لماذا؟
هزه السؤال بالقدر الذي هزه ما رأى.
كان قد أفاق بعد ليلة مضطربة تخللها ألم فظيع في مقدمة رأسه. أنبأته المرآة أن ثمة ورم يتنامى فوق العينين على الجبين. لم يتوقع أن سيكون للصداع الذي أخذ يعاوده في الأشهر الأخيرة بصورة متقطعة، ثم ينسل تاركًا رأسه كمنشفة قذرة عصرها حتى جفت، واشتد ليلة البارحة لم يتوقع أن سيكون له هذا الأثر.
الصور السريعة التي عرضها دماغه قالت له إنه هجر كل ما يذكره بحي\"أبي الشوارب\"الطافح بصفائح القمامة، واللحى الطويلة، والجلابيب النسائية، والمخمورين الذين افترشوا قيأهم في الشوارع والأزقة المعتمة، وقالت إنه ترك للناس الذين يسألونه ليل نهار\"كيف حالك؟\"ظهرا لئيمًا. وإنه انتقل للعيش في\"مرآة الغرب\"الحي الجاثم على صدر المدينة، حيث صار يؤمن كأهل المرآة أن\"كثر السلام يقلل المعرفة\". و أكدت له أن انتقاله كان بإلحاح من زوجته موظفة البنك الجميلة التي قالت له إن مستقبلها كمديرة فرع مرهون بترك\"الشوارب\"، بل وأردفت بابتسامة غامضة- وهي تشير إلى شاربيه:\"ونتفها إن أمكن\".
ولم تخف الصور أنه مع انتقاله من الحي حلق شاربيه. وأن دفتر الهاتف امتلأ بأسماء معارف له ولزوجته في فترة لم تزد عن توقف نقاط المطر وبداية سقوط أوراق الشجر. وأن المعارف أمطرته بعروض للعمل في فنادق ومطاعم وملاهٍ, وبنوك وشركات.. لكنها لم تقل لماذا أجمعوا كلهم على وظيفة مدير علاقات عامة، أتاحت له فقط أن يفهم أن الأيام التي كان فيها كفأر يبحث في زوايا بيت خرب عن قطعة خبز جافة قد أعطته ذيلها.
وابتسم لنفسه ببلاهة وهو يتذكر أن البيت صار مع دفء الجيب محطة حافلات له و\"لابتسام\"زوجته، و\"مرمر\"ابنته. وعادت الصور لتقول أيضًا إن مصروف ابنته صار يقاس على مؤشر\"نيكيه\"، و صارت لا تعود الى البيت قبل الفجر، وإنه تساءل كثيراً عن سر الإرهاق الذي تعاني منه، و\"كرمشة\"ملابسها مع أنه يدفع للمصبغة ثمنًا باهظًا لكيّها، وإزالة البقع العنيدة عنها. وذكرته أن ابتسامة قزحية كانت تعلو شفتيه حين يرى ابنته تأتي بصديقها إلى البيت وتعرفه عليهم، وجعلته يشعر بأنه أصبح كأي حجر راسخ من حجارة\"مرآة الغرب\"، ورغم أنه في المرة الأولى التي رأى يد زميلها على خصرها شعر بشيء ما يتلوى في أمعائهº إلا أن احتجاجه انقطع حين أفهمته زوجته وابنته أنهم خرجوا من ظلمات حي\"أبي الشوارب\"القديم إلى نور الحي الجديد، وأن جميع من حولهم طيور سرب واحد. وأنه هو نفسه يستقبل في البيت زميلاته في العمل. وزادت قناعته حين أشار إليه العجوز الذي يقطن الفيلا المقابلة من على الشرفة بأن يشاركه فنجان قهوة. ووافق لأنه الطلب الوحيد الذي جاءه من ساكن في\"المرآة\". قال له العجوز إنه حيثما لوى عنقه سيجد من هم مثله. قال له: إن الحياة مملة وإن السهر والمرح والتمتع بَلسمٌ لعضات النهار. وقال أيضاً: إن عليه أن يشرب أحيانا لينام ذلك النزيل الهرم في أحشائه. وبعدها تَفَهّم أن تغير لباس زوجته الذي أصبح يعاني من التقشف في مناطق كثيرة-و بالقرب من بعض الزوايا- ضرورة من ضرورات عملها ومستقبلها المهنيº بل كان يشعر أنها في\"مرآة الغرب\"تبدو متزمتة وشديدة الاحتشام قياسًا لما يرى. و أغمض عينيه كي لا يرى آثار لمسات \"الكوافير\" على شعرها ووجهها وعنقها، بل إنه وجد نفسه صديقًا للكوافير الذي أخذ يسدي إليه بالنصائح حول شعر أنفه الذي ينمو بسرعة.
تذكر ذلك حين صار مألوفًا له خروج ابتسام زوجته دون أن تقول إلى أين، ودخولها دون أن تقول من أينº فالبنك والمستقبل كما قالت له في أكثر من مناسبة لا يرحمان، ولم تفته العبارة الجازمة التي رشقته بها:\"المنافسة حامية\"، وود لو يعرف علام يتنافس هؤلاء الناس، ولكنه اقتنع بأن عليه ألا\"يقفو ما ليس له به علم\"º فصار كحصان السباق يركض في كل أنحاء البيت ليقول لها: إن هناك رجلا على الخط قال له:\"كيفك؟ هات ابتسام من عندك\"دون أن يسأل من هذا الرجلº فاختلاف الصوت في كل مرة كان يعني بالنسبة إليه عدم جدوى السؤال، لكن اللهجة التي توحي بأن المتحدث يعرفه تمامًا كانت تجعله يُعلّق بقلب بللته السعادة\"زملاؤك في العمل ودودون جدًا\". وإنه لم يشعر بالحاجة لأن يسال في الأيام الأخيرة لماذا تطلب منه أن يرد على الهاتف ليقول:\"تقول إنها مشغولة اليوم\". وإنه شعر بالامتنان حين قالت له يومًا أن يرد:\"تقول لك إن زوجي يشعر بالضيق من المكالمات التي تأتي للبيت\".
لكن ليلة الأمس أعادت إليه صورته وهو جالس يأكله حنين لا يدرك ملامحه\"لأبي الشوارب\"، وينتظر أن تأتي زوجته بعد قليل. وحلم بعشاء يجمعهما وابنته التي سيسعده أن تعود مبكرة وتنتبه لبعض دروسها. وحين انقضى على جلوسه ما يقرب من ثلاث ساعات أحس بالنعاس، فصعد إلى غرفة النومº فوجد زوجته مع رجل مألوف الوجه، وسمع ضحكات ابنته من غرفتها تخالط سعال رجل غرق في الضحك أيضًا.
وذكره النتوءان الآخذان بالبروز والتصلب والانتصاب في جبينه أنه فقط اعتذر لابتسام والرجل ذي الوجه المألوف، وأنه عاد إلى الأريكة ونام ليلة مضطربة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد