إحسان عباس .. خازن الأدب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أخرج إحسان عباس (1920 ـ 2003) - رحمه الله - كماً هائلاً من النصوص التراثية في شتى مجالات التدوين الثقافي العربي القديم. وفيما عدا النصوص المتعلقة بالعلوم العربية (مثل الطب والهندسة والكيمياء) وعلم الكلام والفلسفة، ما ترك إحسان عباس مجالاً صغُر أو كبُر واتسع إلا وأصدر في نطاقه نصوصاً قديمة نشرت من قبل نشرات غير علمية أو لم تنشر. فقد أعاد نشر \"وفيات الأعيان\" لابن خلكان مثلاً، لكنه نشر للمرة الأولى \"الذخيرة\" لابن بسام.

 

وقد أقبل في البداية على مشاركة زملائه وأساتذته - كما هو شأننا جميعاً في سن الشباب - في إخراج النصوص، من مثل \"خريدة القصر\" للعماد الأصفهاني (بالاشتراك مع أستاذيه أحمد أمين وشوقي ضيف)، ومن مثل \"فصل المقال في شرح كتاب الأمثال\" (بالاشتراك مع عبد المجيد عابدين)، ومن مثل \"جوامع السيرة\" لابن حزم الأندلسي (بالاشتراك مع ناصر الدين الأسد). ثم استقل منذ مطالع الستينيات بإخراج النصوص المحققة منفرداً مهما طالت أجزاؤها وتعددت، مثل \"وفيات الأعيان\" لابن خلكان، في ثمانية أجزاء (1968 - 1972)، و\"نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب\" للمقري التلمساني (1968) في ثمانية أجزاء أيضاً، و\"الذخيرة في محاسن أشعار أهل الجزيرة\" لابن بسام الشنتريني (1974 - 1979) في ثمانية أجزاء أيضاً، و\"التذكرة الحمدونية\" لابن حمدون (بالاشتراك مع شقيقه بكر) (1-8، 1987)، و\"رسائل ابن حزم الأندلسي\" (1-4، 1980 - 1983)، و\"الجليس الصالح الكافي\" للمعافى بن زكريا النهرواني (1-3، 1987)، و\"معجم الأدباء\" لياقوت الحموي (1993، في سبعة أجزاء)، وأخيراً كتاب \"الأغاني\" لأبي الفرج الأصفهاني في خمسة وعشرين جزءاً بالاشتراك مع إبراهيم السعافين وبكر عباس (2002).

 

أما المجالات الاستراتيجية - إذا صح التعبير - التي تابعها عباس في تحقيق النصوص ونشرها، فيمكن تلخيصها بالآتي:

أولاً: المجال الأندلسي. وقد بدأه بنشر رسالة لابن حزم سنة 1955 في مكتبة الخانجي بالقاهرة. وهو لا يفرّق في النصوص الأندلسية بين الأدب والتاريخ والتراجم والنوادر. لكنه أميل إلى النصوص الأدبية الشعرية والنثرية. وحجته في ذلك، ليس الميل المزاجي فحسب، بل أيضاً لأن الدارسين الآخرين من المستشرقين الإسبان والمصريين والمغاربة، عُنُوا بالنصوص التاريخية، أكثر مما عُنوا بالنصوص الأدبية الأندلسية الشعرية والنثرية، لعسرها، والتباس أصولها. ظل إحسان عباس طوال حياته مهتماً بالأندلسيات، لكن أكثر إنتاجه التأليفي والتحقيقي فيها ظهر ما بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي. اهتم بنثر ابن حزم، وسائر تآليفه، من نشر رسالة له سنة 1955، إلى جوامع السيرة سنة 1958، والتقريب لحد المنطق سنة 1959، وصولاً الى نشر رسائله كلها في أربعة مجلدات بين (1980 و1983)، وإذا أمكن اعتبار الأمثال العربية من جنس النثر، فإن عباساً نشر أولاً (بالاشتراك) \"فصل المقال في شرح كتاب الأمثال\" لأبي عبيد البكري الأندلسي (1958، 1972)، باعتبار الشارح أندلسياً، وان غلب على شرحه فقه اللغة، وليس النثر الفني. ثم أعاد نشر \"نفح الطيب\" للمقري، وهو موسوعة في أدب أهل الأندلس نثراً وشعراً وتراجم.

 

بيد أن عباساً كان أكثر اهتماماً بالشعر في الأندلس وخارجها. وقد بدأ اهتمامه التحقيقي بالنشرات العلمية لدواوين الأندلسيين والصقليين، مثل: \"ابن حمديس الصقلي (1960)، والرصافي البلنسي (1960)، والأعلى التطيلي (1963)، والكتيبة الكامنة للسان الدين ابن الخطيب في أشعار الأندلسيين (1963)، والتشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتّاني (1966)، وتحفة القادم لابن الأبّار (1986)، ومعجم الشعراء الصقليين (1995)\". على أن ذروة ما حققه عباس في مجال الشعر الأندلسي، كان ولا يزال كتاب \"الذخيرة في محاسن أشعار أهل الجزيرة\" لابن بسام الشنتريني\" إذ يتضمن إلى التراجم أكبر مجموعات أو مختارات أشعار أهل الأندلس. وهذا العمل التحقيقي فريد في بابه من حيث الإتقان في قراءة الشعر، والتمرس بتمحيصه، وتحقيق نسبته، ومقارناته، مما لم يعرفه تاريخ الدراسات الأندلسية إلى اليوم.

 

ثانياً: دواوين الشعر العربي المشرقي والنصوص النثرية العربية، مثل \"ديوان لبيد بن ربيعة\"، الشاعر المعروف، وأحد أصحاب المعلقات (1962)، و\"شعر الخوارج\" (1963)، و\"ديوان الصنوبري\" (1970)، و\"ديوان كثير عزّة\" (1971). وقد سألته لماذا اختص الشاعر المعروف بلقب \"القتّال الكلابي\" بجمع شعره ونشره (1961)، على رغم عدم أهميته، فقال إنه أراد إجراء تجربة في جمع شعر شاعر عربي قديم ضاع ديوانه، من طريق العودة إلى المجموعات الشعرية القديمة التي تورد مختارات من شعر القدماء، وما كان راضياً عن التجربة، وإن عاد إليها في جمع شعر الخوارج، الذي أدخل عليه تنقيحات كثيرة في نشرات زادت على الخمس. ولا يمكن القول هنا، مثلما ذكرنا من قبل في نشر الأندلسيات والصقليات، إنه حقق هذه الدواوين المذكورة كثيراً في كتابه العظيم عن نظرية الشعر ونقد الشعر، عند العرب. لكنني أعرف منه أن جمعه لشعر الخوارج اهتمام قديم لديه، يعود إلى عمله على النثر الديني لدى الحسن البصري (110هـ/1952)، وقد أراد بعدها أن يتأمل هذا الإبداع بدوافع دينية، في الشعر، فجمع شعر الخوارج، من تقييدات وتتبع، كما كانت عادته، على مدى عقدٍ, من الزمان (1952 - 1962).

 

ثالثاً: كتب التراجم وموسوعاتها. وقد شغلت إحسان عباس لأعوام طويلة. بدأ ذلك بـ\"نفح الطيب\" الذي سبق ذكره، ضمن أولوية الأندلسيات لديه\" لكن الاهتمام بالتراجم والسير - وهو الفن الذي اختص به المثقفون العرب على اختلاف فئاتهم حتى مطالع القرن العشرين - سايره على مدى أشمل في طِوال النصوص وقِصارها، من مثل \"وفيات الأعيان\" لابن خلّكان، وذيله \"فوات الوفيات\" لابن شاكر، وانتهاءً بـ\"معجم الأدباء\" لياقوت الحموي، الذي حقق كشفاً فيه عندما لاحظ أن مارجليوث خلط في نشره له بين كتابين من كتب ياقوت: \"معجم الشعراء\"، و\"معجم الأدباء\". ورجع عباس في إعادة النشر إلى مخطوط ظهر في عمان.

 

وقد أفصح يوماً عن سر اهتمامه بكتب التراجم\" قال لي: إن النخبة العالمة في عصور الثقافة العربية الزاهرة، كانت تتأمل ذاتها ودورها أو أدوارها، من خلال تدوين التراجم والطبقات، باعتبار ذلك مرآة لها، وتعبيراً عن مرجعيتها في تحمل العلم وتداوله وتوارثه في بيئات مفتوحة، تستند تراتيبها إلى التطوير والإنجاز. والواقع أن هذه الفكرة قديمة لدى الأستاذ عباس\" فقد ظهرت في كتابه الصغير البالغ الدلالة: \"فن السيرة\"، سنة 1956.

 

رابعاً: كتب التاريخ ونصوصه. نشر إحسان عباس جزأين من كتاب \"أنساب الأشراف\" للبلاذري (1980)، ضمن مشروع المعهد الألماني في بيروت لإعادة نشر الكتاب كله في تحقيق جديد. كما نشر الجزء الأول من \"مرآة الزمان\" لسِبط ابن الجوزي (1985). ونشر \"الدلالات السمعية\" للخُزاعي (1986)، و\"شذرات من كتب مفقودة\" (1988). وكان يميز النص التاريخي الإسلامي في نصوص الطبقات والتراجم\" بأن الأول جزء من مرجعية الدولة، بينما التراجم تعبير من جانب العلماء عن مرجعيتهم هم. وكان لديه اهتمام كبير بإعادة نشر كتاب \"العِبَر\" مع مقدمته طبعاً، لابن خلدون. وقد رأى دائماً أن نص ابن خلدون لم يُخدَم كما يجب، وكما يستحق. لكن مخطوطات \"المقدمة والتاريخ\" الكثيرة، والتي يصعب توفيرها وجمعها، حالت دون البدء بالمشروع. وقد كان مفتوناً إلى جانب ابن خلدون بالمؤرخ الأندلسي أبي مروان ابن حيان، وقد كتب دراسةً عنه، لكنه ما أقدم على نشر الأجزاء الباقية من تاريخهº لأنه كان راضياً عن نشرات محمود علي مكي، وشالميتا.

 

خامساً: كتب أدب السمر: (والتسمية لي) فهي كتب تنتمي إلى نوع أدبي أو جنس أدبي، تورد أقوالاً مأثورة واقتباسات وأشعاراً وخواطر شخصية، وفصولاً تاريخية، يدونها أديب موسوعي، مقسمة على أبواب وفصول، تضم ما يمكن تسميته اليوم: الثقافة العامة لدى النخبة العالمة العربية والمتعربة. وقد نشر عباس في نطاقها كتابين كبيرين هما: \"التذكرة الحمدونية\" (1983، 1997)، و\"الجليس الصالح\" (1987).

 

ولست أدري أين أضع كتاب \"الأغاني\"، بين دواوين الشعر أو كتب أدب السمر، لكنّ نشرته له بالاشتراك في آخر عمره - رحمه الله - ما اعتمد فيها على مخطوطات جديدة، بل جدد في قراءة النصين النثري والشعري في آلاف المواطن. وقد تتبعت ذلك في تسعة أجزاء فتحققت من قدرة عباس وزميليه على تجاوز أربع نشرات للكتاب الكبير.

 

لماذا هذا الاهتمام الموسوعي والنهضوي والنقدي\" كل ذلك معاً، لدى إحسان عباس؟ وما هو معنى التحقيق والعناية بنشر مخطوطات التراث العربي؟ وما موقع إحسان عباس وجيله في هذه العملية؟

 

نشأ إحسان عباس، وتكوّن علمياً، بين الكلية العربية في القدس، وجامعة القاهرة، خلال دراسته بالقاهرة حدثت نكبة فلسطين. وفي كلا المواطنين كان هناك نزوع نهضوي مقرون بالمزيد من الإحساس بالهوية القومية، وبالانخراط في العالم في الوقت نفسه. ولو تأملنا جيل الأساتذة الذين درس معهم إحسان عباس، لتبين لنا أنهم كانوا يملكون التوجهات ذاتها، وإن اختلفت قدراتهم وكفاياتهم ومواطن تركيزهم... يشترك هؤلاء في النزوعين النهضوي والإنساني، وفي الانفتاح على الكلاسيكيات اليونانية والأوروبية والعربية، في الوقت نفسه. ولكل منهم تقريباً أعمال تحقيقية في التراث العربي القديم، ودراسات حوله، وفي السياق نفسه إفادة من التيارات الجديدة في أوروبا ما بين الحربين. كما عرف إحسان عباس وزملاؤه في الجامعة هؤلاء الأساتذة - ويبدو أن أحمد أمين كان الأقرب إلى قلب إحسان عباس بينهم - عرفوا أيضاً نخبة من كبار المستشرقين، ومن شبابهم، كانت تأتي إلى جامعة القاهرة للإفادة والاستفادة. انفتاح، ونهم معرفي، وهمُّ نهضوي، وإيمان بالأمة ونهضتها، وانخراطها في العالم، واعتزاز بتراثها وحضارتها، وقدرتها على التواصل والتقدم والمشاركة والندية، والحساسية العالية التي أحدثتها لديه ولدى أبناء جيله المأساة في فلسطين.كل ذلك أفضى به وبآخرين كثيرين من زملائه وأبناء جيله إلى الاندفاع في التجديد العلمي والأكاديمي، وإلى الإقبال على إخراج نصوص التراث القديم، من أجل إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بالمناهج الجديدة، ومن أجل تخليد تلك النصوص، باعتبارها جزءاً أساسياً في ماضينا السياسي والثقافي والرمزي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply