حين نتحدث عن ظاهرة ((الغموض في الأدب الحديث - أسبابه وآثاره)) ينبغي أن نتذكر في البدء جملة من الحقائق التي نص عليها نقادنا القدامى، حتى نكون على بينة ونحن نتناول هذا الموضوع الذي كثر الخلط فيهºومن هذه الحقائق:
أولاً: أنّ نقادنا القدامى قد اهتموا بالمعنى، وأولوه عنايتهم، وعدوه الغاية التي يريدها المتكلم من كلامهº ولأجل هذا امتدحوا الأديب الذي يصيب معناه بدقة، ويبلغ في ذلك الغاية، كما أنهم عدوا وضوح المعنى، وإصابة الأديب لغايته من أسباب جودة الكلام، ومن عوامل قبول المتلقي له، بل أصبح ذلك عندهم مقياساً من مقاييس نقد الأدب. فالأديب الواعي حين يبدع أدبه لا يقول لنفسه، وإنما لكي يسمع الآخرين بعض ما عنده من نتاج الموهبة التي غرسها الله فيه، وهو حين يخالف هذا المبدأ يحكم على نفسه بالعزلة، ويرضى لموهبته أن تتلاشى وتضعف حتى تموتº لأنه قد أقام الحواجز بينه وبين قارئ أدبه. وما أجمل ما قاله \"ابن سنان الخفاجي \" في رده على \"إبراهيم الصابي\" الذي يرى أن حسن الشعر في غموضه، حيث يقول: (إن الكلام غير مقصود في نفسه، وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم، ويفهموا المعاني التي في نفوسهم، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني، ولا موضحة لها، فقد رفض الغرض في أصل الكلام، وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع ويجعل حده كليلاً، ويعمل وعاء لماء يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروقاً تذهب ما يوعي فيه، فإن هذا مما لا يعتمده عاقل، ثم لا يخلوا أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه، فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه، وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه))أهـ.
ثانياً: أنه قد رفضوا الغموض والتعمية، وعابوا من وقع في ذلك من الشعراء، وامتدحوا- في المقابل من نزه شعره عن ذلك، فقد كان \"عمر بن الخطاب\" رضى الله عنه يقدم زهيرا ًعلى غيره من الشعراء لعدة أسباب من بينها \"أنه كان لا يعاظل في الكلام \"، أي لا يداخل بعضه في بعض.
كما عاب النقاد قديماً أبا تمام في بعض أبيات من شعرهºبسبب ما فيها من تعقيد وغموض جنى على المعنى. والفرق لو تأملنا- كبير بين غموض \"أبي تمام \"الناتج عن إغراقه في طلب الصورة النادرة، أو تكلفة في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات وهو مع ذلك صاحب الأدب الهادف والمعاني الفريدة وبين الغموض عند بعض الشعراء المحدثين الذي يكون إما نتيجة لضعف تكوينهم، أو لعبثية يهدفون من خلالها إلى هدم تراث هذه الأمة أو نشر فكر منحرف لا يستطيعون ترويجه بغير هذه الطريقة.
ثالثاً: أن القدماء من النقاد قد فرقوا بين أمرين يخلط بينهما كثير من الأدباء المحدثين، ولا يفهمونها على حقيقتهماº
أحدهما: وضوح المعنى الذي جعله النقاد سببا من أسباب صفاء الأسلوب وجودته.
والثاني: كون المعنى لطيفا ومستوراً لا يصل إليه المتلقي إلا بعد شيء من التأمل الهادئ الذي يعمق المعنى بعد وصوله- في النفس، ويجعله أشد وقعا، وأبلغ تأثيرا. وقد فصل بعض نقاد العرب القول في ذلك، وأبانوا أن الوصول إلى المعنى بعد الطلب والبحث لا يعني أن يكون الكلام معقد لا يبين عن معناه، وإنما يعني أن المعنى نفسه طريف غير مبتذل، وهو لذلك يحتاج إلى التريث في فهمه، والتمهل لإدراكه، وذلك لا ينافي أن يكون الكلام واضح الدلالة على معناه، أما التعقيد فإنه يتطلب جهدا شاقا ًفي الوصول إلى المعنى، من غير أن يكافئ المعنى شدة البحث عنه، ويكون عناء القارئ لا في فهم المعنى وإدراك أسراره، ولكن في سبيل الوصول إلى المعنى، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئا. وخير من جلى هذا الأمر وأبان أسراره \" عبد القاهر الجرجاني \"حيث يقول: \" من المركوز في الطبع أن الشيء إذ نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضنّ وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ،.... فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضا مشرفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما على الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعكº فالجواب أني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: ((فإن المسك بعض دم الغزال)).
وقول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
تلك بعض آراء نقادنا القدامى في هذا الجانب، أردت أن تكون مدخلا لما يأتي بعدها من حديث.
وحين أعود للحديث عن لب موضوع: \" الغموض في الأدب الحديث- أسبابه وآثاره-\" أقول: ينبغي أولاً ألا نهول من شأن هذا الأمر، ونعمم الحكم فيه، ونجعله قضية بارزة في الأدب الحديث، فهذا الغموض ليس عاما في جميع ألوان الأدب، بل هو أظهر ما يكون في الشعرºثم إن هذا الغموض من وجهة نظري إنما وجد عند طائفة من الشعراء الذين أسهمت بعض المنابر الثقافية والملاحق الأدبية، كما أسهم بعض النقاد في تلميع صورتهم ونشر نتاجهمº وهم أولئك الذين تعمدوا الغموض في أدبهم، على اختلاف بينهم في المقاصد- كما سأبين فيما بعد- أما أولئك الذين جعلوا لأدبهم وظيفة سامية، وألزموه بلوغ غاية نبيلة، فإن القارئ لا يتعب في سبيل الوصول إلى مقاصدهم، والبلوغ إلى دلالات معانيهم، وما أكثرهم ولله الحمد-º لأن هدفهم الأول الوصول إلى المتلقي والتأثير فيه، فلا يمكن أن يقيموا في طريق الوصول إلى هذه الغاية ما يكون سببا في عدم بلوغها.
وحين نريد أن نتعرف على أولئك الأدباء الذين ألفوا الغموض وألبسوا أدبهم ثوبه، فإنهم من وجهة نظري على ثلاث فئات:
1- فئة سلمت نواياهم، ولكنهم أساءوا فهم المقصود بـ\" فنية الأدب\"، وما عناه النقاد بدعوتهم إلى أدب يتميز بالعمق في التصوير، والسمو في الخيال، وعدم المباشرة في التناول فذهبوا يغرقون في طلب تلك الفنية إلى الحد الذي جعلهم يضيعون المعنى الذي هو مدار الأدب وعمدة القول. ولهؤلاء أقول: عودوا إلى تأمل ما قاله نقادنا القدامى في ذلك، واعلموا أن الغاية من الأدب هي التعبير عن معنى رفيع في قالب أدب بديعºوالتلازم بين الأمرين ظاهر، وطغيان أحد الأمرين يعني ضياع الآخر، أو عدم إيفائه حقه.
وأقول لهم كذلك: رب بيت من الشعر سهل العبارة واضح المعالم غير مغرق في الصور والخيال والمجازات والاستعارات لكنه أبلغ من غيرهºلأن قائله قد أصاب به معنى لطيفا، حين أحسن تخير ألفاظ بيته، وأجاد تركيبها وبناءها، وحين ضم كل لفظة إلى قرينتها التي تلائمها، وأعطى المعنى ما يستحقه من الألفاظ.
2- وفئة أرادت أن تسلق ظهر الأدب، وطمعت في رقي سلمه الرفيع، لكنها لا تملك موهبة مبدعة متمكنة ترفع من قدرها، ولا تستند إلى أدوات تعينها على بلوغ غايتها.
وأصحاب هذه الفئة يلجئون فيما يقولون- إلى صف الكلمات، وحشو العبارات بمعاني جوفاء لا طائل من ورائها، فيلفونه بثوب الغموض، ويكفنونها في عباءة الطلاسم، ولا يدفعهم إلى ذلك إلا عجزهم عن إيضاح فكرة، أو خدمة هدف، فغايتهم أن يسموا أدباء، وأن يكتبوا وينتشروا ويشتهروا.
وإنك لتقف أمام ما يكتبه هؤلاء عاجزا عن فك رموزه، وتفسير ما ينغلق على ذهنك من ألفاظه، وليس ذلك بسبب قصور في فهمك، أو عجز في أدواتك الاستقرائية، وإنما بسبب خلو كلامهم من معنى واضح، فليس ذلك في حسبانهم، وبسبب انعدام العلاقات الرابطة بين عباراتهم وأفكارهمº وهم على كل حال يسهمون في انحطاط مستوى الكلمة ويعكسون صورة سيئة للأدب.
ولهؤلاء نقول: اتركوا الأدب لأهله، أو أعيدوا النظر فيما تكتبون واعملوا على بناء ثقافتكم الأدبية من جديد، حتى تصلوا إلى المستوى المأمول.
3- وفئة جعلت الغموض غاية في حد ذاته، بل هو الغاية التي تحقق غايات أكبر، وهم أولئك الذين تنطوي نفوسهم على كثير من النوايا السيئة والأفكار الضالة التي تظهر بين الحين والآخر للمتأمل الفطن في أدبهم، وهؤلاء يفرطون في اللجوء إلى أسلوب الغموض، حرصا منهم على ستر طرف من أفكارهم وإظهار جزء منها عن طريق اللمح والإشارة، حتى يأتي الوقت المناسب للتعبير عن مقاصدهم بكل وضوح.
وحين أنظر فيما يكتبه هؤلاء أتذكر قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
إن الأديب أسير مبدئه ومنهجه، وإن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها هي التي تسيّر أدبه، وتحدد له طريقة، فمتى كان هدف الأديب نبيلا فإنه لا يجد غضاضة في التعبير عن كل خوالج نفسه: بل إنه سيسعى إلى بلوغ الغاية في ذلك.
وأما أصحاب الأهداف المشبوهة فإن الاضطراب الذي تموج به نفوسهم، والحيرة التي تعتريهم حين يردون مصادمة الثوابت والقيم التي بنى عليها المجتمع المسلم- إن ذلك يدفعهم إلى أن يغرقوا في بحر الغموض سواء أكان ذلك من باب ستر مالا يجرءون على التصريح به، أم من باب أن الغموض في حد ذاته يعد هدما وعبثا وتعطيلا لملكات إبداعية أخرى، ومزاحمة لغيرهم ممن يقدرون أمانة الكلمة، ويعرفون قيمة الأدب، ويحترمون وظيفته، وبخاصة في ظل توافر مساحات للنشر ترحب بهذا الغثاء.
وأما هذه الفئة أرى أن على المنصفين وذوي الرؤية الإسلامية من نقادنا واجبا كبيرا في التصدي لهؤلاء، وكشف عوارهم، وفضح ما يخفونه تحت رموزهم، وعليهم أن يسعوا إلى نقد كل ما تقع أعينهم عليه، وعلى المبدعين الأصلاء واجب كذلك، يتمثل في إعلاء شأن الأدب الأصيل، والسعي إلى إبرازه ونشره بشتى الوسائل، حتى لا يكون لهذا الغثاء من أثر، وكما هو معلوم فإنه لن يصح إلا الصحيح، وإن الحسن لدال على نفسه.
بقي أن أقول في ختام كلامي: إن للغموض المذموم مظاهر وعلامات يمكن أن أوجز بعضها فيما يلي: -
- استخدم اللفظة في غير معناه الدقيق الذي تعارف عليه أهل اللغة، والذي وضعت له أصلا.
- استخدام ألفاظ ومصطلحات وتراكيب جديدة مخالفة لأصول اللغة، ولقواعد النحو والاشتقاق.
- بناء الكلام على خلاف القواعد النحوية المشهورة والسعي إلى هدم قواعد هذا العلم الرفيع.
- المداخلة بين أجزاء الكلام، وتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم.
- الاهتمام بالتحسين الفظي على حساب المعاني.
- إطالة الفصل بين أركان الكلام وعدم الحرص على بلوغ فكرة معينة في عبارة محددة، إلى الحد الذي يجعل القارئ يضيع بين السطور وهو يريد أن يظفر بمعنى.
- استخدام بعض المصطلحات والدلالات التعبيرية التي يتعارف عليها أرباب الغموض في محيطهم الضيق، وهي مفهومة بينهم، وغير معروفة عند غيرهم من المثقفين.
- إسقاط بعض الرموز الإغريقية والوثنية على النص الأدبي، وتوظيفها لخدمة فكرة خبيثة.
هذه بعض الخواطر السريعة التي أردت أن أسهم بها في هذه القضية، ولولا ضيق المساحة المحددة لدلت على هذه الظاهرة ببعض الشواهد التي تكشف لنا حقيقة ما سبقت الإشارة إليه.
والله الهادي إلى سواء السبيل
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد