دراسة في ملحمة الإصلاح


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في زمن تراجعت فيه الثقافة، وانهار فيه الأدب، وكَبَّلَ البطش والكبت القلوب والعقول، وكادت تموت المواهب والعقول المفكرةº يخرج علينا الشاعر الأستاذ عبد الله الحامد بقصيدته الطويلة التي سماها \"ملحمة الإصلاح\" فيعيد إلينا الثقة بأدبنا العربي، ويأخذ بأدبنا خطوة خطوة عبر تجربته القاسية التي ولدت هذه القصيدة، ومما يعطي هذه القصيدة قيمتها وجدارتها أنها عبرت عن حال أعداد كثيرة يصعب حصرها - بل يستحيل - في ظل حكم هذه الأنظمة التي لم تفلح إلا في حرب الدعاة والمصلحين - فهناك أناس من بني آدم = بني الإنسان = لا حصر لهم مروا بتجربة الشاعر وبأشد منها ولكنهم لم يخلدوها، ولم تتح لهم الفرصة كي يكتبوا عنهاº لأسباب ذاتية أو خارجية.

 

لست أريد تناول هذه القصيدة بالنقد التقليدي البارد فأقول: أجاد الشاعر هنا، وقصر هناك، وحبذا لو أبدل هذه الكلمة بكذا، وليته فصل هذا واختصر ذلك... فهذا ليس من مهمتي، ولا من منهج هذه المجلة. ولكني - مدفوعاً بإعجابي - أريد أن أنوه بالسمة البارزة في هذه القصيدة وهي الصدق بمعنييه الفني والأخلاقي.

 

- فأما الصدق الأخلاقي فيتجلى من حال الشاعر، فقد مر بتجربة الاعتقال من أجل ما يؤمن به، وهو العقيدة الإسلامية وما ينبثق عنها من أحكام نظرية وعملية. فهو شاعر صاحب قضية لا يتخلى عنها على الرغم من المحن والخطوب، ولا يثنيه عن الإيمان بها ترهيب أو ترغيب، يدخل السجن مؤمناً بها، ويخرج وهو أقوى إيماناً، بل تراه بعد خروجه يركب الصعب، ويترك الترخص، مع أنه أخذت عليه - من قبل الظلمة - العهود، وكتبت المحاضر التي أجبر على التوقيع عليها، لكنه ما إن يتنسم هواء الحرية حتى يهزأ بهذه العهود والمحاضر والأختام والتواقيع والبخور الذي كتبت في ظل دخانه، يهزأ بها لأنه - ابتداءً - لا يؤمن بها ولا يراها شيئاً لأنها أخذت تحت الإكراه، وكتبت تحت سمع وبصر الجلاوزة:

 

جلوا صارماً وتلوا باطلاً ***وقالوا صدقنا، فقلنا: نعم!

 

ما قيمة هذه الـ (نعم) وأي إنسان عاقل - بله أن يكون عربياً حراً، ومسلماً شامخ الرأس - يأبه بها؟!

 

هاهو ذا - مصداقاً لهذا الهزء بمثل هذه المحاضر الذي تستحقه ولا تستحق غيره - يكتب هذه القصيدة ويذيعها بين الناس، ويذيلها بتوقيعه، وهذه هي أفكاره الأخيرة، كتبت تحت الشمس وفي الهواء الطلق، وهي التي تنسخ ما كتب في دهاليز التعذيب، كتبته أنامل قضاة السوء ومحققي التزوير وشهد عليه الجلادون.

 

ما أقصر نظر أهل هذه المحاضر، وما أبين خداعهم لأنفسهم، حيث يسوِّل لهم انصياع عدد من الناس - يقل أو يكثر - لمضمون هذه المحاضر بلجم الألسنة، وتكميم الأفواهº أنهم قادرون على أن يضمنوا سكوت الجميع بلا استثناء، وينسون أن قولة (لا) واحدة صادقة قد تفرغ محاضرهم هذه من مضمونها، بل قد تجعل هذه المحاضر تعمل ضدهم.

 

هذا هو الشاعر الأستاذ عبد الله الحامد يعتقل ثانية مع كوكبة من الدعاة إلى الله، وعلى رأسهم الشيخان سلمان العودة وسفر الحوالي، فهل هذه نهاية المطاف؟!.

 

وأما الصدق الفنيº ففي تماثل - إن لم نقل تطابق - التجربة مع الوصف، ففي وقت ينسحب الأدب العربي إلى دهاليز الغموض والركاكة، وينحسر ليكون مرآة لنفوس ممرورة تلقي بظلها الثقيل على أجهزة الإعلام الرسمي منفردة بجهلها، آمنة من الرد عليها وتزييف عملتها الرديئة المزورةº يسجل الحامد بنزعته الإنسانية البريئة وقع الاعتقال في بلد عاش أهله القرون المتوالية أحراراً لم يجربوا هذا العسف المتحضر الذي يستورده لهم آل سعود مع خططهم في التمدن والتحديث زعموا -.

 

تتداعى موجات هذه التجربة مع رجوع الشاعر من المعتقل وسؤال ابنته له عن سبب غيبته، وأين كان، وأين كانت هذه الغيبة، فأبوها لم يعودهم أن يغيب هذه المدة:

 

تسألني بنيتي: من أين جئت يا أبي؟

 

أكنت في مؤتمر في مشرق ومغرب

 

لكن أباها يتردد في الإجابة مباشرة عن هذا السؤال البريء، ويدرك صعوبة الإجابة، ويشفق من حيرة ابنته إن أجابها جواباً قصيراً: أين كان، ولماذا؟ ولهذا فهو يردها إلى حادثة مزروعة في وعيها حدثت في أمسية من الأمسيات ليبدأ من هناك:

 

إذ جاء رهط مسرعٌ مثل الجراد الأصهب

 

مثل الجراد في الكثرة والخفة وشؤم المنظر

 

فقال: أقبل معنا  إلى كهوف الكُرَبِ

 

وافتح لكل كالحٍ,  يقفز مثل الجندب

 

نعم إن هؤلاء الذين تلتقطهم الأنظمة الظالمة وتختارهم من بيئات معينة، وتعدهم لهذه المهمات المحددة القذرة، فتفرغ قلوبهم من الرحمة، ونفوسهم من النخوة، وتملؤها بدل ذلك بتوجيهاتها المدخولة، وتطمعهم بالشهوات فينتج عن ذلك هذه الجموع الكالحة التي تشمئز منها النفوس الكريمة ولا ترى فيها إلا هذا القبح الذي يتجلى فيمن يدخل بيتك واغلاً، يعيث فيه فساداً:

 

وافتح لكل كالحٍ, يقفز مثل الجندب

 

مفتــشٍ, منقـــبٍ, إلى الأذى منتدب

 

فانتشروا في منزلي كالنار وسط الحطب

 

ونقبوا في غرف  وصالة ومكتب

 

عن فتنة مخبوءة  وعن سلاح مختبي

 

فغرفة المنام لم  تسلم من المنقِّب

 

ملابس النساء لم تنجُ ولا درج الصبي!

 

يستغرب الشاعر أن تفتش ملابس النساء، فهذا مالم يَدُر له في خَلَد، فلئن حدث هذا في العراق وسورية ومصر وليبيا - هذه الأنظمة التي انتهكت كل حرمة في سبيل بقائها على رقاب المسلمين - فقد كان مستبعداً على الحكم الذي يطبق عقيدة رب العزة والجلال، ويطبق حكم الكتاب والسنة ولا يحيد عنه قيد شعرة تطبيقاً كاملاً شاملاً (!!) أن يسلك سبيل هذه الأنظمة الديكتاتورية فاقدة الشرعية، ولذلك فإن الشاعر يصرخ - وقد كاد يقضي من العجب - أي أعراف تبيح انتهاك حرمة المساكن، وأي إسلام يقره؟.

 

ولا تغادر الشاعر روح النكتة وهو يسترجع ما فعله هؤلاء في المكتبة وما فيها من معدات وكتب وأوراق، حيث بعثروا الأوراق وصادروا الآلات:

 

فآلة التصوير قد حَطَّت بظهر (البَكَبِ) [1] وينفخ الحياة في آلة الفاكس

 

و (الفكس) لفّ شاكياً  من أسره في المركب

 

قد زعموه - ويحه -  مراسلاً للأجنبي

 

وبعد أن أنهوا التفتيش ماذا وجدوا وماذا أخذوا؟

 

وصادروا قصائداً  تَهُزٌّ نوم العرب

 

وصادروا صحائفاً مشرقة كالشهب

 

من كل فكرٍ, مصلحٍ, مؤجِّجٍ, مهذّب

 

ولكن ما المسوغ لمصادرة هذه القصائد والصحف التي لا تحتوي إلا كل خير؟ الجواب:

 

كأنـــها مخــــدرٌ  في علب مجتلب

 

كأنــــها زندقـــــة تفسد أهل المذهب

 

نعم، إن العلم والفكر يحارَب الآن مثل المخدرات بل أشد، وهاهم تجار المخدرات يتسنمون أعلى المناصب في بلادنا المنكوبة ويتربعون على مصادر الثروة ويقيمون العلاقات على كافة المستويات، بينما العلماء والمصلحون وأصحاب الأفكار يعيشون مضيقاً عليهم في بلادهمº إما في غياهب السجون والمعتقلات، وإما في المنافي تلاحقهم لعنة الأنظمة التي شردتهم أينما ذهبوا.

 

إذا كتب لك أن تدخل الزنزانة - وهي المكان المفضل لمن يجرؤ على التفكير والكلام - فإن دنياك ستختصر إلى هذا المكان الضيق الذي أُعد ليذكر الإنسان بعدم جدارته بوصف الإنسانية، وليعيده إلى ما يجب أن يكون عليه في نظر من يحكموهº مخلوقاً يأكل ما يقدم له، لا ما يختار، ويفكر ضمن الخط المرسوم لا يسمح له بالخروج عليه ولو لحظة، فهذه الزنزانة هي المسجد، وهي المرقد، وهي المطعم، وهي المشرب، وهي المجلس، وهي المرحاض!

 

كم مسجد ومرقد ومطعم ومشرب

 

ومجلس وموطن  لحاجة وملعب

 

في غرفة منحوتةٍ, في جبل من رهب

 

وهذه الصحراء الواسعة الشاسعة التي كانت من قديم الزمان موطناً ومراداً مفصلاً على قدِّ هذا العربي الأبيّ، وعاش فيها - جيلاً بعد جيل - مرفوع الرأس، ليس لأحد عليه سلطان، إلا خالقه... حتى هذه الصحراء يراها اليوم تضيق به، وتسحب من تحت قدميه لتقام عليها القواعد العسكرية الأجنبية الهائلة، ذات الأبنية الضخمة، والمخازن التي تخزن فيها أسلحة الدمار المعد للعرب في جزيرتهم وللمسلمين في ديارهم إذا هم حدثتهم نفوسهم بالتململ من سلطان هؤلاء المستعمرين:

 

كأنما الأمتار في صحرائنا من ذهب

 

كأنما الإنسان في صحرائنا من تَبَبِ

 

أو أنه دواجن في قفص من قصب

 

زنزانـــة ضيقـة كجحر ضبٍ, خربِ

 

مفـردة كأنهـا مربض وحش أجرب

 

ذات جدار أملسٍ,  ممردٍ, منسكب

 

لو صعد النمل به لارتد واهي العَقَبِ

 

......................................

 

نهارهـا كليلها داج كوجه العقرب

 

فالشمس غابت مثلما غاب ضياء الكوكب

 

معَفَّـنٌ هواؤها كمربَط للأكلبُ!

 

فلا تهب نسمة من الهواء الطيب

 

ولا ترى عين بها نور الفضاء الأرحب

 

ويفيدنا الشاعر أن الزنزانات في سجون السعوديين فيها نوع تطور عن زنازين إخوانهم البعثيين في سورية والعراق والفراعنة حكام مصر، وهذا التقدم - مع طرافته - إلا أنه يتفق مع البحبوحة، وعلامة من علامات \"الرخاء والرفاه\" الذي لا يفتأ آل سعود يذكرون شعبهم به، ويمنون به عليه، ويعتبرونه باعث حسدٍ, لقوى خارجية همها تعكير مجتمعهم وبث الفتنة في صفوفه! ويتفق أيضاً مع عقدة النقص التي تتحكم بعقلية هؤلاء الحكام فتدفعهم مثلاً إلى بناء أكبر مطار في الشرق الأوسط، وأكبر مستشفى في الشرق الأوسط، و...، فلماذا لا يكون عندهم أحدث سجن في الشرق الأوسط!

 

في السقف عين شاشة دائمة مُثَقِّبِ

 

تدك كل خفقة  بمسمع مثقب

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply