ماذا تبقّى من ذلك الخوف، القديم.. الصغير؟
* وماذا، تراكم في «سحّارته».. العميقة، المظلمة، من خوف جديد، خلال المشوار الطويل، وما الذي تبدد منه أو اختفى؟
* كانت، هناك، البئر المظلمة، المخيفة، التابعة، في الركن البعيد، من الرّدهة الطويلة، الرطبة. وفي جوف، الظلمة الحالكة، والصمت الرهيب، كانت تتساقط، أحيانا، قطع من جدار البئر، وترتطم بسطح الماء، الغائر، البعيد، فيسمع الصوت، والصدى، مضخماً، ويتخيل مخلوقات غريبة، وحشرات مفترسة، وزواحف شرهة، تشحذ أنيابها، وتمد مخالبها، بحثا عن جسد، طفل، غضٍّ,، صغير، وكان يركض لاهثاً، ويقفز عتبات السلّم، كحيوان (الكنغارو)، ويعض على أطراف ثوبه، تتسارع ضربات قلبه، ويجف ريقه، حتى إذا وصل، الطابق، الأعلى، حيث الضوء، والأهل، والضوضاء المطمئنة، استراح قليلاً عند العتبة الأخيرة، ليلتقط بعض أنفاسه ويُلملم شيئا من اضطرابه، وخوفه، فلا يثير، ضحك الكبار، المتربصين.
* وكان هناك، الليل، حين ينزل على تلك الحارة الضيقة، التي كانت تبدو، كثقب أسود، تشقق عنه النهار الراحل. (أتاريك) البلدية، كانت منصوبة على الأعمدة الخشبية، منذ ما قبل الغروب، كانت تشخر صوتاً، فحيحاً، وكانت، تُصدر، ضوءاً، مضطرباً ضنيناً. ولكنها، كانت تبدد كثيرا من وحشة الظلمة المخيفة. ومع ذلك فكان، ضوء، كل (إتريك) يصل إلى مدى محدود، على امتداد، الزقاق، الطويل. وبين، مناطق أضواء (الأتاريك) المتعاقبة، تكمن فجوات من الظلام، عند المنعطفات، أحياناً، وعلى، بوابة، ذلك المنزل المهجور، أحيانا أخرى، وفي ذلك الركن القصي، الذي يختاره (مجذوب) الحارة الشهير، في معظم الأحيان. تبدو (الحارة) على ضوء (الأتاريك) المتتالية، والفجوات المظلمة بين مناطق الضوء، كثعبان، أرقط، يتلوى، لكي ينهش، بأنيابه، تلك الأقدام الصغيرة، الراكضة.
وكانت، هناك، الخرابة، المهجورة، إلى، جانب (الفرن) البلدي. يتحدثون في أمسياتهم، عن، ساكنيها، من العفاريت، واللاجئين إليها من الإنس، المتشردين، أو الهاربين المختبئين. وكانت نوافذها المتآكلة، وجدرانها المتساقطة، وأكوام الحطب، والأتربة، في جنباتها، تبدو، في الظلام، عيونا متناثرة، وأفواها مفتوحة، وقبضات ممدودة، توشك أن تنقض على العابرين بها، خاصة تلك المخلوقات الصغيرة التي تمرٌّ وجلة متعثرة وراجفة.
* وكان هناك، ذلك الكلب، المتشرد، المتربص، اللاهث، المتفرغ، لإرهاب المارة، عند مدخل الحارة. وكان، أكثر إفزاعاً عندما يكمن في الظلام، تسمع لهاثه، وشخيره، ولا تراه، ولكنه، لا يلبث، أن ينبح مزمجراً كأنما يقصد إيقاع المفاجأة المرعبة بطريقة مسرحية مؤثرة.
* وكان هناك فتوة المدرسة، اللئيم، الذي يسرق، الأقلام، والدفاتر، ويستولى على الطعام، والحلوى، ويتربص، عند الانصراف من المدرسة، ليزعج السلام، ويفتعل الخصام.
* وكان هناك، الفأر، الذي يقرض الأسنان، إذا أسرفت في أكل الحلوى والفول، الذي يلتهم الأطفال الذين لا يسمعون الكلام، والسحلية العرجاء المتنكرة في هيئة امرأة عجوز، تعاقب، البنات، البالغات، اللواتي، لا يغطين وجوههن.
* ذلك، كان، الخوف، الصغير، القديم، وتلك، كانت المخاوف، الساذجة، البريئة، نتذكرها، فنضحك منها، ونتعجب.
* ماذا ألقى الطفل الصغير منها، وتخلى عنها، وهو يركض، في طرقات الحياة، ويخوض عراكها، وأي خوف جديد، برز له في الأودية، العميقة والمنعطفات الغامضة؟ وما مصادر الخوف، في عوالم الكبار الراشدين؟ وهل تختلف حقا عن تلك المخاوف الصغيرة أم هي ذات المخاوف القديمة، وتتشكل، وتتخفى، وتظهر، في هيئات مختلفة، وتلبس على وجوهها أقنعة، جديدة، متغيرة؟
* ألا نرى شيئا، من تلك البئر العميقة، المظلمة، المخيفة في نفوس الرجال، المتربصين، الغادرين، الكاذبين الخائنين؟ بل هم آبار، أعمق غورا، وارجف صدى، وأوحش ظلاما.
* وتلك الحارة، الظلماء الرقطاء، بظلمة الفجوات، التي أهملتها أضواء، الأتاريك ألا تشبه، فجاءات الحياة، وامتدادات المجهول الذي يمد لك ساقه ليعرقلك، في وضح النهار، أو ما تظن أنه نهار، واضح الآفاق.
*ألا تتلفت حولك أحيانا، فتلمح مخلوقات شرسة، آسنة، عقور تتربص للناس عند منعطفات الطريق، وتكرس جهدها لإجهاض كل جهد، ونهش كل طازج بريء، وتلويث كل ناصع نظيف؟
* و«فتوات» الحياة، و«زعرانها» و«أبضياتها»، الذين يسرقون الحقوق، ويضايقون، العابرين في طرق الحياة، ويتعدون على الحُرمات، والدماء، والأعراض، والأمن، والاستقرار، أليس فيهم شيء من «فتوة» المدرسة العتيق؟
* قد يكون الخوف القديم، للطفل الصغير، قد رحل وتلاشى ولكن طرقات الحياة ومشاويرها تجعل الإنسان كل يوم في خوف جديد، من ظلمة، ومجهول، ومن نفسه الذي يستعيذ بالله من شرورها، وسيئاتها.
* لذلك، ندعو، ونطلب، السلام، والأمن، والأمان، من خالقنا، الذي، وحده، يؤمّن الخائفين، ويعطي السلام ويمنحنا إن شاء، دار السلام.
* ولذلك أيضا نستعيذ به - سبحانه وتعالى - من الشر فيما خلق، ومن الظلام إذا نزل، ومن المتربصين بالسوء في نفثاتهم ونظراتهم، وخطراتهم، الحاسدة، والحاقدة، ومن الوساوس الخنّاسة، التي تجيش في صدور الناس جميعاً، بما في ذلك، صدورنا نحن، المستعيذين به، حتى، من أنفسنا، الأمارة بالسوء.
* الخوف، موجود، ومستمر، صغيرا، وكبيرا، ولكن الفرق بين الخوف الصغير القديم، والخوف الجديد الكبير، هو في قدرتنا على مواجهته والنظر مباشرة في عينيه، والتحديق فيه، وتوطين النفس على أن نكون، دائماً موصولين، ومعتمدين على الله، الذي هو وحده الأمان الحقيقي لكل الخائفين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد