الحلو


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مذ فتحت عيني على هذه الحياة، رأيته يكدح ويشقى.. كل يوم يذهب إلى عمله في الصباح الباكر، ولا يرجع إلا في آخر النهار. نعم يرجع وقد هدّه التعب.. يشهد على ذلك ثيابه التي علقت بها آثار الطين والأسمنت اللذين كان يعمل بهما، وشماغه الذي يلف به رأسه، ومشيته التي كان يتهادى من خلالها... لكن الابتسامة لم تكن تفارق ثغره مع كل هذا.

حينما يدخل بيته، أو يتلقى الناس في الطريق حيث كان.. يبدؤهم بالسلام.

 كان الجميع يحبونه ويحترمونه حتى كانوا يلقبونه (بالحلو) لحسن طلعته، وجمال كلامه..

 وإذا ما أرادوا أن يشيدوا لأنفسهم بيتا يقطنونه، كانوا يتسابقون إليه لبيني لهم ذلك العش، فقد كان إلى جانب تلك الصفات الخُلُقية التي يتمتع بها، والتي تحببه إلى الناس متقناً لعمله، فبناؤه لا يماثله بناء في البلدة، وعمله لا يجاريه عمل.

أما في بيته، فحدّث عنه ولا حرج..

 فقد كان يتعامل مع زوجه وأولاده أجمل تعامل، فلا صخب، ولا صياح، ولا بذاءة في القول، ولا تجهم، ولا عبوس.. علماً أنه ما دخلَ مدرسة قط، ولا تعلّم في الكتاتيب، إنما تعلم في مدرسة أبيه، الذي كان يحثه على الأكل من الحلال، والسير على نهج المصطفى - عليه الصلاة والسلام -.

كان له أربعة أولاد.. لم يكن يطلب منهم إلا شيئا واحداً، هو السير في طريق العلم... وكأنه يريد أن يعوض بهم ما فاته... وها هم يحققون حلم أبيهم، الذي طالما يمني نفسه به فيتخرَّج اثنان منهم من الجامعة ليكونا معلمين، والآخران من الكليات العسكرية ليكونا ضابطين، وتقر عيناه بهم، ويكثر لهم من الدعاء، ويوجههم في كل مرة يلتقي بهم بتقوى الله..

ولكن..

 إذا ترعرع الولد تزعزع الوالد..

 فها هي سنه قد كبرت.. ووهن العظم منه.. واشتعل الرأس شيباًََ، لكن همته بقيت قوية، فما كان ليعتمد على أولاده في معيشته، ولا ليطلب منهم شيئاً. وكم يُسَرٌّ عندما يراهم متحلقين حوله، وحول أمهم كل مساء، يتجاذبون أطراف الحديث.

وكثيراً ما كان يقص عليهم ما جرى معه من أحداث عبر السنين الطوال التي عاشها، ويستمتع الأبناء الأربعة بحديث أبيهم، وقد يطلبون منه في بعض الأحيان أن يعيد لهم قصة رواها، فيعيدها بثوب جديد، يشد انتباههم، ويبعد عنهم الملل وكأنه معلم ماهر..

وهاهو يدب إلى الستين ونيف من عمره، ويشفق الأبناء على أبيهم، ويطلبون منه أن يتفرغ للعبادة، ويكفونه مؤونة العيش، عارض في البداية، لكنه في نهاية الأمر نزل عند رغبة أبنائه..

لم يجلس في البيت هذه المرة، كحال الكثيرين..

لقد جعل المسجد بيته، وأصبح مؤذناً في مسجد قريب من بيته، وكم كان فرحاً بهذا العمل، الذي بقي فيه أكثر من عشر سنوات..

في هذه الفترة كتب الله له الحج مع زوجه إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وقد كانت هذه الرحلة رحلة العمر، فما كان يأتيه زائر إلا ويحدثه عنها بأسلوبه الشيق، الذي يجعله يعيش الروحانية التي عاشها في تلك الديار...

ويبدأ المرض يأخذ من (أبي علي) كلَّ مأخذ، فيمنعه الذهاب إلى المسجد الذي كان قد التصق به.. ويذرف الدمع كلما سمع صوت المؤذن ينادي.. وهو لا يستطيع الإجابة.. ويبقى المرض يدب في أوصاله مدة عشر سنين أخرى، أمضاها على سريره الخشبي في ذلك البيت الطيني الذي بناه لنفسه أيام شبابه.. لكنه كعادته لم يستسلم.. فقد كان دائم الذكر لله - سبحانه وتعالى - ، مقيماً للصلاة في وقتها، كثير القراءة لكتاب الله الذي تعلمه من أحد أقاربه، عندما كان مؤذناً إلى أن وافاه أجله وهو يرفع سبابته بشهادة التوحيد (لا إله إلا الله).

أتدرون أيها السادة من هذا الذي حدثتكم عنه؟!

إنه والدي الذي فاضت روحه ولم أكن بجانبه...

 وما أقسى أن يفقد الإنسان أباه أو أمه وهو بعيد عنهما..

لكن.. أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يجمعني به في مستقر رحمته.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply