الإجهاض


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع الإجهاض موضوع واسع يحتاج إلى دراسات متعمقة وأوقات كثيرة، وإن حديثنا اليوم هو عن الإجهاض القسري وبالذات عن إجهاض الجنين المشوه ولكن قبل ذلك لا بد من الحديث بشكل موجز عن بعض القضايا المهمة والتي تمهد للموضوع.

أولاً: الإجهاض في وقتنا الحاضر مشكلة منتشرة بشكل رهيب في العالم أجمع وحتى في مجتمعنا الفلسطيني ولكن بسبب عدم وجود إحصائيات ومعلومات دقيقة فإنها غير ظاهرة للعيان لأن كثيراً من حالات الإجهاض تتم بشكل سري.

والإحصائيات التي نشرت في العالم الغربي مخيفة فعلى سبيل المثال:

1. تقدر حالات الإجهاض بأكثر من خمسين مليون حالة في العالم، وقد نتج عنها أكثر من مئتي ألف حالة لوفاة الأمهات.

 

2. في الولايات المتحدة الأمريكية تجري حالة إجهاض واحدة مقابل كل ثلاث ولادات طبيعية، وبلغ عدد حالات الإجهاض في الولايات المتحدة مليون وستمئة ألف حالة سنة 1973.

 

3.89% من حالات الإجهاض كانت بسبب حمل غير شرعي.

 

4. في البرتغال وإسبانيا مليون حالة إجهاض كل سنة.

 

5. في مدينة مانيلا عاصمة الفلبين مئة ألف حالة إجهاض سنوياً.

 

6. وفي العالم العربي والإسلامي الإجهاض موجود ومنتشر ولكن لم أطلع على أية إحصائيات.

 

ثانياً: الإجهاض من العوامل المساعدة على انتشار الزنا بشكل كبير على الرغم من انتشار وسائل منع الحمل المختلفة تتم هذه الأعداد الكبيرة من عمليات الإجهاض.

 

ففي الولايات المتحدة ثلث طالبات المدارس الثانوية يحملن من زنا ويوجد عيادات لمنع الحمل في المدارس ويتم تدريس وسائل منع الحمل للفتيات ومع ذلك فالإجهاض في ارتفاع مستمر.

 

ثالثاً: من الأمور البدهية أن الإسلام اعتبر النفس البشرية معصومة وحافظ عليها بل حفظ النفس إحدى الضرورات الخمس، قال الله - تعالى -: (وَلَا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ).

 

والجنين داخل في ذلك ومن المعروف أن النبي لم يقم الحد على المرأة التي جاءت معترفة بالزنا لأنها حامل وأخر إقامة الحد إلى أن وضعت حملها وأرضعته ثم فطمته.

 

ومن المعلوم عند العلماء أن للجنين أهلية وجوب وإن كانت ناقصة تثبت له بعض الحقوق المعروفة عند الفقهاء.

 

وإن الشريعة الإسلامية أوجبت العقوبة المالية على من أسقط الجنين كما ورد في الحديث الصحيح أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي بغرة عبد أو أمة ويقدر ذلك بـِ 5% من الدية وأوجب جماعة من الفقهاء الكفارة على من تسبب في إسقاط الجنين.

 

رابعاً: موقف الفقهاء من الإجهاض:

اتفق الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين أي بعد انقضاء أربعة أشهر على الحمل (120) يوماً كما هو مذهب أكثر العلماء في أن الروح تنفخ في البدن بعد هذه المدة وعلى هذا يدل حديث عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثلَ ذلك ثم يكون في ذلك مضغةً مثلَ ذلك ثم يُرسَلُ الملَك فينفُخ فيه الروح ويُؤمَرُ بأربع كلمات بكتبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

 

ومعظم الفقهاء يمنعون الإجهاض في هذه الحالة مطلقاً، واستثنى بعضهم حالة واحدة من هذا المنع وهي إذا تأكد وثبت أن استمرار الحمل يشكل خطراً أكيداً على حياة الأم فأجازوا إجهاض الحمل مهما كان عمر الجنين.

 

والحقيقة أن هذا الاستثناء وجيه، لأنه عند الموازنة بين حياة الأم وحياة الجنين تقدم حياة الأم لأنها أصله وهو فرع لها والفرع لا يكون سبباً في إعدام الأصل.

فالإجهاض في هذه المرحلة يُعد جريمةً محرمةً ولا يُستباح هذا الحرام إلا في حالة الضرورة فقط.

أما الإجهاض قبل الأربعة أشهر فهو محل خلاف بين أهل العلم والمسألة محل اجتهاد لأنه لا يوجد نصوص شرعية صريحة في المسألة لذا تعددت أقوال العلماء فيها:

فمنهم من رأى أنه يجوز الإجهاض خلال هذه المدة بشرط موافقة الزوجين.

ومنهم من يرى جوازه مع الكراهة.

ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى وكرهه بعدها.

ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى وحرّمه بعدها.

ومنهم من حرّمه مطلقاً أي بمجرد وقوع المني في الرحم وثبوت العلوق.

وهذا هو القول المعتمد عند المالكية وهو قول الإمام الغزالي ومن تابعه من الشافعية وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الحنابلة وجماعة آخرين من أهل العلم من الظاهرية والشيعة وغيرهم.

وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من العلماء المعاصرين كالشيخ محمود شلتوت والشيخ القرضاوي والشيخ وهبه الزحيلي واختاره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة وعليه عدد كبير من العلماء المعاصرين.

وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.

 

إذن لا يجوز الإجهاض قبل 120 يوماً، إلا لعذر شرعي مقبول ومن تلك الأعذار تشوه الجنين تشوهاً خطيراً أكيداً سأذكره فيما بعد.

 

وعلى كل حال فإن الإجهاض قبل الأربعة أشهر الأولى أخف منه بعدها لأن المسألة هنا محل اختلاف بين العلماء بخلاف الأخرى فهي متفق عليها.

 

وكما قال أبو حامد الغزالي: [وليس هذا - أي العزل - كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله مراتب: وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال) إحياء علوم الدين 2/53.

كما أنه من الصعوبة بمكان أن نسوي بين الجنين في الحالتين أي قبل الأربعة أشهر وبعدها.

 

إجهاض الجنين المشوه:

إن معرفة تشوهات الجنين من القضايا المستجدة في الطب، وعلم الطب تقدم تقدماً ملحوظاً في معرفة أسباب التشوهات لدى الجنين كالفحص بالموجات فوق الصوتية وبالمنظار وإجراء فحوصات الدم للمرأة الحامل وللجنين أيضاً وغير ذلك من الوسائل.

 

فما هو الحكم الشرعي في إسقاط الجنين المشوه؟

أولاً: لا بد أن نقول وعلى قاعدة درهم وقاية خير من قنطار علاج إن الإسلام يحث على الوقاية من الأسباب التي تؤدي إلى تشوه الجنين وينبغي الأخذ بهذه الأسباب كامتناع الحامل عن التعرض للأشعة والامتناع عن استخدام الأدوية والعقاقير التي قد ينتج عنها تشوه الجنين.

كما أن الإسلام قد حثَّ على حفظ الصحة والبعد عن الزنا وشرب الخمر وتناول المخدرات والتدخين وغير ذلك من الأمور التي قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بصحة الأم والجنين.

 

كما أن حسن اختيار الزوجة له دور في ذلك كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (تخيروا لنطفكم) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.

وكذلك تغريب النكاح على رأي جماعة من العلماء والأطباء له دور في ذلك.

 

وكذلك فإن إجراء فحص للخاطبين قبل الزواج قد يفيد في ذلك.

 

 إن اتباع هدي الإسلام هو الطريق الأمثل في الوقاية من التشوهات وغيرها من الأمراض.

فخطوة الوقاية خطوة هامةً جداً لمنع التشوهات.

 

ولكن إذا قدّر الله - سبحانه وتعالى - تشوه الجنين لسبب أو لآخر فما هو الموقف الشرعي من ذلك؟

أولاً: يقول الأطباء هنالك نسبةٌ معينةٌ من التشوهات يمكن للجنين أن يعيش معها بعد الولادة وبعض هذه التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة مثل تشوهات المعدة والأمعاء.

وهنالك تشوهاتٌ خطيرةٌ لا يُرجى معها للجنين حياة بعد الولادة فهو سيموت قطعاً عند الولادة أو بعيدها مباشرة.

هذا كلام الأطباء ولا بد من ملاحظة أنه لا زالت إلى يومنا هذا وعلى الرغم من تقدم العلم والطب مشكلةٌ في دقة تشخيص التشوهات بشكل موثوق تماماً.

 

وبناءً على هذا التقسيم للتشوهات يمكن أن نقول إنه إذا كانت نسبة احتمال حصول تشوه الجنين عالية وكان الجنين لا يمكن أن يعيش فإنه يجوز إسقاطه ما دام الحمل ضمن الأربعة أشهر الأولى أي قبل 120 يوماً بمعنى آخر قبل نفخ الروح.

 

 أما إذا أظهرت الفحوصات التشخيصية أن هنالك تشوهات في الجنين من الأنواع التي لا تؤثر على حياة الجنين أو كانت التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة أو يمكن للجنين أن يعيش مع وجود تلك التشوهات فلا يجوز إسقاط الجنين ضمن المئة والعشرين يوماً أي أربعة أشهر.

 

وهذا القول عليه كثير من علماء العصر وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة فقد جاء في قرار المجمع المذكور ما نصه: [قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات وبناءً على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية أن الجنين مشوه تشويهاً خطيراً غير قابل للعلاج وأنه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلاماً عليه وعلى أهله فعندئذٍ, يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين.

والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر] قرارات مجمع الفقه الإسلامي ص 123.

وينبغي التنبيه على أنه يجب أن تقرر حقيقة التشوهات - قبل القيام بإسقاط الجنين - لجنة طبية مختصة لا يقل عدد أعضاءها عن ثلاثة ولا يكفي قول طبيب واحد مهما بلغ من العلم.

وخاصة أنه قد ثبت في حالات عديدة خطأ الطبيب في التشخيص - تذكر بعض الحالات -.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply