاراتٍ, ميكانيكيةٍ, متحجرةٍ, من التعابير والمصطلحات أين منها سلاسة كاتبنا ودقة تصويره وعذوبة ألفاظه.. فلنصغِ إليه يحدثنا عن السرور ومعانيه وكيف يكون ومتى يكون: \"لا يكون السرور دائماً إلا جديداً على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديدِ على حالةٍ, من أحوالها، فلو لم يكن في كل دينارٍ, قوةٌ جديدةٌ غيرُ التي في مثله لما سُرَّ بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له. ولو لم يكن لكل طعام جوعٌ يورده جديداً على المعدة لما هَنأ ولا مَرأ. ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضاً على نقيضه، وشيئاً مختلفاً على شيءٍ, مختلف، لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظرُ جمال، ولا إحساسٌ بهما. والطبيعة التي لا تُفلح في جعلك معها طفلاً تكون جديداً على نفسك، لن تُفلح في جعلك مسروراً بها لتكون هي جديدةً عليك\"..
ومن ذا الذي يخطر في باله أن يرى بثاقب نظرةٍ, كهذه معاني السرور والجدّة، ثم يربط بينهما عبر تلك العلاقة النفسية، ثم يعرض هذا كله في عناصر الحياة من الدينار إلى الطعام إلى الليل والنهار إلى الفصول إلى الطبيعة غير الرافعي.. - رحمه الله -.
ثمّ ما هي إلا هنيهة من الزمان، حتى يطير بنا الرافعي بعدها في آفاق أكبر وأرحب من التعبير وهو يربط ماسبق الحديث عنه من معاني السرور والفرح بمجمل طبيعة الوجود الإنساني على هذه الأرض، وهو يقول: \".. ورأيتُ وأنا في نفسي أن الفرح هو سرٌّ الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمالٌ في جمال، فإنه - تعالى - نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلقَ أوهامه في الحياة، وإخراج النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفسٍ, يحاول أن يصنعها صناعةً، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله. ويا عجباً! ينفرُ الإنسان من كلمات الاستعباد، والضّعة، والذلّة، والبؤس، والهمّ، وأمثالها، ويُنكرها ويردّها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها\"3
وإن لم يكن هذا هو الأدب في قمة ارتقائه وهذه هي الفلسفة في قمة عطائها فما ندري ما يكون الأدب أو ماذا تكون الفلسفة!.. أيكون الأدب ذلك الاستغراق المُنهكَ في وصف لحظات اللذة المادية البحتة بتفاصيلها التافهة.. تلك اللحظات التي تعتبر من اللحظات القليلة وربما الوحيدة - التي يتساوى فيها الإنسان بالحيوان، أو بالأصح تتساوى فيها مشاعرهما وأحاسيسهما، حتى لا يبقى فيها ما يميز البشر عن البهائم.. وفي السياق نفسه، أتكون الفلسفة ذلك البحث العنيد التائه في مسارات الشك والحيرة والقلق والتردد والإصرار على مخالفة النشيد الفطري الكوني المسموع والمرئي.. والذي تتجاوب مع أنغامه وتقاسيمه كل عناصر الكون..
وقد كانت المؤلفات الجغرافية لدى المسلمين خير تعبير عن \"وحدة دار الإسلام\" التي لا تفرقها الحواجز الطبيعية أو حدود الأقسام السياسية القائمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد